كان ارسطو يقول(انه لا يوجد في التحليل سوى شكلين من انظمة الحكم: اما الاوليغارشية واما الديموقراطية، اما كل الاشكال الاخرى فما هي الا بدائل او انحرافات) ويعبر مونتسكيو عن الفكرة نفسها انه:(عندما تكون القوة السيادية بين ايدي جزء من الشعب، فهذا يسمى بالأرستوقراطية، اما عندما يكون الشعب بمجموعه هو الذي يجسد القوة السيادية فهذه هي الديموقراطية ) – من روح القوانين – الجزء الثاني. لإزالة الوهم بين النظام الديموقراطي وغير الديموقراطي، ترى اغلب النظريات السياسية حول نظام الحكم، او كما اوضح ذلك روبرت داهل DAHL في كتابه (مقدمة لنظرية الديموقراطية) و سارتوري SARTORI في كتابه(نظرية الديموقراطية)هو ان النظام الديموقراطي في الواقع نظام نيابي وحكم باغلبيات انتخابية، وان الشعب في هذه الانظمة الديموقراطية النيابية يفوض الاشخاص الذين ينتخبهم بمهمة ترجمة " قراراته" الى الواقع، غير ان هؤلاء المنتخبين غالبا ما لا يقومون بواجبهم كاملا اذ انهم يفوضون بعضا من مهامهم واعمالهم لموظفين، وتقنيين ، وخبراء و غيرهم من الاشخاص الذين لا يمس الانتخاب نشاطهم، وبذلك تجد السلطة تمارس من طرف موظفين اداريين ، وتقنيين، وخبراء، ومستشارين ومؤسسات وقوى مالية ووسائل الاعلام.. علما ان المسؤولين عن هذه المؤسسات والهيئات يحوزون سلطة فعلية في هذا التأثير وفي القرار بدون ان يكونوا هم من المنتخبين، كما ان للموظفين باختلاف درجاتهم سلطة لا يستهان بها نظرا لما يمارسونه من تأثير مباشر على الحياة الاجتماعية والسياسية. وبذلك يتقلص دور المنتخبين وبالتالي تتقلص الممارسة السياسية والممارسة السيادية للنظام الديموقراطي. انه كلما انحطت الممارسات السياسية، وساد الخمول او الاغتراب السياسي، الا وتسبب في اطلاق يد المستحوذين الفعليين على السلطة فينتشر " اللاتسييس " وتجد حتى الليبيراليين يمجدون هذا الاغتراب السياسي، والسلبية السياسية بهدف اضفاء الصفة الشرعية على نموذج مجتمعي تكنوقراطي، لا يخضع فيه القرار للمقاييس الشرعية الديموقراطية. وهم بعملهم هذا يستثيرون ردود فعل رافضة لا يمكن لاحد ان يتوقع نتائجها، فقد يؤدي انحطاط الديموقراطية الى نهاية الديموقراطية وميلاد بيروقراطية ادارية شمولية تحت اسم " التكنوقراطية " هدفها ان تفرغ السياسة من طابعها السياسي وتشكيك المواطنين بالسيادة الشعبية وتفضيلهم اعطاء السلطة " للخبراء " والموظفين والتقنيين والمستشارين في الشؤون العامة . كيف تسللت التكنوقراطية وهزمت الديموقراطية ؟ وجدت التكنوقراطية في عصر العلم والتكنولوجيا بيئة صالحة للانتشار، والتضليل واجتذاب الكثيرين من انصار التقدم او الراغبين في التغيير حبا للتغيير في حد ذاته. انه لما اتسعت مهام الدولة في المجتمع الصناعي الحديث وتعقدت اجهزة الحكم مع اتساع نطاق الخدمات واطراد ازدياد في عدد العاملين فيها، برزت الحاجة الى الخبراء والتقنيين المتخصصين في مختلف مجالات ادارة الدولة وتنظيم المجتمع سواء من المفكرين والعلماء والفنيين والاداريين، والاستشاريين…ومع بروز واشتداد هذه الحاجة بدأت الدعوة الى التكنوقراطية اي حكم الخبراء الفنيين على اساس ان هؤلاء الخبراء اقدر على تنظيم المجتمع وادارة شؤون الدولة من رجال السياسة هواة كانوا او محترفين، وهم الذين تعوزهم الكفاية العلمية والخبرة الفنية، ويكاد يتركز تفكيرهم وتنحصر خبرتهم في وسائل "النفاق" السياسي واسترضاء الجماهير، وتصيد الانصار وكسب الاصوات في الانتخابات والاحتفاظ بمقاعد الحكم لأطول مدة ممكنة…هكذا يتصورهم التكنوقراط؟؟؟ هنا تلتقي التكنوقراطية مع البيروقراطية في الاستخفاف بقدرة النظام الانتخابي الحزبي على توجيه اجهزة الحكم لصالح المجتمع اي لتحقيق اكبر قدر له من الرخاء والرفاهية، كما تلتقيان ايضا في ان كلا منهما تقوم على فلسفة الصفوة الممتازة الاحق بتولي مسؤوليات الحكم لأنها اعلم " بصالح " الشعب من الشعب نفسه. هذا وان كانت صفوة البيروقراطية لا تقف عند حد الاستعلاء الايديولوجي بل تنظر الى الشعب كقطيع يساق وغير قادر على ان يشارك في مسؤوليات الحكم ويدير اموره ادارة ذاتية بقدر الامكان ولقد ظهرت هذه النزعة الاملائية في اسلوب التخطيط حيث بنت مفهومها للتخطيط الشامل في اول الامر على اساس إذابة الفرد في الدولة وتكييف الناس بالنسبة للخطط بدلا من تكييف الخطط بالنسبة للناس ومن تم تجريد التخطيط من قيمه واهدافه الانسانية. هذه النظرة التكنوقراطية يعني سهولة انزلاق التكنوقراطية الى منحى الدكتاتورية والبيروقراطية ما لم تحصن ضد خطر هذا الانزلاق بمبادئ وقيم الديموقراطية واكثر عامل مساعد على هذا الانزلاق هو عامل التوسع البيروقراطي الذي لو ترك يستشري لتحول الى ما يسمى ( بالإقطاعية البيروقراطية). ويرجع بعض مؤرخي المذاهب الاقتصادية والسياسية نشاه التكنوقراطية الى سان سيمون وتلاميذه، فقد كان سان سيمون يدعو الى اتخاد العلم دعامة للنظام الجديد ويرى وجوب بناء السياسة على العلم لان المسالة في نظره ليست مسالة حرية راي او حرية انتخاب وانما هي اساسا مسالة تنظيم علمي ومن هنا دعا الى ان يكون الحكم للعلماء ورجال الفن والصناعة ولم تكن الدولة في نظره الا شركة صناعية كبرى، ولم يكن الاقتصاد في نظره الا السياسة كلها الامر الذي يستوجب وضع مسؤوليات الحكم في ايدي العلماء والفنيين والاداريين. وكان سان سيمون ينظر بازدراء الى السياسة وينتقد ترديد مواطنيه لألفاظ الحرية والمساواة بمفهوم الثورة الفرنسية ومعتقدا ان النظام البرلماني وان كان ضروريا الا انه خطوة مرحلية او انتقالية بين الاقطاع وبين النظام الصناعي القائم على التخطيط والخبرة الفنية والادارية. زحف التكنوقراطية على ظهر موكب الانتفاضات الشعبية !! ادت الموجة الثانية من الانتفاضات العربية التي بدأت بانتفاضة السودانيين في 13دجنبر 2018 واستتبعتها انتفاضة العراقيينوالجزائريين في 22 فبراير 2019 ، ثم خرج اللبنانيون في مطلع اكتوبر 2019 في انتفاضة شعبية ضد نظام حكمهم، وحمى هذه الانتفاضات ما يزال مرتفعا في لبنانوالعراق ووصل الى تونس دون ان تخف شراراته .. وبموازاة هذه الانتفاضات الشبابية، ارتفع النقاش بشان صعود التكنوقراطية في هذه البلدان العربية بوصفها مخرجا للازمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تعانيها هذه البلدان، ذلك ان تنامي المطالبة بتولي حكومات تكنوقراط محل حكومات احزاب لطالما كان تقليدا تاريخيا تلجا اليه الانظمة السياسية كلما واجهت ازمات سياسية واقتصادية واجتماعية. في السودان رئيس الوزراء عبد الله حمدوك هو من فئة التكنوقراط اختاره قادة الجيش وقوى الحرية والتغيير بعد الاطاحة بالرئيس عمر البشير، وكان خبيرا اقتصاديا في الاممالمتحدة، وفي الجزائر اختار الجنرالات ورئيسهم "المدني" بعد الاطاحة بالرئيس المنتخب السابق عبد العزيز بوتفليقة السيد عبد العزيز جراد وهو استاذ جامعي لراسة حكومة المستقلين قبل اجراء الانتخابات الحالية، وفي العراق تم اختيار الكاظمي من جهاز المخابرات خارج اسوار المليشيات والاحزاب، وفي لبنان يرى المحتجون والرافضون في حكومة تكنوقراطية مخرجا للتخلص من تحكم الطبقة السياسية الحاكمة، وفي تونس التي وقع فيها انقلاب دستوري يدعو الاتحاد العام التونسي للشغل الى تكوين حكومة مصغرة براسة شخصية اقتصادية و بذلك تختار انتقالا تكنوقراطيا لفض الصراع بين السلطات الثلاث البرلمانية والحكومية والراسية. وفي المغرب سبق ان تم اللجوء الى اختيار شخصيات لا حزبية لراسة حكومات بوجوه تكنوقراطية ( كريم العمراني – جطو…) حتى ان العديد من احزابنا السياسية بدأت في تطوير وسائلها وتدعيم خبراتها القيادية باجتذاب الكثير من الخبراء الاقتصاديين والاطر الادارية العليا والفنيين في تكنولوجيا التواصل والاعلام، والاطباء والمهندسين، واساتذة الجامعات الى صفوفها والاعتماد عليهم في اعداد الدراسات والبرامج التي تناقش في مؤتمراتها الدورية ( حزب الاحرار نموذجا ) ان مذهب رأسمالية السوق الحرة المبنية على تصور جديد للدولة، هو مذهب يؤسس لإقامة دولة تحكمها حكومة شركات، وتديرها الشركات من اجل خدمة الشركات، حتى استطاعت هذه الشركات الدولية الكبرى ان تفرض بالقوة المادية والمالية والتكنولوجية سطوتها على جميع انحاء العالم حدود ما يسمح للسياسيين ان يفعلوه وما لا يسمح لهم. كما انها استطاعت ان تزرع جنود الرأسمالية المشاة ( التكنوقراط)، ومؤسسات الاقراض الدولية الليبيرالية الجديدة(صندوق النقد الدولي والبنك الدولي)، وتعمل العديد من هذه المؤسسات الدولية وصناديقها العالمية على تسويق التكنوقراطية كنموذج عالمي قابل للتنفيذ في كل دول العالم الثالث بهدف " مساعدتها " في تحقيق اهداف التنمية المستدامة وفي محاربة الفقر والجوع والمرض والامية والتمييز ضد المرأة. انه نموذج حكم تهيمن عليه نخبة تكنوقراطية تسعى لفرض سياسة اقتصادية واجتماعية وثقافية قائمة على تطبيق التقنيات الالكترونية والبيانات الرقمية وتقنيات الذكاء الاصطناعي والروبوتات، وتبعث رسالة واضحة و مرموزة على ان الاحزاب والنخب السياسية غير قادرة على مسايرة العصر الجديد، وغير قادرة على ايجاد حلول للمشكلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، لذا لا حل غير اللجوء الى حكم التكنوقراط، هؤلاء الذين يصرون بوجوب ان تحل التقنيات والبيانات والمؤشرات محل الاجراءات والتدابير السياسية باعتبار ان حل المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية يتطلب مقاربة تقنية عقلانية صارمة !!! اذا كان لصعود التكنوقراطية اثر ايجابي على بعض القطاعات الاقتصادية والخدماتية وتحققت بفضلهم بعض الاصلاحات الاقتصادية والاجتماعية الهامشية على المدى القصير، فان ثمة اشكاليات بنيوية كثيرة تواجه بلدان العالم اليوم مثل: استمرار مخاطر العولمة (الابتلاع الثقافي- طمس الهوية- التبعية الاقتصادية والسياسية- زيادة الهوة بين الاغنياء والفقراء- ..)- صعود " اليمين المتطرف " و " الشعبوية السياسية " وهي مخاطر وظواهر تحتاج الى استحداث اطر نظرية جديدة تساعدنا في تحليل هذا العالم الذي نرى فيه الشركات المتعددة الجنسيات مسرفة في سلطانها، ونرى فيها نجم السياسيين قد اخذ في الافول ..وانخفضت نسبة المقترعين في الاستحقاقات الانتخابية والدستورية، وانخفضت نسبة المنتسبين للأحزاب ( وكان تقييم رجال السياسة من حيث الجدارة بالاحترام ادنى من تقييم حرس اماكن وقوف السيارات !!!). ان هيمنة التكنوقراط وهيمنة البيانات والمؤشرات الاحصائية بدلا من الحلول الناتجة عن مقاربات سياسية واجتماعية حقوقية وانسانية قد يهشم رسوخ الديموقراطية. لذا ارتفعت اليوم اصوات من يطالب باستعادة تدخل السياسيين والاحزاب لاسترجاع سلطة الدولة لان قضايا من مثل التدبير الديموقراطي وفصل السلط واختصاصات الهيئات التمثيلية ونظام الحكم المحلي والادوار الجديدة للمجتمع المدني والدولة والانفتاح الاقتصادي، وقضايا حقوق الانسان والبيئة كلها وغيرها تستوجب حلولا سياسية وتدابير اجرائية تستجيب لحاجات المواطنين والناخبين ومصالحهم لا اجراءات ومسارات تستجيب لمصالح نخبة محددة، مما يعني اقصاء الحلول والتطبيقات والنماذج التقنية الموجودة في بلدان يحكمها تكنوقراط وبالتالي ضرورة اقصاء التكنوقراط الكلي في الحكم. وطرف اخر هو من المتحمسين للتكنوقراط يشترطون ان تكون مشاركتهم ضمن عملية تشاركية تعيد الاعتبار الى الاطار السياسي والى الاطار التقني معا وهذا يعني رؤية سياسية تبلور الشعوب افكارها ويتحمل السياسيون مسؤولية تشريعها، ويقوم الخبراء والكفاءات والمختصون بمساعدة السياسيين في تنفيذها. اذا كان كثير من الناس قد فقدوا الايمان بالسياسة وبالسياسيين، فانه لا يجب ان نفقد الثقة في الديموقراطية، ولا يجب الخلط بين الديموقراطية والليبيرالية التي تشجع المواقف الليبيرالية من حقوق الانسان فقط الى الحد الذي تتماشى فيه مع تنمية اقتصاد السوق، كما لا يجب الخلط بين الديموقراطية وحكم التكنوقراط الذي يساهمون في الاحساس بان السياسة لا اهمية لها، وان الانتخاب لا يغير اي شيء، وان الحكومات السياسية اقل فاعلية من الشركات. انه لا بديل عن الديموقراطية، هي التي تضمن حكم الاغلبية ويكون حكمها راجعا الى دستور يضمن الحريات وحقوق الانسان والعدالة الاجتماعية وسيادة القانون والفصل بين السلطات، لذلك يجب ان تعي المؤسسات السياسية الحاجة الضرورية الى الديموقراطية بوصفها اساسا ومرجعا لمن يحكم، وكيف يحكم، وبوصفها مسالة تساعد الشعوب في المشاركة في الحكم، وان تعي التكنوقراطية بوصفها عاملا مساعدا لا بوصفها اساسا او مرجعا في الحكم، فبدلا من الانزياح العالمي نحو التكنوقراطية نخبة ونماذج للحكم نحن في حاجة الى استيعابها وجعلها اكثر استجابة لحاجات الناس ومتطلباتهم في داخل المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية واذا لم نستطع ان ننجح في ذلك فان جاذبية التكنوقراطية ستزداد في مقابل تراجع جاذبية الديموقراطية وهذا مكمن الخطر حيث ستنحدر التكنوقراطية الى منزلق الديكتاتورية والفاشية و البيروقراطية.