في الحاجة إلى عقول راجحة يبدو أن موضوعنا السابق حول أسرار الدولة العميقة قد لا مس أذرعا جعلت عشرات الرسائل والتعليقات تتقاطر على بريدي الإلكتروني.. رسائل تتفرق بين ".. آش دَّاك تْعَلَّقْ فين تْفَلَّقْ.." وبين مزيد من النقاش حول المفهوم الذي مع الأسف يحمل شحنة غير جميلة من المفاهيم القائمة، عن الديمقراطية الحقة وغير الحقة.. لن أطيل في نقل تعليقات المعجبين بالفكرة وشكل طرحها.. مع الأسف، وكي أُدخل عليكم بعض السرور ".. ليس بينهم وَلاَ معجبة واحدة.." مع أن النساء تقدنَ هذه الأيام رَحَى بكل الأسلحة للدخول إلى برلمان "عشرين فبراير" نسبة إلى الحركة التي عجَّلت بالانتخابات المقبلة. ضمير الدولة لَمَّا أردنا الحديث عن هذا المفهوم في مقالنا السابق، لم يكن الهدف الخوض في الماء العكر.. ولم يكن الهدف أيضا تناول المفهوم في شكله الدستوري، ولا في شكله السياسي.. ولا في حجمه المخابراتي.. ولا في مظاهره "القدحية" عموما.. بل الأمر أبسط وأهون من ذلك.. أحْنَا دولة وشعب وأمة بدأت تعرف مساراً مختلفا عما سبق في حياتها! ترتكب بين الفينة والأخرى بعض الحماقات.. هذه الحماقات تتخذ شكلا سياسيا، أمنيا واجتماعيا.. من المفروض أن تكون هناك مؤسسات وعقول وأجهزة تحمينا من هذه الحماقات.. وكفى، "فلا تحمِّلونا ما لا طاقة لنا به"! فقط اتركوا الدولة الظاهرة تشتغل بوضوح وفي واضحة النهار بما يؤسس لها الدستور والقانون.. واعلموا أن أي تدخل في غير محله سيجعل الثقة تنعدم بتاتا فيما هو قائم.. وقد يجر علينا "نَحْساً.. وبؤساً وحنقا" لا قبلَ لنا به.. وأن الهدف الوحيد والأوحد من كل التحولات التي شهدناها منذ العشرين من فبراير إلى تاسع مارس إلى فاتح يوليوز، هو تصالح الشعب والمواطن المغربي مع الفضاء الذي يعيش فيه، حتى لا يُحاجِجَ أحدٌ في أحد.. أو حتى لا يدعي أحد.. "أنه ليس هذا هو الإصلاح الذي نريد..!!؟" وحتى لا ننتقل من عشرين فبراير إلى أربعين فبراير لا قدر الله..! نقطة إلى السطر.. لم نقصد بالدولة العميقة.. لا حكومة الظل.. ولا حكومة الشمس.. ولا المربع الضيق ولا المستطيل الواسع.. كنا نقصد على الخصوص ضمير الدولة.. أتعرفون ما معنى ضمير الدولة؟! الدولة العميقة في معاجم السياسة بما أن الفضول يجر إلى المزيد من البحث.. فقد آثرت أن أحفر على كتب العلوم السياسية والفلسفة السياسية والاجتماعية، ورحتُ أبحث فيما هو أقرب ربما للرجل العادي والإنسان البسيط.. نَقْرةٌ واحدة في عالم غوغل تقود بسهولة إلى مفهوم الدولة العميقة في تركيا..!! وهكذا وجدت أن الأصل في الدولة العميقة وتعني بالتركية (derindevlet) مجموعة من التحالفات النافذة والمناهضة للديمقراطية داخل النظام السياسي التركي... وكل تشابه في الأسماء أو تطابق في المظاهر ليس إلا من نسج الخيال أو للضرورة الفنية..!". تتكون هذه التحالفات من عناصر رفيعة المستوى داخل أجهزة المخابرات (المحلية والأجنبية والقوات المسلحة التركية والأمن والقضاء والمافيا..). وفكرة الدولة العميقة، مشابهة لفكرة "دولة داخل الدولة" ولهؤلاء المعتقدين بوجودها، فالأجندة السياسية للدولة العميقة تتضمن الولاء للقومية وCorporetisme، ومصالح الدولة. العنف ووسائل الضغط الأخرى قد تم توظيفهم تاريخيا بطريقة خفية في الأغلب للتأثير على النخب السياسية والاقتصادية لضمان تحقق مصالح معينة ضمن الإطار الديمقراطي ظاهريا لخريطة القوى السياسية، الرئيس السابق سليمان دميرل يقول: "إن منظر وسلوك النخب (التي يسيطر عليها العسكر) والتي تكون الدولة العميقة، تعمل على الحفاظ على المصالح الوطنية، يشكله إيمان متجذر، يعود إلى سقوط الدولة العميقة، بأن البلد هو دوما "على حافة الهاوية"..!؟ إيديولوجية الدولة العميقة يراها السياسيون مناهضة للعامل أو وطنية متطرفة، ويراها الإسلاميون مناهضة للإسلام وعلمانية، ويراها الأكراد مناهضة للأكراد. وكما يوضح رئيس الوزراء الأسبق بولنت أجاويد، فإن تنوع الآراء يعكس عدم اتفاق على ما يكون الدولة العميقة، أحد التفسيرات هو أن "الدولة العميقة" ليست تحالفا، بل إنها مجموع عدة مجموعات تعمل ضد بعضها البعض خلف الكواليس، كل منها يسعى لتنفيذ الأجندة الخاصة بها. وشائعات الدولة العميقة تروج في تركيا منذ فترة حكم أجاويد كرئيس وزراء في السبعينيات، بعد إعلانه عن وجود فرع تركي لعملية "كلاديو" المناهضة لحرب العصابات. بالنسبة للمراقب الأجنبي، فإن الاعتقاد التركي بالدولة العميقة هو ظاهرة اجتماعية مثيرة للاهتمام وتبدو أنها مبنية على مجموعة من الحقائق ونظريات مؤامرة. فالعديد من الأتراك، بما فيهم سياسيون منتخبون، قد صرحوا بأن "الدولة العميقة موجودة". هذا مجمل الكلام الأساسي المتوفر على صفحات ويكيبديا حول "الدولة العميقة"، ويبدو أن نظرية الدولة الإسلامية القائمة في تركيا اليوم قد انتصرت على هذا المفهوم، بعد التحولات التي حصلت منذ تحول الوضع السياسي هناك. مفهوم الدولة العميقة الذي نقصد، يختلف جملة وتفصيلا عما في تركيا.. فعلى ما أعتقد نحن لا نتوفر على تحالفات نافذة تناهض الديمقراطية! ولا على عناصر نافذة داخل المخابرات أو الأمن أو القضاء أو العسكر ولا توجد في بلادنا والحمد لله مافيا والعياذ بالله كما أنه لا نعاني من أي اعتقاد متجذر بأن البلد عن حافة الهاوية.. دولتنا العميقة التي نريد.. دولة راجحة العقل محبة للديمقراطية مخلصة لثوابت البلاد تتناغم أهدافها وتطلعاتها مع تطلعات العالمين من أولاد الأمة.. مواطنون عاديون ونخبة اقتصادية وسياسية واجتماعية.. الدولة العميقة على كل حال، حصن وأمان للانتقال نحو المغرب الذي أرادته براعم عشرين فبراير وخطاب تاسع مارس ودستور فاتح يوليوز "وَكايْنْ شي نُبل أكثر من هذا..". في إطار هذا النبل تعاندنا بعض الأسئلة.. تسائلنا بعض المواقف بجدية، نحتاج إلى مناقشتها، والأمثلة موجودة وتفرض نفسها علينا كل يوم.. أسئلة كان من المفروض أن تقينا منها "الدولة العميقة" أي العقول الراجحة والأفئدة الديمقراطية، التي تتدخل بكل تجرد في الوقت الموعود والموعد الموقوت حتى ترد الأمور إلى نصابها.. الأسئلة المعلقة في الدولة العميقة سأختار مظاهر عشوائية وحالات مختلفة يحير فيها الباحث عن المنطق الديمقراطي في الأشياء والطبيعي في الحياة..! أين هي الدولة العميقة حينما حاد المسار الديمقراطي عن طريقه، منذ أن تجدد الترحال السياسي..؟ أين كانت هذه الدولة حينما انبعث الفصل الخامس من قانون الأحزاب قبل الشروع في تعديله، وقد كنا نعتقد أن الأمر انتهى؟! أين كانت هذه الدولة حينما انفجرت أحداث أكديم إزيك..؟! أين كانت هذه الدولة حينما "فشل" مهرجان الداخلة قبل شهور.. وحينما قامت فوضى بعد مباراة لكرة القدم، طبيعي أن يكون فيها الخاسر والرابح..!؟ لماذا تتأخر الدولة العميقة في كشف الأحداث الإرهابية.. رغم أنها تجتهد في تفكيك خلايا نائمة كل مرة وحين..! ما الذي حصل حتى نصادق على القوانين الانتخابية "بستة وستين كشيفة!!" ما الذي حصل حتى يصادق مجلس الحكومة في إطار الدستور الجديد على قانون المالية.. ثم يوضع في البرلمان. ثم يسحب من البرلمان.. ثم تشكل "خلية أزمة".. ثم تصدر الحكومة بيانا بعد حين..؟! أي بعد السحب وليس قبله.. وأين كانت العقول الراجحة عندما اتفق الجميع على جدول الدورة البرلمانية الاستثنائية وعلى دراسة المالية في الدورة البرلمانية، ثم ينزل قرار الإحالة.. في أقل مما يتوقع الفاعل السياسي، ويسحب القانون.. وبعيداً عن هذا، كيف استفاقت الدولة العميقة بعد حين من الزمان.. وفكرت في إعطاء عناصر "الديستي" صفة ضباط الشرطة القضائية!؟ ثم ما حاجة الدولة العميقة إلى سلسلة المحاكمات التي يعرفها الجسم الصحافي بدءاً بمدير "المساء".. أطلق الله سراحه.. إلى مدير ورئيس تحرير المشعل؟! ثم ما الحاجة إلى خلق غاضبين أو مقاطعين للمسلسل الانتخابي المقبل..!! أليس هناك عقل راجح واحد قادر على بناء جسر تواصل حقيقي مع كل المكونات الغاضبة أو اللآمبالية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار.. المجتمع يطمح إلى التصالح مع كل مكوناته.. ليكن تصالحاً بدون استثناء! ثم إن التصالح مع الذات فيه الكثير من الأمور.. ليس المؤسسات فقط.. هناك التصالح مع الهوية.. اللغة على سبيل المثال لا الحصر.. دستورنا يتكلم اللغة العربية كلغة رسمية أو اللغة العربية والأمازيغية لغتان وطنيتان.. ولم يتكلم أبداً بل قطعا عن اللغة الفرنسية.. التي تعتبر لغة المستعمر.. فلماذا، هناك رجل إسمه بنموسى رئيس المجلس الاقتصادي والاجتماعي يحتج لديه أعضاء المجلس أن اللغة التي يجب أن تسود هي اللغة العربية "وِلاَ بْغينا نكونوا "وطنيين".." قد نسمح بالأمازيغية.. ومع ذلك تُلقى التدخلات بالفرنسية.. ويقول بنموسى.. المهم هو أننا نتواصل ونفهم ما المراد.. أليس هذا ضحك على الذقون؟! ألا تستوجب مثل هذه العثرات تنبيها من الدولة العميقة.. التي قد نكون نحن الآن من خلال هذه الأسطر جزء منها..! إلى متى ستتراكم الكَبَوات؟! إلى متى نشهد على الحماقات ونُجاري أهلها.. أخاف أن يصبح حالنا حال ذلك الرجل الذي بلغ منه الحمق درجات إلى أنه نادى في الناس من يعلم حماره النطق بالإنجليزية وله منه قصرا وخدما وحشما وما تشتهيه الأنفس من النساء ومتاع الدنيا.. إن توفق في مهمته..!! وإن لم يتوفق يُقطع رأسه.. فلم يتقدم إليه أحد.. لكن أحد الحشاشين عبَّر عن استعداده لتعليم الحمار النطق بالإنجليزية، ووافق على جميع الشروط.. غير أنه اشترط في المقابل مدة تعليم لا تقل عن خمسين سنة!! وكذلك كان، سلمه الرجل القوي صاحب الفكرة "الحمقاء".. مفاتيح القصر والخدم والحشم والمأكل والمشرب وطبعا حماره المفضل..! وبدأ الحشاش يجمع أصدقاءه للسهر والطرب والتباهي بينهم.. فقال له أحدهم: كيف تقبل تعليم ما لا يمكن تعليمه؟! ألا تعلم أن رأسك مفصولة لا محالة!! فأجابه الحشاش.. لقد اشترطت على صاحب الشأن مدة لا تقل عن خمسين سنة لتعليم الحمار وقد وافق المعني بالأمر.. وخلال الخمسين سنة هذه قد يموت من اتفقتُ معه.. فأتحرر من واجب الالتزام!! وقد أموت أنا.. فأكون قد استفدت خلال هذه المدة من النعيم الذي تراه.. وقد يموت الحمار نفسه.. فلا يُصبح للاتفاق معنى..!! أرجوكم لا تسألوني عن علاقة هذه القصة بالدولة العميقة!! [email protected]