لم أعرف في البداية من هي تلك الفتاة الأنيقة، رشيقة القوام، التي دخلت إلى قاعة المسرح الكبير بدار الأوبرا رفقة الفنان سامح الصريطي المسؤول في نقابة مهن التمثيل المصرية، لحظات قبل انطلاق حفل افتتاح الدورة 38 لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي. وقد اضطررت أن أنتظر نهاية الحفل لكي أضبط المعلومة، وأعرف أن الأمر يتعلق بابنته إبتهال الصريطي، الفنانة الشابة التي تتقن العديد من اللغات الأجنبية، والتي اشتغلت لفترة من الوقت في مكتب الأممالمتحدةبالقاهرة، قبل أن تقرر احتراف التمثيل والغناء، وتشارك في عدد من الأعمال، من بينها الفيلم السينمائي "فتاة المصنع" الذي أخرجه الراحل محمد خان سنة 2013.
نهضت من الكرسي الذي كنت جالسا فيه، وتقدمت نحو الممر الذي يؤدي إلى خارج القاعة من جهة اليمين، وصوبت كاميرا التصوير نحو سامح الصريطي الذي كان يتأهب لمغادرة القاعة رفقة الفتاة الشابة، وقلت له :"ممكن آخذ لكما صورة أستاذ؟". نظر إلي، فظهرت على وجهه علامات المفاجأة، وصاح :"يا خبر أبيض.. أنت معانا وانا ماعرفش.. دا أنت نورت مصر كلها". الصريطي يسهّل المهمة الدخول إلى قاعات الأوبرا لمشاهدة الأفلام المبرمجة في الأقسام العشرة للمهرجان يقتضي التوفر على تذاكر، يحصل عليها المدعوون الرسميون والصحافيون مجانا بعد الإدلاء ببطاقة الاعتماد التي يتم تسلمها من مكتب مكلف بهذا الغرض. وبما أنه لا يمكن لأيّ كان، مهما كانت قوة إدمانه على السينما، أن يشاهد أكثر من أربعة عروض في اليوم، فإنه من الطبيعي أن يقوم كل شخص بتحديد الأفلام التي يرغب في مشاهدتها، وضبط مواعيدها مع مواعيده الشخصية، حتى يمكن أن يتوفر لديه بعض الوقت لإنجاز مهام أخرى.. ومن بين المهام الأساسية التي كان من الضروري أن أنجزها في اليوم الثاني، هي المشاركة في تقديم العزاء لأفراد عائلة الممثل الراحل محمود عبد العزيز، وهي مهمة بدت أنها ستكون متيسرة جدا، بعدما اقترح علي سامح الصريطي أن أرافقه فيها.
في حوالي الساعة السابعة مساء بتوقيت القاهرة من يوم الأربعاء، اتصل بي سامح الصريطي، وأخبرني بأنه سيكون بعد حوالي عشر دقائق في بوابة الفندق، لكي يأخذني معه إلى العزاء، وهو في طريق عودته من تظاهرة ثقافية نُظمت بعد الزوال بمناسبة الاحتفال بيوم التسامح العالمي، وتم فيها تكريم مجموعة من الأسماء الفنية والرياضية والثقافية، من بينهم أشرف زكي رئيس نقابة المهن التمثيلية في مصر.. خرجت من الفندق، ووقفت قبالة البوابة في شارع الموسيقار محمد عبد الوهاب على نهر النيل، وما هي إلا لحظات قليلة حتى توقفت أمامي سيارة سامح. عشرات الآلاف من الفنانين والمواطنين يقدمون العزاء عزاء الفنان الراحل محمود عبدالعزيز كان في مسجد الشرطة، بمنطقة الشيخ زايد، الواقعة في مدينة 6 أكتوبر، التي تبعد بحوالي ساعة عن وسط مدينة القاهرة، عبر كوبري محور 26 يوليو. عند وصولنا إلى ساحة المسجد وجدنا عددا كبيرا من رجال الأمن ينظمون عملية ركن السيارات، وهي العملية التي كانت تتخللها بعض الصعوبات بسبب العدد الهائل من الناس الذين كانوا يتوافدون لتقديم العزاء. سأل سامح الصريطي أحد رجال الأمن عن أسهل طريقة لإيجاد مكان لركن سيارته رباعية الدفع، فطلب منه أن يتبعه، إلى أن وجد له مكانا. في طريقنا نحو قاعة العزاء، التقى سامح الصريطي ب "بابا الكنيسة الكاثوليكية". سلم عليه بحرارة، وتبادلا بعض الكلام حول موضوع التنسيق بينهما لتنظيم تأبين مشترك للراحل.. بعد ذلك تابعنا الطريق، لنجد أنفسنا أمام طابور طويل جدا من المعزّين، يفضي إلى قاعة كبيرة اسمها "قاعة الرزاق"، مكتوب على يمينها عبارة "عزاء الفنان المرحوم محمود عبد العزيز"، وعلى يمينها باقة ورود كبيرة فوقها عبارة "من محمود عباس بأرض فلسطين، إلى روح الفنان الكبير محمود عبد العزيز".. عند الوصول إلى باب القاعة عبر طابور الحشود، وجدنا كريم ومحمد، ابني الراحل محمود عبد العزيز في مقدمة مستقبلي وفود المُعزين.. قمت بواجب التعزية، بعد أن عرفت ابني الفقيد على نفسي، وأبلغتهما مشاعر الحزن التي تهيمن على المغاربة بسبب هذا الفقدان الجلل، قبل أن أتبع سامح الصريطي إلى داخل القاعة الكبيرة التي يجلس فيها المُعزّون فوق كراس محيطة بطاولات فوقها قارورات مياه معدنية، وهم يتابعون بخشوع ما يتلوه مقرئ من آيات قرآنية.. عدد الفنانين الذين كانوا موجودين في القاعة كبير جدا.. النجوم والمشاهير، وأصحاب الأدوار الثانوية.. لم يكن هناك فرق بين فنان وآخر في مقدار الحزن الذي يشعر به القلب. فالمقام كان مهيبا.. وكان الكل في حالة وجوم.. بقينا في القاعة حوالي ساعة.. وكان من المفروض أن نبقى فيها أقل من ذلك.. لأن حشودا كثيرة في الخارج كانت تنتظر أن تحل محلنا، بعد مغادرتنا القاعة… مصحف أخضر للذكرى
أثناء مغادرتنا قاعة العزاء، سلمنا أحد أقرباء الراحل مصحفين أخضرين.. أخذت المصحف وقبّلته.. واعتبرته أعظم ما يمكن أن أحتفظ به من ذكرى حول الراحل محمود عبد العزيز، الذي سبق لي أن تحاورت معه قبل سنوات في لقاء قصير جرى بيني وبينه لفائدة جريدة "الأحداث المغربية"، عندما تم تكريمه في مهرجان سينما بلدان البحر الأبيض المتوسط بتطوان… رحم الله الفقيد.