( ليست نبوءة وإنما قراءة للواقع الحاضر واستشراف مستقبله ) من الواقع المعيش لا من التنظير تنطلق مقالتي، هذه التي ستكون صريحة وصادمة للذات المهنية التعليمية ، وقد تغضب البعض وهم كثر، وقد لا تغضب البعض الآخر وهم قليلون، حيث تقع في المجال النقدي، وهو مجال في عالم يفكر تفكيرا عاطفيا ومصلحيا مكروه، بل ممقوت وبغيض لا يحبه إلا التفكير الموضوعي! وهو نقد بمفهوم مساءلة الذات المهنية عن اشتغالها في مجال تتقاطعه حقول معرفية متنوعة، وتؤطره مجموعة من الأطر النظرية، وتنزله واقعا ممارسا أطر إجرائية تحقق افتراضا البعد الفلسفي من ناحية أولى ثم البعد السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والعلمي والحضاري … من ناحية ثانية. وهو بتموضعه هذا في مجال النقد لا يفيد البتة جلد الذات إلا لدى من يكره التذكير بالحقائق الموضوعية والواقعية التي يعيشها واقع التعليم العمومي المزري. ويهاب مقاربتها بتحد كبير وبثقة نفس تؤمن بالتغيير والتطوير. فالنقد هنا؛ يعني قراءة الواقع المعيش للتعليم قراءة علمية، والنظر فيه ببعد فلسفي وثقافي وسياسي ونظري وتطبيقي وإجرائي متخصص، يروم تحقيق الغايات الكبرى التي تصب في أنسنة الإنسان وبناء حضارته وازدهارها بتنوعات مجالاتها وقطاعاتها. وهو ما يفيد أن موقع التعليم في ألفية المعرفة متقدم جدا، وحساس وخطير في نفس الوقت بالنسبة للفرد وللمجتمع بما فيه الدولة. ذلك أن ( النظام التعليمي ببنياته وبرامجه ومناهجه يؤثر على المجالات المختلفة من الحياة الاجتماعية، كما يتأثر بالتطور الاجتماعي والاقتصادي للمجتمع، مع العلم أن تأثير هذا التطور هو الأكثر حسما، وكما في كثير من المسارات المماثلة يبدي التعليم بالمقابل تأثيرا نشطا على التنمية الاقتصادية الاجتماعية )[1]. لذا؛ تعتمد عليه الدول في التنمية البشرية والحجرية، وفي بناء التقدم والحضارة والرفاهية الإنسانية … وتتسابق فيه بالبحث العلمي وتقدير أهله وتبييئه في المجتمع واحتضانه مؤسساتيا والدفاع عن جودته. فقطاع التعليم العمومي؛ يعلم الجميع مأزوميته على مختلف الأصعدة، إذ ( يحمل في ذاته تناقضات تمنعه من التفتح على آفاق جديدة، طالما بقي أسير بنياته العتيقة. كما أن الكيفية التي تشتغل بها بنيات المنظومة التعليمية تتميز ببطء ملحوظ في تطورها، إن لم يكن الأمر يتعلق بنوع من الجمود يعوقها عن التطور الضروري، الذي إن توفر يجعلها مستجيبة للمتطلبات التربوية، ولمنتظرات المعنيين بأمور التربية والتعليم، وزبناء النظام )[2]. بما ( صارت ] معه [[3] مشكلات التعليم في المغرب موضع نقاش في جميع المحافل وعلى كل المستويات، وهذا ما أظهرته نتائج البحوث والدراسات في تحليلاتها التي انصبت على جوانب مختلفة من النظام التعليمي. كما أن هناك ملاحظات وتعليقات سلبية تتردد كثيرا هنا أو هناك، ويكفي أن نشير في هذا السياق إلى بعض المظاهر كتخلف المناهج التعليمية وجمود طرق التدريس وسوء التوافق المدرسي، ونقص المردودية وتفاقم نسب التكرار والتسرب … إلخ )[4]. لم تنفع في علاجه أو إصلاحه جميع أطروحات أطبائه القولية أو الإجرائية وحتى أدويتهم الأصيلة أو البديلة. فصار أزمة بنيوية عقلية وسيكولوجية واجتماعية فضلا عن سياسية تستعصي عن الحل والإصلاح نظرا ل ( تأرجح نظامنا التعليمي منذ أوائل الاستقلال بين مدرستين أو نموذجين من التعليم، وبالتالي غياب المرجعية الواحدة والمنسجمة وخلخلة في الأسس ] عمليا؛ لأنه نظريا توجد المرجعية باعتبار الميثاق الوطني للتربية والتكوين رؤية مجتمعية وسياسية للتربية والتكوين، وحاليا الرؤية الاستراتيجية للإصلاح 2015 2030 التي تؤطر إصلاح التعليم نظريا [، خاصة تلك التي من المفروض أن توفر الحد الأدنى من الاستمرارية وتراكم التجارب المثمرة ] كل سياسي يتربع على رأس التعليم والتربية يلغي التجارب والتاريخ والمكتسبات، ويمسح الطاولة بالمنشفة وبالصابون، ويرمي بما فوقها إلى سلة المهملات على أحسن تقدير إن لم نقل إلى المزبلة! ويغني على هواه أو على هوى مستشاريه، أو على هوى حزبه أو حكومته " افتراضا " [ ، فترنحت الإجراءات غدوا ورواحا بين أكثر من تصور وأكثر من نموذج وبقيت الحلول ظرفية وجزئية ففقد الإصلاح طابعه الشمولي وأخطأ مرماه )[5]. وبقيت مساءلة المؤسسة التعليمية حاضرة ( تحيل أيضا إلى سؤال الإصلاح التعليمي: لماذا لم تنجح الإصلاحات المتعددة المتوالية في التمكن من تحقيق النتائج المطلوبة، هل الخلل كامن في التصور أم في التطبيق؟ أم في الرؤية ذاتها؟ أم يعود إلى ضعف الإمكانات المرصودة؟ هل الخلل في النموذج التربوي والتكويني وغياب المراجعات اللازمة؟ هل يكمن الخلل في منهجية التفعيل والتطبيق، وغياب شروط الحكامة الجيدة، وآليات التتبع والتقييم والتعبئة، والريادة الناجعة؟ )[6]. وظلت الأزمة لا تبرح مكانها، وظل قطبها العنصر البشري الحاضر في مقولات الإصلاح والعلاج والغائب عنها في نفس الوقت. حضوره معلن في الأوراق والخطوط والكلمات والمداد، بل ومطنب في الخطاب التعليمي. لكنه في الواقع المعيش للتعليم والتربية غائب أو مغيب، فحضوره وغيابه سيان في ميزان الفعل الحقيقي المؤثر إيجابا في البناء الاجتماعي والسياسي والثقافي والاقتصادي للإنسان والوطن. ظواهره السلبية ومآسيه السلوكية تزكم الأنوف روائحها الكريهة. ويدمي القلوب مداد أحداث صحفها وجرائدها. أما عائده وناتجه ومردوديته الداخلية والخارجية فحدث ولا حرج! واقع مر لا ينكره إلا جاحد أو متكبر. ما أفقد التعليم العمومي تلك المكانة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية وحتى السياسية في المجتمع ودولته. فتنكر له المجتمع وتعبت الدولة في إصلاحه. فالمجتمع مكره أخاك ذاهب إليه لفقره أو لبساطة عقله. وعنصره البشري بعضه متله بمصالحه الضيقة التي تحقق له أرباحا مادية أو معنوية آنية هنا أو هناك حسب كل حالة على حدة، وإن اجتمعت ذواته في ذاته المهنية تلهت بمطلب هنا أو بحاجة هناك، وارتفعت الحناجر منددة بالضغط هنا أو بعجرفة هناك أو ألبسوا مصلحة خاصة بلباس المصلحة العامة، وراحوا يروجون لها ويضغطون في اتجاهها تحت سقف إيديولوجي أو سياسوي أو نقابوي أو عقل شعبوي يغيب عنه الوعي بما هو عقل. أما البعض الشريف الجاد الكفء من عنصره البشري فمغيب ومهمش إن حضر أو محاصر إن فعّل ذاته، يحارب حنظل القطاع ويتجرع طعمه المر القاسي، يحترق من أجل إضاءة شمعة في ليل التعليم الدامس. هذا البعض هو الذي يضيء مساءات أيام المحرومين من نعمة المال، الذين لا يستطيعون ولوج التعليم الخصوصي مع العلم أني لست هنا في موقع إصدار حكم قيمة على التعليم العمومي أو التعليم الخصوصي، ولا أروج لهذا الأخير، فانحسار ناتج التعليم العمومي معلن وطنيا عبر التقويمات الوطنية ومؤسساتها، وعبر التقويمات الدولية وتقارير مؤسساتها. وكلما انحسر ناتج التعليم العمومي كلما منح مساحة إضافية لصالح التعليم الخصوصي أحببنا أم كرهنا فتحية إجلال وإكرام واحترام وتقدير لهذه المنارات الشامخة في سماء تعليمنا العمومي، وأوسمة صدورنا، وتيجان رؤوسنا، التي تبقيه حيا في ضميرنا الجمعي. فالناظر في معطى العنصر البشري يحتار من هذا الخليط المتناقض في ذاته من أقصى اليمين المتطرف إلى أقصى اليسار المتطرف! فإذا ما رفعت الصوت منددا بظواهره السلبية المعلنة التي تقتل مستقبل المدرسة العمومية، رفعوا لك المشانق ونعتوك بأقصى النعوت بدعوى الدفاع عن المصلحة العامة للمتعلم، التي هم بعيدون عنها كل البعد، ولا يرتبطون معها إلا برباط الخير والإحسان في أحسن الأحوال. فهم لا تعنيهم مصلحة المتعلم بل مصالحهم الخاصة التي يغلفونها بغلاف المصلحة العامة لهذا المتعلم، وفي واقع الأمر تفضحهم أعمالهم وسلوكياتهم المتناقضة تماما مع تلك المصلحة. وهنا؛ لابد من التذكير بأن الذي يقول علانية وأمام الجميع: أن الوزارة لم تفكر في المتعلم فكيف له أن يفكر هو في المتعلم؟! ومن قال لي حرفيا: أنه إذا ما أعطته الوزارة الخطأ فإنه سيمرره إلى المتعلم انتقاما منها لظروفه المزرية! فكيف له أن يساهم في إصلاح التعليم أو الحد من تدهوره وانحداره، بله، كيف له أن يقدم جهدا مجانيا للرفع من جودة تعليمنا؟ وهناك من ألغى حق المتعلم في استيفاء زمنه المدرسي الرسمي في الابتدائي بدعوى تأخره في الدخول صباحا، وإنما الحقيقة والواقع أنه هو الذي يتأخر وليس المتعلم! ومن امتطى الساعات الإضافية مصدرا لزيادة الدخل مقابل استفزاز المتعلمين والضغط عليهم أو التهاون في أداء الواجب نحوهم، وهو أمر معروف ومعلن على لسان الوزارة والواقع … نعم هناك سلبيات كثيرة وقعت فيها الوزارة ومازالت تقع فيها، تحد من فعالية التعليم العمومي، وقد نقول: تقتله مع السيرورة الزمنية والأدائية، وكان بمقدور مكونات التعليم بجميع أطرها تجاوزها على أرضية الواقع والفعل الميداني من خلال الوعي بها والاشتغال عليها، ولكن مع الأسف لم يتم ذلك مما أدى إلى نتائج كارثية على ناتج التعلم وعلى المتعلم في غير تعميم. ومن يقول غير ذلك فالواقع يكذبه. ويحضرني مثال صريح وصارخ، يفيد أن أحد مديري الأكاديميات زار مؤسسات العالم القروي لإحدى النيابات التابعة للأكاديمية التي يدبرها، فلاحظ تدني الكفاءة القرائية عند متعلمي الابتدائي، فلما صرح بذلك؛ قامت الدنيا بقضها وقضيضها عليه ولم تقعد لأنه قال قولة حق؟! وذهبت بعض البيانات إلى حد الطلب منه الاعتذار عن قولة حق!؟ فكيف لمجتمع مدرسي عمومي هذا حاله أن يتقدم بالمدرسة أو يرفع من قيمتها في المجتمع العام؟ ونحن كل يوم تشهد علينا التقارير الدولية بضعف ناتج التعليم العمومي وتقهقر مراتبنا في سلم التعليم والتربية عالميا. وفي ( هذا السياق تتعرض المدرسة المغربية لانتقادات شتى منها: أن ما يدرس فيها من مواد ومضامين غير مناسب، وأنها تفشل في إعداد التلاميذ لمواصلة التعليم، وأنها ليست منفتحة على المحيط الاجتماعي والاقتصادي بدرجة تجعلها تتجاوب مع متطلبات المجتمع ومع حاجات الاقتصاد، حيث الفجوة بين ما يقدم في المدارس وما يتطلبه سوق الشغل، والفجوة بين ما يدرسه التلاميذ وما يعيشونه من تجارب في الحياة العامة. وعلى الجملة، فالمؤسسة المدرسية لا تولي عناية لواقع متغير ومتعدد بقدر ما تهتم بالشكليات التي تكون لها الغلبة على الجوهر. ويبدو أنها أخلَّت بمهمتها في الاستجابة لطموحات الأجيال الصاعدة سواء منهم الذين التحقوا بالمدرسة أو الذين غادروها قسرا )[7]. وما أغرب منطقنا حين نقتبس حالة نور في سياق الظلمة ونحاول تعميمها على الظلمة، ونحيلها إلى سماء صافية، وإلى شمس ساطعة! ومؤشرات الواقع تفند ذلك … نعم؛ هناك جهود قيمة لكن مع الأسف غير مؤثرة في المجتمع المدرسي بشكل عام، وإنما مؤثرة في محيطها المحلي فقط وبنسب ضعيفة. ولا ترفعها الوزارة إلى النمذجة والتعميم، مما تضيع مع هدير أمواج الحدث التربوي المتجدد بمشاكله وأزمته. فالعنصر البشري هو أساس تعليمنا العمومي، تؤكد ذلك كل الأدبيات التربوية والعقل المنطقي والعقل المؤسساتي. لكن مع الأسف الشديد لم يبن هذا العنصر البشري منذ صغره على وعي ذاته والآخر وقراءة بواطن الأمور، وإنما بني على التفكير العاطفي وعلى سطحيات الأمور وعلى الانفعاليات وعلى الشحن الكمي للمعلومات والمعارف دون خلقها وإبداعها معاكسا بذلك هدف التعليم والتربية التي لم يعد هدفها ( تحصيل المعرفة، فلم تعد المعرفة هدفا في حد ذاته، بل الأهم من تحصيلها، هو القدرة على الوصول إلى مصادرها الأصلية وتوظيفها في حل المشاكل، لقد أصبحت القدرة على طرح الأسئلة في هذا العالم المتغير الزاخر بالاحتمالات والبدائل تفوق أهمية القدرة على الإجابة عنها )[8]. فالتعليم الذي يصنع الوعي، والتفكير البناء بكل أنواعه، والإبداع، وأنسنة الإنسان، والقيم والأخلاق، والسلوكيات السليمة، والتنمية البشرية الحقة … لم يعد قائما بيننا؛ وإنما في أحسن أحواله اليوم يصنع معامل بشرية لتدوير المعرفة لفظيا لا عمليا، تسيطر عليه ( اللفظية التربوية التي تحول التربية من أفعال تنبض بالحياة إلى أقوال جامدة، ومن سلوكيات عملية حية إلى تنظير منفصل عن الواقع، ومن تركيز على الجوهر إلى اهتمام بالشكل، ومن روح تسري في المجتمع إلى مجرد ظاهرة صوتية. إن اللفظية هي استخدام كلمات رنانة لا تحتوي في حقيقة الأمر على مضمون كبير، فالكلمات تستخدم في حد ذاتها على حساب المعنى. أي أن اللفظية تعني غلبة الألفاظ على المعاني. وحين يقوم التعليم على اللفظية فإنه يتميز بالتركيز الكبير على الارتباطات الكلامية، والنظريات، والحفظ، والتلقين، والشكلية، والشعارات، والدراسات الإنسانية والاجتماعية، والمعلومات والمعارف النظرية. كما يتميز أيضا بالفجوة الكبيرة بين النظرية والتطبيق، وضعف الاهتمام بالنمو الشامل والمتكامل للفرد، وتدني الإقبال على العلوم المهنية والعلمية والتطبيقية، وقلة التركيز على الخبرات المباشرة للمتعلمين، والانعزال عن المجتمع وحاجاته وأهدافه، وإهمال الجوانب الوجدانية والمهارية )[9]. هذه التي في إطارها ( لم تعد وظيفة التعليم مقصورة على تلبية الاحتياجات الاجتماعية، والمطالب الفردية، بل تجاوزتها إلى النواحي الوجدانية والأخلاقية، وإكساب الإنسان القدرة على تحقيق ذاته، وأن يحيا حياة أكثر ثراء وعمقا )[10]. مما خلق إنسانا سلبيا تجاه نفسه والآخر ومجتمعه. لا يهمه إلا ما يجنيه من الآخر والمجتمع لينعم نفسه ولو على حساب مستقبل البلاد والعباد. مما يطرح سؤال الذات المتضخمة، وسؤال الذات في ارتباطها مع الذات ومع الآخر والمجتمع على الدراسة والبحث، حيث ( عاد مفهوم التربية يطرح نفسه من جديد كشاغل رئيسي لعلماء التربية وعلم النفس وعلم الاجتماع، بل وكإشكالية جوهرية للفلاسفة، الذين شرعوا يمارسون هوايتهم القديمة، في إعادة تعريف المفاهيم المستقرة، أو التي تبدو هكذا، ووصل بهم الأمر إلى مناقشة المقصود بمفهوم الفرد والمجتمع وجوهر العلاقة التي تربط الفرد بذاته وبأسرته وبمجتمعه، وعاد الحديث مرة ثانية عن حاجتنا إلى "إنسان جديد"، يوقن الجميع بصعوبة تحديد "مواصفاته" حيث لم تتحدد بعد ملامح هذا العالم الجديد، مجتمع المعلومات الذي يصنع هذا الإنسان من أجله. على الرغم من ذلك فهناك شبه إجماع على تعذر تحقيق ذلك، دون أسس تربوية مغايرة وبشدة لتلك التي أفرزها هذا الكم الهائل من جحافل جيوش الأغلبية الصامتة، هذا البشر أحادي الأبعاد فاقد الهوية، صاحب النزعة الاستهلاكية المتضخمة، قليل الحساسية تجاه الغير، الذي يشكو من الجدب الروحي، والعزلة والضياع )[11]. الذي يبحث عن المشاجب لتعليق أخطائه وتقصيره عليها دون مواجهتها بشجاعة واعترافه بانغماسه فيها بنسبة معينة! إن أزمة المؤسسة التربوية والتعليمية العمومية تتمظهر بمظاهر عدة، تتكاثف فيما بينها لتقودها نحو الاستقالة من وظيفتها في المجتمع بما يتيح فرصة مواتية للمدرسة الخصوصية أن تحل محلها في وظيفتها ومكانتها، وتتفوق عنها قيمة عند الكثير من أفراد المجتمع، منهم على سبيل المثال: أهل السياسة والثقافة والاقتصاد والتعليم نفسه. فنشهد الآن ظاهرة تهريب الأطفال من التعليم العمومي إلى التعليم الخصوصي في المدن الكبرى، حيث انحصر بناء مؤسسات التعليم العمومي وتجهيزها، بل وتوظيف أطرها. فلولا سمعة المدرسة العمومية المهزوزة في المجتمع المغربي، وتدني مردوديتها التعليمية لما هجرها أهل التعليم أنفسهم، فكيف بمن هو خارج قطاع التعليم؟!. وقد كتبت فيما مضى مقالا عن اختلالات التعليم العمومي سواء على مستوى التنظير أو التطبيق. وبحكم الممارسة المهنية التي تثبت لي يوما عن يوم مدى انحدار التعليم العمومي إلى الهوة العميقة التي لا نهاية لها نتيجة مؤشرات الواقع، لما ذهبت إلى القول بزحف المؤسسة التعليمية الخصوصية نحو المؤسسة التعليمية العمومية. فالقول بأن وزير التربية والتكوين وحده بما يعني من رمزية للسياسة التعليمية يخوصص التعليم العمومي بفصل التكوين عن التوظيف فيه مجانبة للصواب بنسبة ما أو بعض من مغالطة، لأننا جميعا شركاء في الخوصصة. فالوزارة لها قسطها في ذلك بما ذهبت إليه من تنظير وسياسة تعليمية وإجراءات خاطئة في إصلاح التعليم، وإصرارها على الاستمرار في ذلك. فالإصلاح الذي لا يقوم على تشخيص أداتي، ويقوم على الرأي ووجهات النظر، وعلى المهرجانات والحملات، والتعبئة الشعبوية بدل تعبئة النخب العلمية الجادة والمسؤولة، هو إصلاح ميت من المهد. والإصلاح المستورد هو تجاوز للسيادة الوطنية بما هو التعليم سيادة وطنية، وهو كذلك إصلاح من خارج السياق الاجتماعي والمعرفي بالتعليم المغربي وبمجتمعه ومتطلباته. كما أن لنا نحن العنصر البشري لقطاع التعليم بمختلف أطرنا قسطا في الخوصصة نتيجة أخطائنا القاتلة التي تتمثل في بعض ممارساتنا المريضة، التي تشهدها وتشاهدها المجتمعات المحلية للمؤسسات التعليمية العمومية في المدن والقرى، حتى أن أحد التلاميذ بمركزية إحدى المجموعات المدرسية شبه القروية قال لي: كلامك عن تذكيرنا بمميزات أنواع الكلمة في المستوى الرابع ابتدائي يدخل من أذني اليمنى ويخرج من الأذن اليسرى، وذلك أمام أستاذه وعلى مسمعه ومرآه نتيجة ما يعيشه مع وفي التعليم العمومي. ما أدى بي إلى استنكار قوله، وتنبيهه إلى أن الكلام الداخل من أذن والخارج من الأذن الأخرى يبقي المتعلم في مكان سكناه، ويؤلم أسرته التي تعمل جاهدة على تغيير واقعه عبر التعليم. فالمتعلم الذي لا يميز بين الاسم والفعل والحرف وهو في المستوى الرابع كيف له أن ينظم الكلام وينشئه ويفكر؟ وما بالك لا يعرف ذلك وقد درسه صراحة في المستوى الثالث، فكيف له بمعرفته استضمارا كما تدعو التدابير ذات الأولوية إليه في جديد برامجها التعليمية؟! فهذا خطأ فادح في حق المتعلم واللغة العربية معا، يجب أن يسده القادر البيداغوجي ولا يتركه يمر. فإن تركه، عاد سلبا على ناتج المؤسسة التعليمية العمومية، وبالتالي فسح مساحة للمدرسة المقابلة أن تحل محلها. فالفصل بين التكوين والتوظيف في بعد الخوصصة إنما تسريع لها. وإن لم يتم ذلك الآن؛ فالخوصصة زاحفة وآتية مع الوقت نتيجة سلبيات العنصر البشري بكل أطره بالمؤسسة التعليمية العمومية مع التذكير بعدم التعميم. وتبقى بذلك الخوصصة مسألة وقت فقط. وبيني وبين ناقدي، الزمن حاكما وقاضيا؛ ما لم نتصد جميعا بوعينا العميق لما ستؤول إليه المدرسة العمومية، وبتكاثف جهودنا وعطائنا المهني المتميز العارف بخبايا الأمور ومآلاتها، وبدفين سياساتها التعليمية. فسنسير نحن إلى الخوصصة ولن تبذل هي جهد التنقل إلينا. فوعينا وأداؤنا الرائد هو حل مسألة الخوصصة. والتوظيف في القطاعات العمومية عامة، وفي التعليم خاصة لم يعد مقبولا إذا أدى إلى كوارث سلبية، فلم يعد أخلاقيا وشرعا مدخلا للسكون والركون والنتائج المحبطة! فتبريرات النوم والكسل والسلبيات السلوكية لم تعد قائمة في وظيفة التعليم لأنه مجال بناء الفرد والأمة، ولا داعي إلى التفصيل. فحرام على من يشتغل مع أبناء سواد الأمة أن يضيع حقوقهم في التعلم. فاليوم؛ تضامن قطاع كبير وواسع من الشعب المغربي مع أزمة الأساتذة المتدربين مع العلم أني مع حق الشغل وضد ممارسة العنف بالمطلق. حيث أتمنى على أساتذة الغد أن يتضامنوا مع أبناء الشعب من خلال الاشتغال المهني المتميز مع أبنائه. فذلك دين في رقبتهم يحملونه إلى يوم القيامة. فهم عقل الأمة الحي إن أحيوا تعليمنا، ولكن سيكونون عقلها الميت إن فشلوا في إحداث النقلة النوعية في تعليمنا. فالتخلف ليس ظاهرة اقتصادية أو سياسية، بل هو ظاهرة ثقافية حسب قول " ألفريد سوفيه" عالم الاقتصاد والاجتماع الفرنسي. وبالتالي العمل على التعليم هو عمل على الثقافة، والعمل على الثقافة هو عمل على الوعي الإنساني، والوعي الإنساني هو تقدم وحضارة ورفاهية وازدهار … فمقالتي هذه هي جرس إنظار لمن ينكر الواقع المعيش المزري للمدرسة العمومية. وقد تركت الغسيل في المغسلة طلبا لإيقاظ الوعي والعقل بالتلميح لا بالتصريح. فالزمن وارد إلينا إيجابا أو سلبا حسب إرادتنا. والله من وراء القصد. عبد العزيز قريش / تربوي الهوامش [1] د. العربي وافي، أي تعليم لمغرب الغد؟، منشورات مجلة علوم التربية1، مطبعة النجاح الجديدة، الدارالبيضاء، المغرب، 2005، ط1، صص.:40 41. [2] نفسه، صص.:41 42. [3] ما بين القوسين المعقوفين للمجال الخارجي في الرياضيات منسوب للكاتب توضيحا أو استدراكا. [4] د. العربي وافي، أي تعليم لمغرب الغد؟، مرجع سابق، ص.:45. [5] د. محمد الدريج، مشروع المؤسسة والتجديد التربوي في المدرسة المغربية، سلسلة التجديد التربوي، منشورات رمسيس، الرباط، المغرب، 1991، العدد1، ص.:64. [6] المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، من أجل مدرسة الإنصاف والجودة والارتقاء، رؤية استراتيجية للإصلاح 2015 2030، الرباط، المغرب، 2015، ص.:8. [7] د. العربي وافي، أي تعليم لمغرب الغد؟، مرجع سابق، ص.:53. [8] د. نبيل علي، العرب وعصر المعلومات، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1414/1994، العدد 184، ص.:394. [9] د. يزيد عيسى السورطي، السلطوية في التربية العربية، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1430/2009، العدد 362، صص.:141 142. [10] د. نبيل علي، العرب وعصر المعلومات، مرجع سابق، ص.:395. [11] د. يزيد عيسى السورطي، السلطوية في التربية العربية، مرجع سابق، ص.:394.