لتنسج صورة عن المخرج نور الدين الخماري، يجب عليك الوقوف حيث محور الأم. يحافظ الرجل على خيط رفيع يربط جل ممارساته اليوم، بالأمس حيث الطفولة في آسفي. من يسترسل في تتبع الخيط ينتهي به المطاف بين يدي الوالدة الغائبة، الحاضرة في كل إحالات الإبن. حينما يتكلم تسعفه الكلمات المغلفة بالعمق وخفة الظل التي تقارب السخرية دون أن تستغرق فيها. دعه يخبرك عن الأمس، حتى تتمكن من فهمه اليوم. تتسلل إلى ملامحه ابتسامة وهو يردد قصصا تعنيه، « أنا الإبن الأكبر، عندي خويا طبيب، وعندي ختي»، ثلاثة أخوة قاسمهم المشترك أنهم تلقوا تربيتهم على يد والدة تختزل قيمة الإنسان في عمله. ولد نور الدين الخماري بحي فقير من أحياء آسفي. كان الجو مقدسيا كما يصفه، حيث انصهرت الملامح اليهودية، المسيحية، المسلمة بطريقة لم تجعل الطفل يفطن لوجود فوارق. يلج بيت الجيران اليهود يوم السبت من أجل تناول “السخينة”، ويلج الجيران اليهود بيتهم من أجل تناول الكسكس يوم الجمعة. جو من الانفتاح جعل لنور الدين قناعة رحبة ترى أن مفهوم العائلة أوسع من الصلة البيولجية التي تربطك بأشخاص معينين، بل هي المحيط العام الذي عاش فيه، حيث الأبواب المفتوحة، وحيث الكل يشارك الكل. قصص تفسر المرونة التي يتميز بها المخرج، وحبه في الانفتاح على الآخر مهما كان. هذه طفولتي »أنا الحمد لله... كنعاودها الحمد لله، طفولتي كانت مزيانة»، هكذا يقيم صاحب “القضية” طفولته التي استحوذ فيها على عناية خاصة من والدته، «كانت رحمة الله عليها تشجعني على الذهاب للسينما، خاصة في الفترة التي كان فيها والدي يغيب عن البيت لمدة يوم أو يومين، حين كان يشتغل بالميناء». لم يكن تشجيع الأم نوعا من التملص من المسؤولية، أو طلبا للراحة، لكنها كانت تدفع ابنها نحو اللعب والابتكار. ويرى الخماري أن غياب وسائل الترفيه كانت تدفعه رفقة الأطفال نحو الابتكار والإبداع، ليجد ابن آسفي نفسه منجرفا نحو عالم الخيال انطلاقا من أدوات تفرضها طبيعة المكان، ليصنع قطاره من علب السمك التي يجدها في طريقه. طريق نور الدين الطفل مليئة بالذكريات التي لا تنسى، لكنه بانتقائية المخرج استل المشهد الذي يعنيه، ليتذكر قصته مع ” علبة الكارطون” التي كان من خلالها يعرض المشاهد السينمائية التي يتم قصها من شريط العرض. كان يشتريها بأربع ريالات، ويعيد تجميعها من أجل عرضها على أصدقائه «الدراري الصغار في الدريبة»، دون اكتراث لفحواها الذي كان يضم مشاهد تقبيل، «أنا ماشي شغلي، المهم كنت كنصايب شي حاجة» يقول الخماري وهو يضحك، مستحضرا العقاب الذي ناله من طرف والده بعد أن علم بالأمر من طرف باقي الآباء، «ضربني وقال أنني غادي نخرج على الدراري ماغاديش نخليهم يقراو». مشاهدة والداي سبب عشقي للصورة عشق نور الدين للصورة، له تحوير لا يستقيم إلا في ذهن من يتفهم العمق الذي يفكر به الرجل. لم تكن أسرة نور الدين مهتمة بالمجال الفكري، «لم يكن للكلمة حيز في أسرتي، لم يجعلوني أنفتح على كتابات وأعمال عالمية، لكن كنت أرى أشياء جميلة. كنت أرى كيف يعامل والدي والدتي عندما يرجع من الميناء. يحضر لها هدية مهما كانت بسيطة حتى لو كانت مجرد وشاح يقتنيه من طرف البولونيين. كان يحترمها ويعتني بها». راكم الطفل المشاهد. لم يسعفه سنه على إيجاد التوصيف اللغوي المناسب، لكنه علم بفطرته أنه يعايش أشياء راقية، أشياء جوهرية اقتنصها من مشاهد دون أن تكون مدعمة بالكلام. داخل قاعة السينما ستتوثق علاقة الطفل بالصورة بعد أن استطاع استثمار علاقة والدته بصديقتها اليهودية التي كانت تعمل في السينما، لتسمح له بالدخول في أي وقت. «أحيانا كنت أشاهد ثلاثة أفلام في اليوم». معدل رسخ مكانة الصورة في مخيلة الطفل الذي كان يتعامل بسذاجة مع العمل السينمائي، «كان كيصحابلي واش الممثل كيدير كلشي»، يقول مخرج اليوم ضاحكا من سذاجة طفل الأمس الذي كان يرى في الصورة مهربا لصناعة تصورات تدور في مخيلته، وتتغذى من واقعه. «هذا جعلني أحب أن أتحدث عن نفسي سنمائيا حين درست في الخارج، لأني لا أخاف من مشاكلي، وأومن بسينما المشاكل الانسانية حيث البطالة، الحكرة» الخماري الكازانيكري في جانب آخر من شخصية الرجل المرن والمنفتح، تكمن نقطة العناد التي ورثها عن والدته. «كانت تصل لأي شيء. أتذكر أنني كنت أود انشاء فرقة لكنني لم أكن أملك المال الكافي، استماتت لجمع المبلغ، وتمكنت من شراء أقمصة للفريق... كانت صاحبة عزيمة، ولم تكن تعرف الخوف. كانت تصرح بمعارضتها. وكانت تناقش والدي في بعض الأمور بأسلوبها الخاص مع أنها لم تكن متعلمة، لكنها كانت امرأة حرة.» هكذا كانت الوالدة على لسان ابنها الذي برز عناده من خلال دفاعه عن اختياراته كما لخصها فيلمه “كازانيكرا” الذي سلط فيه الضوء على صور يحاول البعض تجاهلها، ليوصف بأنه محرض على الكلام الزنقاوي. بعناد لا يكترث للنقد الذي يتناول شخصه، لأنه شخصيا يهرب من الكلام الزنقاوي، بالقدر المستطاع، «حيت أنا مكنعرفش شي مغريبي الى تعصب مكيخسرش الهدرة، أو كيخسرها بطريقة فنية، لكن أحاول أن لا أفقد أعصابي » بعيدا عن كازا نيكرا، للخماري علاقة خاصة بكازا بلانكا التي يحب استراق النظر لها من خلال نافذة بيته في ساعات متأخرة من الليل. خلال فصل الشتاء تصبح العلاقة أكثر حميمية حيث تمر مشاهد الطفولة عبر النافذة، «أشعر أن الشتاء مرادف للنقاء، ربما للأمر علاقة بمشهد البحر الهائج كما تحتفظ به ذاكرة الطفولة، حينها كانت والدتي تعد طاجين بوزروك الذي تشرك الجيران في تناوله». سمة المشاركة التي طبعت طفولة الخماري لم تفارقه بعد، لذا لا يتواني عن استغلال الفرصة للتجول في الأحياء الشعبية،«لأنني أحب سماع تمغرابيت التي توحي لك بالتواجد الفعلي داخل المغرب، بعيدا عن الفرنسية، والعربية المنمقة». البحث عن الغوص في مشاهد تعج باللهجة الواقعية لا يعني نور الدين المخرج المتعطش للصورة، بقدر ما تعني نور الدين الإنسان الذي يحاول الحفاظ على توازنه، وهو القادم من حي شعبي« خصني نشوف الناس». بعد رؤيته للناس لا يستطيع الرجل التزام الحياد أمام مشاهد تستفزه،«إلى شفت راجل يضرب مراتو في الزنقة نقدر نضارب معاه، ونمشي معاه الكوميسرية ولا فين ما بغا»، يقول الخماري الذي يرى أنه لا يستطيع أن يعيش ازدواجية تحتم عليه التسويق لقيم إنسانية عبر الشاشة، بينما يتبنى مواقف سلبية في الشارع. أنجرف حيث راحتي بعد يوم حافل من العمل، يفضل الخماري الراحة في البيت، «يمكنني عدم مغادرة البيت لمدة أسبوع .لا ألتزم بوقت معين لإنجاز أمور محددة خارج إطار العمل، بل أكتفي باتباع رغبتي. وصلت لسن لا أحب أن أكره نفسي على شيء، بل أنجرف حيث الراحة، يمكنني أن أقرأ. أشاهد التلفاز. أطلق العنان لمخيلتي وأنا أتأمل سقف الغرفة، حيث أنسى كل شيء هربا من الشحنات السلبية التي تتناقلها الأخبار». خارج أسوار البيت يشعر ابن آسفي أنه بحاجة لاستنشاق هواء مدينة الطفولة حيث بيت والده.«لا أستطيع التواري عن آسفي لأكثر من شهرين، أنا بحاجة لرائحة بحرها، وضوئها، ولهجة أبنائها». حاجة تفسر احتفاظ الرجل بثلاثة أحجار صغيرة من آسفي داخل سيارته. ككل أبناء آسفي لطبق الحوت مكانته بالنسبة للخماري، إضافة لطاجين الخرشوف، غير أنه يبقى شخصا غير متطلبا، ولا يدقق كثيرا في الأصناف التي تعرض عليه. لكنه بالمقابل لا يفضل أن يوكل غيره للحصول على متطلباته، حتى لو كانت للا حليمة المرأة المكلفة بالبيت، والتي تعلم جيدا لائحة ما يحب. « مبغيتش نوصل لدرجة نفقد فيها متعة أنني نمشي نتقدا بيديا». متعة تتغذى على ميزة تواجد المخرج خلف الكاميرا، مما يسمح له بحيز أكبر من الحرية التي تسمح له بالتنقل بين رفوف المحلات بحثا عن نكهة مربي جديدة، أو من أجل شراء الملابس التي يشترط فيها الخماري أن تكون مرتبة ونظيفة، لكنها أبدا لن تكون باهضة الثمن. يستند على ذاكرته حيث كانت الوالدة تقتني له «بياسات زوينين من البال»، ويطرح استغرابه المطعم بقناعاته،« لا أفهم لماذا يقتني البعض أشياء باهضة الثمن...مكيعجبنيش الحماق ديال بنادم»، يقول الخماري الذي يشعر بالرضا التام عن إطلالته بالجاكيت الجلدي الأنيق، الذي اقتناه من النرويج بمبلغ 1500درهم. يفضل الخماري صرف ماله في أمور يعتبرها أساسية مثل صحة أسنانه، ونظاراته الطبية، ودراسة أبنائه. إلا أنه لا يميل للادخار من أجل المستقبل رغم نصيحة بعض المحيطين، لأن ما يعني الرجل هو أن يعيش اللحظة مرتاحا دون أن يضطر لطلب المساعدة من أحد. * طليقتي... صديقتي رغم بعد المسافة يشرف الخماري على تربية أبنائه المتواجدين رفقة طليقتة بالنرويج. وسيلته في ذلك الهاتف، والأنترنيت. حين يتحدث نور الدين عن أسرته يستحضر شخص طليقته التي تحمل حاليا صفة صديقته المقربة، كما أنه لا يتردد في وصفها بالسيدة الرائعة. علاقة الأب بأبنائه تعتمد تحاشي أخطاء الطفولة، حيث يحاول الخماري الأب تربية أبنائه على تحمل المسؤولية، «أولادي الآن يقومون بكل أشغال البيت، من طبخ، وتنظيف الأرضيات، وغسل الملابس. لا أريدهم أن يسقطوا في الخطأ الذي اعترض طريقي عندما ذهبت لفرنسا من أجل دراسة الصيدلة، لأجد نفسي غير قادر على فعل شيء بسبب التربية التي تلقيناها، والتي كانت تستبعد مشاركة الأولاد في أعمال البيت». يصف الخماري علاقته بأبنائه بأنها العلاقة الأهم في حياته الآن، ويسعى إلى تمتينها من خلال أسلوب الحوار الذي يعتمده معهما «نحكي لبعضنا تفاصيل اليوم الذي مررنا به. أعرف كل شيء عن ابني وابنتي، وحين أكلمهما أشعر أنني أب بدون مشاكل مقارنة مع باقي الآباء. أمازحهم. أحترم حريتهم، وأدفعهم لمصارحتي، فأنا لست من النوع الذي يضغط حتى يتمكن من الأخذ. ربيتهم على تحمل المسؤولية، وأترك دور الأب جانبا لألعب دور الصديق». إلى جانب دور الصديق، نجح الأب في لعب دور الوسيط لربط أبنائه بالمغرب، والنتيجة «وليداتي كيموتو على المغرب» يقول الخماري الذي نجح في نقل صورة المغرب وفقا للتربية والبيئة التي نشأ فيها، حيث الحرية، التسامح، والتعايش، «أريدهم أن يعيشوا المغرب بطريقتي وليس بالطريقة التي يسوقها البعض». * متصالح مع نفسه على عكس البعض، يحافظ نور الدين الخماري على تلقائيته دون انتقاء. يحب أن يكون شخصا واحدا بدون أقنعة مهما كانت الوضعية الاجتماعية للشخص الواقف أمامه. تشغل الصداقة حيزا هاما في حياته، غير أنه يستحضر نصيحة والدته التي علمته أن الصديق الحقيقي يظهر”وقت الحزة”. يحرص على الاتصال بأصدقائه ولقائهم كلما سمحت الفرصة. ويرى أن السنوات جعلته أكثر تصالحا مع نفسه، بعد أن أصبح يمتلك أدوات تساعده في الدفاع عن نفسه، واتخاذ قراراته، «لأن السن يدفعك لمراجعة نفسك دون توجيه من أحد. اليوم أنا أشعر بالسلام، وأحرص على مساءلة نفسي كل يوم، مما يدفعني للأمام». لا يخجل الرجل المتماسك من دموعه في لحظات الحزن كما في لحظات الفرح، «أنا بكيت، وغادي نبقى نبكي، ولا مشكل لدي مع البكاء، لأن الانسان الذي يخفي مشاعره إنسان يكذب على نفسه، وأنا رجل يصعب عليه الكذب على نفسه...» سكينة بنزين