لم يبدُ لي أن أسكب من حروف إلا أن أبدأ من حيث انتهيت من مقالي السابق المعنون ب "تطوان اليتيمة"، فلم يكف الأخيرة ما عاشته من أوجاع من يد القريب والغريب حتى نظم وعلى غير العادة من أن تقام ليلة العزاء أيامٌ للاحتفالات، وعلى شرف الرزية الفادحة، المدينة العتيقة لتطوان! ولا تعتقدوا أن هذه تدوينة من نسيج الخيال، وإنما هي محاكاة لحقيقة انتهت بالأمس . فبكل جرأة نظمت جماعة تطوان احتفاليات بمناسبة مرور عشرين سنة على تصنيف مدينتها العتيقة تراثا عالميا إنسانيا، رغم أن هذه الأخيرة تعيش على وقع الخراب جراء الإهمال الذي طالها لسنوات حتى تحولت من مدينة فاتنة إلى خربة مخيفة يهرب منها أبنائها ممن عاشوا بحضنها إلا أن يرجعوا إليها ليحضروا أيام الندب على ضياعها وليس للإحتفال بذكرى تصنيفها من طرف منظمة اليونيسكو كتراث إنساني لم تكن له أي إضافة إيجابية عليها بل سلبية حيث استعمل للإرتزاق به من طرف هذا وذاك . ومن بين أسباب تنظيم احتفاليات ذكرى تصنيف المدينة العتيقة لتطوان تراث عالميا حسب جماعة تطوان، هو إشعاع المدينة العتيقة وتسويقها، وكأن عمرها خمسة سنوات وليس خمسة قرون، وكأنه أيضا تم ويتم دعم تجارها لترويج صناعتهم التقليدية الحرفية حتى يبرزونها للرأي العام الوطني من أجل جلب الناس للتبضع منها، وكأنه كذلك من يزورها لا يسقط ضحية لحفر أرضية وتجرح رجله حتى يسيل دمه كما وقع مع سائحة أجنبية مؤخراً وافتضحنا أمام الإعلام، ويا للعجب . لكن رغم ذلك، ولنفترض أن المدينة العتيقة لتطوان تحتاج فعلاً لتسويق لجذب الأنظار نحوها، فما هي الاستراتيجية الإعلامية التي اعتمدها مجلس جماعة تطوان واللجنة التي عملت على تنظيم هذه التظاهرة لاستغلال هذه الاحتفاليات للتشهير بالمدينة العتيقة غير حشر ممثلي وسائل إعلام لندوة صحفية لاستعراض ما أورده موقع الجماعة من قبل، مما جعل القراء لا يتصفحون سوى عناوين باهتة، وصور متطابقة، ومضامين بمقالات تقريرية طويلة . وحيث، وصلنا إلى تطور مذهل في التطور الإعلامي الذي تجاوز الوسائل البائدة، لا يزال المنتخبون والمسؤولون في كل تظاهرة آخر من يفكرون فيه هو دعوة الإعلام لاستشارتهم لوضع خطة إعلامية للعمل بشراكة تنتج أعمالاً محترمة، بل ينهجون سياسة يتداول بسببها نفس المقال، ولم يستوعبوا رغم سنوات تجربتهم في تدبير الشأن العام أن العبرة بالكيف وليس بالكم، والذي لا يتحقق بالمناسبة إلا بعقد شراكات مع منابر إعلامية محلية وجهوية لتشجيعها لتبرز قدراتها الاعلامية أمام العجز الذي لا يخفى على أحد . حتى لا نضيع في التفاصيل، ونصل لنهاية السخرية قدم في نهاية الاحتفاليات ما سمي ب "نداء تطوان"، وهو يشبه البيانات التي تصدرها جمعيات الأحياء لكي تثبت حضورها في الأوساط الانتخابية، وليس مجلس جماعي منتخب بآلاف الأصوات من ساكنة تطوان، ويتضمن نائبين بالبرلمان، المؤسسة التشريعية الكبرى بالبلاد، ومع ذلك وإن استحسنا عن امتعاض مضامين "نداء تطوان"، فهو لا يقبل من مجلس عمره تسع سنوات، ويقترب من انهاء ولايته الثانية، بل مثله يُصدر في أول سنة من أول تدبير جماعي بعد لقاءات التشخيص مع فعاليات المجتمع المدني . وفي خضم متابعتي لهذه التظاهرة الساخرة، أثارتني صورة جماعية للمشاركين بالاحتفاليات، حيث وقفوا جميعهم أمام معلمة باب العقلة، إلا الدكتور الباحث في التاريخ أحمد بوخبزة، الذي صدع غير ما مرة بمجلس تطوان دفاعا عن تطوان وتهريب الإدارات والمشاريع اللاقتصادية منها، ودوَّن كثيراً حول آثارها التي تهدم تباعاً وقف بعيدا عنهم، في الخلف تماماً، ثم ظهر في صورة أخرى وهو يقدم مداخلة بحسد شامخ ورأس منحنٍ وكأنه يعتذر لمدينته التي تربى في دروبها عن التقصير الكبير بحقها . لا يمكن لأي شخص منصف أن يجحد إنجازات المجلس الجماعي لتطوان على مدى سنوات، لكن احتفالياته بالذكرى العشرينية لتصنيف المدينة العتيقة لتطوان تراثا عالميا سخرية سوداء ومكياج سيِّء على وجه أنثى جميلة مصابة بتشوه الشفة الأرنبية، وبدل أن تجرى لها عملية رفيعة ترقع جراحها بوضاعة، للأسف الشديد .