يرتبط المغرب وإسبانيا بعلاقات معقدة ومتناقضة تتعدى البعد التجاري والاقتصادي، لتمتد إلى وشائج وحمولات تضرب بجذورها في عمق التاريخ، فمنذ حكم المسلمين للأندلس سنة 711م والاحتكاك بين البلدين الجارين لم ينقطع، فكثيرا ما كان ملوك المغرب خاصة يوسف بن تاشفين يعرج على الأندلس لضبط إيقاعاتها عندما يصل الخلاف بملوك الطوائف حدا يكون فيه الخطر المتربص بهم داهما، من جهة أخرى فإن الاحتلال الإسباني لشمال المغرب بدأ مبكرا جدا بضم مدينة مليلية لسيادة إسبانيا سنة 1497م وكذا مدينة سبتة التي اعترفت البرتغال بسيادة اسبانيا عليها بموجب اتفاقية لشبونة سنة 1668م إضافة لاحتلال جزر»إشفارن» (الجزر الجعفرية أو تشافريناس) سنة 1848 ثم بعد ذلك إحتلال شمال المغرب وجنوبه،و إذا كانت علاقات البلدين المعاصرة تتراوح بين التوتر وبين الانفراج بحسب الحزب الحاكم في إسبانيا، فإن مواقف المغرب تضل ثابتة مهما كانت التغيرات في الحكومة المغربية، ولطالما شهدت علاقات البلدين مرحلة من المد والتعاون والتفاهم كلما وصل الاشتراكيون للحكومة الإسبانية وبالمقابل فإن هذه العلاقات كثيرا ما تعرف لحظات من الجزر والتوتر كلما حكم اليمين في إسبانيا، هذا التوتر الذي وصل في بعض الأحيان إلى مستويات خطيرة حيث كانت أبرز محطاته خلال السنوات العشر الأخيرة هي: التوتر الخطير في العلاقات المغربية الإسبانية الذي رافق الصراع على جزيرة «تورة» (جزيرة ليلى أو البقدونس) في عهد خوسي ماريا أثنار سنة 2002. الاحتجاجات الشعبية الواسعة في المغرب ضد زيارة ملك إسبانيا للمدينتين المحتلين سبتة ومليلية سنة 2007 وذلك إبان بداية حكومة عباس الفاسي. إدانة البرلمان الإسباني لأحداث العيون والذي دفعت البرلمان المغربي إلى المطالبة بإعادة النظر بشكل شامل في العلاقات المغربية الإسبانية. و إذا كان من السهولة من خلال هذه المحطات ملاحظة الملفات الكبرى التي تحكم طبيعة العلاقات المغربية الإسبانية والمتمثلة في ملف سبتة ومليلة والجزر المحتلة وملف الصحراء المغربية فإن للعلاقات الاقتصادية دورا مهما في تحديد نوعية هذه العلاقات، وفي هذا الإطار تأتي زيارة العاهل الإسباني خوان كارلوس للمغرب في سياق دولي وإقليمي جد دقيق حيث الأزمة الاقتصادية العالمية الخانقة ترخي بضلالها على كلا البلدين خاصة إسبانيا إضافة للمتغيرات السياسية العميقة التي ما زال الربيع العربي يحبل بها والذي يتم نسج جل يومياته في الفضاء المتوسطي المشترك وما يفرضه ذلك من تحديات أمنية كبرى. لقد دفعت أزمة إسبانيا الاقتصادية ملكها للهرولة إلى المغرب بالرغم من فترة نقاهته عله يجد فيه ما يلملم به وضع بلاده المزري وذلك في إطار «دبلوماسية الملوك» التي كثيرا ما كانت الحكومات الإسبانية توظف فيها الملك للعب دور الباحث عن المصالح الإسبانية والمقرب لوجهات النظر بين مدريد والرباط، ولئن كانت هذه الزيارة تنطوي على جانب كبير من الأهمية بالنظر للوفد الوزاري الهام المرافق لخوان كرلوس والذي من شأنه أن يعزز العلاقات الثنائية بين البلدين خاصة على المستوى الاقتصادي، إلا أن التأمل في واقع العلاقات بين المغرب وإسبانيا يؤدي بنا إلى الاستنتاج بكون هذه العلاقات يلزمها الكثير من الجهد والعمل من أجل أن ترقى إلى علاقات ندية وسليمة بين البلدين، فالتأسيس لوضع علائقي صحيح وذو أبعاد إستراتيجية بين إسبانيا وجاره الجنوبي يستدعي التخلص من مجموعة من المعيقات والترسبات والمشاكل التي تقف حجرة عثرة أمام أي علاقات من هذا المستوى، بعيدا عن المزاج الحزبي الحاكم في إسبانيا أو الظرفية الاقتصادية أو الترسبات التاريخية. كثيرا ما يتم تحاشي الحديث عن إرث الماضي الثقيل الذي ما يزال حاضرا بقوة في تأطير علاقات إسبانيا بالمغرب،والتي يعود مجمله إلى مرحلة الصراع الإسلامي المسيحي وإلى الفترة الاستعمارية كما أن أغلبها يعكس حالة نفسية مرتبطة بأحداث تاريخية غابرة والتي خلقت عقدة مستحكمة في الضمير الجمعي الإسباني، كانت هي المحرك الأساسي للحملة الإمبريالية على المغرب وذلك من أجل غسل شرف إسبانيا من العار الذي لحقها جراء حكم المسلمين للأندلس بحيث أعطي لهذه الهجمة طابع حروب صليبية مقدسة ضد المغرب الكافر الذي أهان شرف إسبانيا، وقد ترجمت هذه المشاعر في شكل أناشيد حماسية تحط من المغاربة وتصفهم بأبشع النعوت والصفات، لتتشكل لدى الإسبان نوع من الصورة النمطية اتجاه المغرب والمغاربة تم تكريسها أكثر بإضافة عقدة نفسية أخرى تجلت في هزيمتهم النكراء التي قلما شهد التاريخ مثيلا لها على يد ثلة من المجاهدين الريفيين في معركة أنوال المجيدة بقيادة المجاهد محمد بين عبد الكريم الخطابي حيث تكبدوا خسائر فادحة في العتاد والأرواح عدت بالآلاف بما فيهم الجنرال «سلفيستري». وفي هذا السياق تجدر الإشارة إلى أن هذه الصورة النمطية ما تزال مستمرة وحاضرة بقوة لدى الإسبان الحاليين حيث تلخصها عبارة «مورو» التي غالبا ما يتم وصف المغاربة بها خاصة المهاجرين في اسبانيا والتي تحمل حمولات قدحية وعنصرية مشبعة بترسبات التاريخ وعقده، وفي مقابل ذلك فإن صورة الإسباني البائس الذي نزح لشمال المغرب بحثا عن فرص جديدة لسد جوعه وتحسين أوضاعه والتي تختصرها عبارة «بورقعة» نسبة للأسمال البالية والممزقة التي كان يلبسها هؤلاء الإسبان ما تزال حاضرة لدى الكثير من المغاربة خاصة في الشمال. إن واقع هذه الصور النمطية ما كان لها لتستمر لولا تغذية الحكومات الإسبانية لها على مدى عقود خاصة الحكومات اليمينية والتي غالبا ما كانت معادية للحقوق والمصالح المغربية وقضاياه الأساسية المتمثلة: قضية سبتة ومليلية والجزر المحتلة. قضية الصحراء المغربية. الصيد البحري وبعض الصادرات الفلاحية المغربية للإتحاد الأوربي . إضافة إلى رفض معالجة الكثير من القضايا التي يطالب بها المجتمع المدني في المغرب والتي تعود إلى مخلفات الاستعمار الإسباني والمتمثلة أساسا في: ضرورة الاعتذار عن الحقبة الاستعمارية وما خلفته من مآسي وألام. جبر الضرر الناجم عن هذه الحقبة خاصة استعمال الغازات السامة في الريف. إن مجمل هذه القضايا الشائكة والمعقدة تقتضي من الجانبين خاصة الجانب الإسباني العمل على حلها بكل مسؤولية وشجاعة إذا ما أريد للعلاقات المغربية الإسبانية أن تتخلص من ثقل التاريخ وعقده المستحكمة والضيقة لتطل على فضاءات أرحب وأوسع من التعاون الاستراتيجي المتكافئ والمتكامل، و التي تتطلب العمل على ما يلي: النظر لقضية الصحراء المغربية بنظرة متوازنة ومنسجمة وغير متناقضة، خاصة وأن مملكة إسبانيا تعج بمطالب استقلالية واضحة لعل أبرزها هي الدعوات الانفصالية للباسكيين والكطلانيين، فلا يجوز الدفع بضرورة إعمال حق تقرير المصير في ملف أكدت محكمة العدل الدولية نفسها وجود روابط سيادية ودينية بينها وبين الملكية المغربية وإنكاره لشعوب واضحة المعالم ومختلفة ثقافيا ولغويا عن القشتاليين. العمل على تصفية الاستعمار في كل الثغور المحتلة بما فيها جبل طارق الإسباني المحتل من طرف بريطانيا. التعويض عن الأضرار المتولدة عن مخلفات الحقبة الاستعمارية الإسبانية للمغرب وما تميزت بها من ألوان التقتيل والنهب حيث وصل الأمر إلى حد استعمال غازات سامة ضد شعب أعزل والذي مازال سكان الريف يعانون من تبعاتها حيث أن نسبة الإصابة بمرض السرطان مرتفعة جدا في هذه المنطقة. التأسيس لحوار ثقافي وحضاري بين المغرب وإسبانيا للعمل على التخلص من الموروثات السلبية الناجمة عن حقب طويلة من الاحتكاك بين البلدين من شأنه نزع كل الألغام وترسبات الماضي وبلورة ضمير جمعي جديد. خلق مركز أبحاث إستراتيجية مشترك بين البلدين يعمل على مواكية واستشراف مسار العلاقات الإسبانية المغربية بشكل علمي رصين. خلق مجالات للتعاون والتنمية المشتركة في إطار علاقات ندية بعيد عن دور حارس البوابة الجنوبية للإتحاد الأوربي الذي ينظر به للمغرب أمام الهجرة السرية والإرهاب والمخدرات. عموما يمكن القول بأن المعطيات الجغرافية والتاريخية وحجم التحديات التي تفرضها المتغيرات الإقليمية والدولية تفرض على المغرب وإسبانيا التأسيس لعلاقات صحيحة ومتينة مبنية على الاحترام المتبادل والأدوار التكاملية بعيد عن ترسبات التاريخ والمزاج السياسي والحزبي والظروف الاقتصادية التي تحكم مسار هذه العلاقات منذ استقلال المغرب إلى الآن، مما يتطلب معها إعادة النظر في مجموع المواقف الإسبانية اتجاه قضايا عادلة ومشروعة للمملكة المغربية، والتي تستدعي مواقف شجاعة وتاريخية يمكن معها للعلاقات المغربية الإسبانية أن تتخلص من ثقل الماضي الغابر وتنفتح على آفاق واسعة من التعاون والتقارب الإستراتيجي. كاتب مغربي