الاهتمام بالفلسفة هو طريق يُكسبنا آليات التفكير ويساهم في تجويد طريقة نظرتنا للأشياء وهو ما ينعكس إيجابا على حياتنا. ليست الفلسفة شَرا يُبعدنا عن الله، وإلا كيف نفسر ملازمة الفيلسوف سبينوزا طيلة حياته، لعائلة مسيحية متدينة ولم يؤثر فيها بأفكاره حتى أنه حين مات، كانت العائلة تؤدي صلواتها في الكنيسة. كما أن الفلسفة لا تملك الحقيقة وإلا كيف نفسر فلسفة توماس هوبز التي تُنظِّر للنظام السلطوي وفلسفة روسو التي تُنظِّر للديمقراطية. الفلسفة هي طريقة في التفكير والاهتمام بها ضرورة مجتمعية ولا وجود لفلسفة يمكنها هزم الدين. " الدين يُفسر للعقل ما هو عاجز عن تفسيره أو فوق طاقته كالقضايا الغيبية. بالمقابل الفلسفة باعتمادها على العقل تساعد على توضيح ما هو غامض من الشريعة وتُدعم بالأدلة العقلية ما أتى به الدين" الفيلسوف الكندي
بحلول منتصف عصر النهضة كان قد بدأت مناهج جديدة للبحث الفلسفي بالظهور في الساحة الفكرية على أنقاض المناهج القديمة، خاصة المنهج الأرسطي الذي كان سائدا والقائم على المنطق الصوري القياسي. أبرز هذه المناهج اثنان: منهج عقلي يقوده ديكارت والذي يعتبر العقل مصدرا أكثر أهمية للمعرفة من التجربة القائمة على الحواس. وكان أتباع هذه المدرسة يستدلون على قولهم هذا بالرياضيات والتي برأيهم قادرة على أن تُظهر قدرة العقل للتوصل إلى معارف يقينية وثابتة. المنهج الثاني هو المنهج التجريبي بزعامة بيكون. ورأي أتباع هذه المدرسة يتحدد في كون مصدر المعرفة هو الحواس وتجاربها. وطريقتهم للوصول إلى هذه المعرفة تعتمد على الملاحظة والتجربة. المدرستان لم تُهملا لا العقل ولا التجربة، لكن الفرق هو أنهما كانتا يريان في إحداهما وسيلة أو مصدرا للمعرفة أكثر أهمية من الآخر. فدعاة العقل لم يهملوا التجربة بل كانوا يضعون العقل كمصدر أساسي ومحور البحث عن المعرفة، ونفس الأمر بالنسبة لدعاة التجربة. اعتبر بيكون أن الخطأ المميت الذي وقعت فيه الفلسفة القديمة وخاصة اليونانية هو انغماسها الكبير في النواحي النظرية، وصرفوا في سبيل ذلك الكثير من الوقت في عمليات مثل التحليل والاستنباط والجدال حول مسائل عقلية في رأيه لا تقدم لحياة الانسان وتقدم ورقي البشرية أي إفادة تذكر. وكان ذلك على حساب التجربة والملاحظة العملية والبحث العلمي. ومن أجل بناء منهجه الجديد، ذهب بيكون إلى حد مهاجمة فلسفة أرسطو، لا وبل اعتبرها فلسفة عقيمة وغير ذي فائدة ولن يتقدم الإنسان أي خطوة فيما يخص العلم الطبيعي. هذا الانتقاد الحاد لمنطق أرسطو كان جرأة كبيرة على فيلسوف كبير أثَّر على الفلسفة الأوروبية وظل منطقه قائما لعدة قرون. ومن جملة مآخذ بيكون على أرسطو هو اعتبار منطقه لا يمكن أن يفتح المجال لمعارف جديدة، وذلك لعدة أسباب منها أن هذا النوع من المنطق يُركز فقط على سلامة الانتقال من المقدمات إلى النتيجة بمعزل عن مدى تطابقهما مع الواقع. ونتائج منطق أرسطو حسب قراءة بيكون دائما تُثبت ما جاء في مقدماته، أي أن النتيجة التي يُفضي إليها هذا المنطق هي نفسها الحقيقة الموجودة في المقدمة. ويضرب مثالا شهيرا على ذلك ويقول: كل إنسان يموت…سقراط إنسان…إذا سقراط سيموت، فالنتيجة تتضمن الحقيقة التي نجدها في المقدمة وبالتالي فلا معرفة جديدة في هذا المنطق الذي يجده بيكون يقتصر فقط على عرض ما هو موجود لكنه عاجز عن إضافة أي معرفة جديدة فضلا عن اكتشافها. الفكر في نظر بيكون يجب أن يكون دوره مساعدا ومتمما للملاحظة والتجربة، لا أن يكون بديلا عنهما. فبدلا من الاستغراق في الفكر المحض والتخيل والانكماش في دائرة ضيقة من الجدال اللفظي والكلامي، لا بد في رأيه من طرح الأسئلة مباشرة على الطبيعة. وبعد أخذ الإجابة، هنا يأتي دور العقل ليبني على ضوئها وآثارها الأفكار المناسبة ويضع القوانين المناسبة لها. من هنا كان نقده اللاذع لأرسطو ولمنهجه، خاصة في بعض النواحي العلمية التي اعتبرها بيكون قد عفا عنها الزمان ولم تعد تصلح. انطلق بيكون من مهاجمة فلسفة أرسطو في سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ الفكر الفلسفي، لطرح منهجه الجديد في الفلسفة الذي أسهم بشكل كبير في بناء الفلسفة الجديدة أو ما يُعرف بفلسفة عصر النهضة، إلى جانب رينيه ديكارت. الفلسفة الجديدة التي طرحها فرانسيس بيكون سنتطرق لها في الحلقة القادمة.