لم تعرف المشاركة السياسية في عهد الملك محمد السادس مسارا واحدا طبع جميع مراحلها، وإنما خضعت لتموجات تأرجحت بين الدعم لتجربة الاندماج السياسي، وبين محاولات التضييق على التجربة ومنعها من ارتياد آفاقها، لتعرف في محطتها الأخيرة تحولا نوعيا في مستوياتها، وذلك بالانتقال من المعارضة السياسية إلى قيادة الحكومة من دون الاضطرار إلى خوض تجربة وسيطة في المشاركة في الحكومة. وعلى العموم، فقد ساعدت مرحلة الانتقال السلس للحكم من الملك الحسن الثاني إلى الملك محمد السادس، والحاجة إلى توسيع المشاركة السياسية لضمان أكبر التفاف على شرعية الحكم الجديد، في إتاحة هامش أكبر لمشاركة الإسلاميين في انتخابات 2002، جرى على إثره إحداث قطيعة مع منطق الإدماج المقدر المتحكم فيه – الذي حكم تعاطي الملك الحسن الثاني مع التجربة في انتخابات 1997 إلى مرحلة التطبيع السياسي مع حزب العدالة والتنمية، إذ أفرزت نتائج الانتخابات فوز هذا ا الحزب ب42 مقعدا، لكن هذا المسار من الانفتاح والتطبيع السياسي سرعان ما سيواجهه مسار جديد، انطلق عقب تفجيرات 16 مايو (أيار) 2003، مستهدفا هذه التجربة باصطفاف حزبي ومدني وإعلامي وتحميل الحركة الإسلامية المسؤولية المعنوية عن الإرهاب، وجرى الدفع بهذه الحجة لحل الحزب، لولا تدخل المؤسسة الملكية ورفضها إنهاء تجربة الاندماج السياسي للإسلاميين. وعرفت التجربة تحديات كثيرة في السنوات الثماني السابقة عن لحظة الحراك الشعبي، تأطرت بمنطق إضعاف وتحجيم دورهم السياسي مع هاجس ضبط التوازنات الحزبية، لكن انتخابات 2007 ستكشف محدودية هذا الرهان وبداية اختلال التوازنات الحزبية، وذلك بسبب احتفاظ حزب العدالة والتنمية بمقاعده البرلمانية، 45 مقعدا، وتراجع شعبية القوى الديمقراطية التي كانت تقود التجربة الحكومية، ليدخل الحقل السياسي برمته، وابتداء من سنة 2007، وما أعقبها من تشكيل الوزير المنتدب في الداخلية آنذاك، السيد فؤاد عالي الهمة لجمعية «حركة لكل الديمقراطيين» وتحويلها إلى حزب سياسي، إلى مسار تراجعي التبست فيه العلاقة بين السلطة والمكونات السياسية، وساد في أوساط الأحزاب السياسية توجس شديد من أسلوب الوافد الجديد إلى الحقل السياسي، وحجم استعمال السلطة والمقدس في ترتيب الخريطة والتوازنات السياسية، مما سينعكس بشكل مباشر على تجربة المشاركة السياسية للإسلاميين، إذ لأول مرة ستدخل في مسار الممانعة والمقاومة السياسية لهذا المشروع السياسي، وسيبحث حزب العدالة والتنمية عن تعزيز تحالفاته لإيقاف هذا المسار، وهو ما سينجح فيه من خلال تجسير علاقته بحزب الاتحاد الاشتراكي. ومع الربيع العربي، ستعرف مشاركة الإسلاميين انعطافة جديدة، وذلك بتبني اختيار سياسي تمايز فيه الإسلاميون عن حركة الشارع، وتبنوا صيغة تجمع ثلاث مفردات أساسية: المؤسسة الملكية، الإصلاح، الاستقرار، وهو الخيار الذي عزز تموقعهم السياسي في جميع محطات ترتيب النسخة الثانية من الانتقال الديمقراطي، بدءا بتقوية الدينامية السياسية لإخراج دستور يحافظ من جهة على المكتسبات الهوياتية ويعزز مواقعها، ويلبي من جهة أخرى الانتظارات الديمقراطية للحراكين الشعبي والسياسي، ومرورا بتصدر نتائج انتخابات 25 نوفمبر (تشرين الثاني) 2011 ب107 مقاعد، وانتهاء بتشكيل الحكومة وقيادتها، لتعرف هذه المحطة الفترة المشرقة لتجربة الاندماج السياسي، التي تعززت فيها الثقة بين الإسلاميين والمؤسسة الملكية في شكل شراكة في البناء الديمقراطي. وعلى العموم، وطبقا لهذا التوصيف يمكن أن نتحدث عن ثلاثة محددات حاكمة لهذا لمسار مشاركة الإسلاميين السياسية في المغرب: - المحدد الأول: ويرتبط بالديناميات التي تنتجها مختلف القوى السياسية للتأثير في علاقة الإسلاميين بالمؤسسة الملكية، إذ تعكس حالة اللااستقرار في مسار المشاركة السياسية للإسلاميين مستويات التدافع بين خيار التقارب والثقة الذي ينتجه الإسلاميون وبين خيار التوجس الذي تنتجه بعض القوى المؤثرة في محيط القرار بخلفية منع إرباك الإسلاميين للنسق السياسي، إذ تتعدد الديناميات السياسية الموجودة في المجال الفاصل بين هذين الخيارين، وتميل المؤسسة الملكية في الغالب إلى ترجيح خيار التطبيع السياسي مع الحركة الإسلامية، ويتعزز مسار الثقة بقدر الاقتراب من قيادات هذه الحركة والرصد المباشر لأدائها السياسي. - المحدد الثاني: ويرتبط بالمناخ السياسي المحلي والإقليمي، إذ فرضت لحظة الانتقال السلس للعرش توسيع فضاء التجربة السياسية للإسلاميين، كما فرضت لحظة الحراك الشعبي والسياسي والتوجه الدولي نحو إشراك الإسلاميين في عملية التحول السياسي في الوطن العربي إلى تبني نفس التوجه السابق، بينما استغلت بعض الديناميات السياسية تفجيرات الدارالبيضاء وضعف القوى الديمقراطية لتضخم من هاجس اختلال التوازنات الحزبية وتؤثر بذلك على مسار المشاركة السياسية للإسلاميين وتبرر تحجيم دورهم بدل مراجعة خيار إشراكهم. - المحدد الثالث، ويرتبط بالسلوك السياسي للإسلاميين ونوع الخطاب الذي تبنوه في المراحل السياسية السابقة، إذ تجنبوا السقوط في أخطاء التجربة اليسارية التي نازعت المشروعية السياسية، كما تبنوا خيار المنهج الإصلاحي التراكمي ضمن إطار الاستقرار السياسي، وخاضوا معارك دون السقوط في مربع النزاع مع المؤسسة الملكية، وتطور سلوكهم السياسي أكثر مع تحولهم من مواقع المعارضة إلى قيادة الحكومة، وذلك من تبني أطروحة النضال الديمقراطي إلى تبني أطروحة الشراكة في البناء الديمقراطي مع المؤسسة الملكية وبقية الفرقاء السياسيين، كما أصروا على ترسيخ فكرة الشراكة مع الفاعلين السياسيين وتجنب أي سقوط في نزعة الهيمنة أو استغلال الموقع الحكومي من أجل تحزيب الإدارة والمؤسسات. الخلاصة، ورغم استمرار التدافع السياسي للتأثير على العلاقة بين المؤسسة الملكية والإسلاميين، يبدو أن متجه المشاركة السياسية للإسلاميين توسعا وانحسارا سيكون محكوما بنفس المحددات السابقة، لكن يبقى الأمر الحاسم فيها هو مدى نجاح الإسلاميين في الاستمرار في ترجمة نفس الأطروحة التشاركية، وترسيخ عناصرها لتصير مرجعية سياسية غير قابلة للمراجعة. "الشرق الاوسط"