دواعش جداد طاحو. خلية ارهابية فيها 5 كتوجد لتنفيذ مجازر فبلادنا تشدات    "حرية الصحافة"..المغرب يرتقي في التصنيف والصحافة المستقلة مهددة بالانقراض بالجزائر    المرة اللولى منذ 2009.. واحد من الحزب الإسلامي المعارض كيترشح للانتخابات الرئاسية ف موريتانيا    أوريد: العالم لن يعود كما كان قبل "طوفان الأقصى"    تركيا تعلن وقفا كاملا للتعاملات التجارية مع إسرائيل    توقعات أحوال الطقس اليوم الجمعة    ال BCIJ يُوقف 5 عناصر موالين لداعش كانوا يُخططون لأعمال إرهابية    ثورة الطلاب في أمريكا من أجل غزة.. هكذا بدأت الاحتجاجات    "تقدم إيجابي" فمفاوضات الهدنة.. محادثات غزة غتستمر وحماس راجعة للقاهرة    فيديو: هاتريك أيوب الكعبي في مرمى أستون فيلا    الفرقة الجهوية دالجندارم طيحات ريزو ديال الفراقشية فمدينة سطات    زلزال جديد يضرب دولة عربية    ريم فكري تفاجئ الجمهور بأغنية "تنتقد" عائلة زوجها "المغدور"    تكريم حار للفنان نعمان لحلو في وزان    انهيار طريق سريع جنوب الصين: ارتفاع حصيلة الضحايا إلى 48 شخصا    هذه وضعية سوق الشغل خلال الفصل الأول من سنة 2024    الدوري الأوربي: ليفركوزن يعود بالفوز من ميدان روما وتعادل مرسيليا واتالانتا    ماذا قال أمين عدلي بعد فوز ليفركوزن على روما؟    بلاغ هام من وزارة الداخلية بخصوص الشباب المدعوين للخدمة العسكرية    هل ما يزال مكيافيلي ملهما بالنسبة للسياسيين؟    رسالة هامة من وليد الركراكي ل"أسود" الدوريات الخليجية    مناهل العتيبي: ما تفاصيل الحكم على الناشطة الحقوقية السعودية بالسجن 11 عاماً؟    إقليم الصويرة: تسليط الضوء على التدابير الهادفة لضمان تنمية مستدامة لسلسلة شجر الأركان    عقب قرارات لجنة الأندية بالاتحاد الإفريقي.. "نهضة بركان" إلى نهائي الكونفدرالية الإفريقية    مهرجان أيت عتاب يروج للثقافة المحلية    الإبقاء على مستشار وزير العدل السابق رهن الاعتقال بعد نقله إلى محكمة تطوان بسبب فضيحة "الوظيفة مقابل المال"    تطوان: إحالة "أبو المهالك" عل سجن الصومال    الكعبي يتألق في أولمبياكوس اليوناني    بوريطة يتباحث ببانجول مع نظيره المالي    عمور.. مونديال 2030: وزارة السياحة معبأة من أجل استضافة الفرق والجمهور في أحسن الظروف    تفكيك مخيّم يثير حسرة طلبة أمريكيين    وفاة المحامي والحقوقي عبد العزيز النويضي اثر سكتة قلبية    العقائد النصرانية    تنفيذ قانون المالية يظهر فائضا في الميزانية بلغ 16,8 مليار درهم    الأمثال العامية بتطوان... (588)    أوروبا تصدم المغرب مرة أخرى بسبب خضر غير صالحة للاستهلاك    جامعيون ومتخصصون يحتفون بشخصية أبي يعزى في ملتقى علمي بمولاي بوعزة    بايتاس رد على لشكر والبي جي دي: الاتفاق مع النقابات ماشي مقايضة وحنا أسسنا لمنطق جديد فالحوار الاجتماعي    مجلس النواب يعقد الأربعاء المقبل جلسة عمومية لمناقشة الحصيلة المرحلية لعمل الحكومة    ها التعيينات الجديدة فمناصب عليا لي دازت اليوم فمجلس الحكومة    المخزون المائي بسدود الشمال يناهز مليار و100 مليون متر مكعب    باحثون يكتشفون آليات تحسّن فهم تشكّل الجنين البشري في أولى مراحله    بذور مقاومة للجفاف تزرع الأمل في المغرب رغم انتشارها المحدود    رسميا.. جامعة الكرة تتوصل بقرار "الكاف" النهائي بشأن تأهل نهضة بركان        النفط يتراجع لليوم الرابع عالمياً    إلقاء القبض على إعلامية مشهورة وإيداعها السجن    الطيب حمضي ل"رسالة24″: ليست هناك أي علاقة سببية بين لقاح أسترازينيكا والأعراض الجانبية    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    مسؤولة في يونيسكو تشيد بزليج المغرب    "الراصد الوطني للنشر والقراءة" يعلن عن أسماء الفائزات والفائزين بجائزة "الشاعر محمد الجيدي" الإقليمية في الشعر    "دراسة": زيادة لياقة القلب تقلل خطر الوفاة بنحو 20 في المائة    عبد الجبّار السحيمي في كل الأيام!    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الخميس    دراسة: مجموع السجائر المستهلكة "يلتزم بالثبات" في إنجلترا    باحث إسرائيلي في الهولوكوست: إسرائيل ترتكب جريمة إبادة جماعية في غزة.. وهناك أدلة كافية قبل أن صدور إدانة المحكمة الدولية    أثر جانبي خطير لأدوية حرقة المعدة    الأمثال العامية بتطوان... (586)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



السلفية المرحلية في تكوين المجتمع الوهابي
نشر في هسبريس يوم 05 - 10 - 2009

يبدو أن طرح موضوع الوهابية على مستوى دراسة اجتماعية تلحظ الممارسة العلمية في الزمان والمكان للمتذهبين بها ليس بالأمر الهين واليسير، لأنه يتطلب بحثا ميدانيا وواقعيا لرصد آثار هذه المذهبية التي لم تكن مجرد مذهبية شخص أو عالم فقيه فقط، وإنما هي مذهبية شعب ومجتمع يكرسها عقيدة وسلوكا وسياسة في الداخل والخارج، وبذلك أصبحت تمثل حركة يساهم في تأسيس برامجها ومناهجها رجال الفقه والسياسة والاقتصاد وما إلى ذلك، ولهذا فهي عند دراستها تعرف تداخلا وتشابكا موضوعيا يصعب فصل عناصرها عن بعضها البعض لأنها تعرف وصلة هامة بين التنظير والممارسة وبين فتاوى الفقه والسياسة. ""
ولقد كان الغالب على الباحثين ومازال الأمر على ما كان عليه أن تدرس الوهابية في حقل ضيق لا يخص سوى مؤسسها محمد بن عبد الوهاب النجدي وآرائه في دعوته إلى تصحيح العقيدة والالتزام بالسلفية حسب منظوره الخاص، ومن هنا فالأبحاث جلها تركزت على دور محمد بن عبد الوهاب، بتحليل موقفه العقدي ومحاربته لما يصطلح عليه بأهل البدع وتهديمه للأضرحة ومنع التوسل بالأولياء... وما إلى ذلك مما أصبح في عداد الابتذال النقدي والاصلاحي إن صح التعبير- بسبب تكرار هذا الموضوع في كل محفل وخطاب ومؤتمر بأسلوب سطحي وتقليدي إنتقادي معروف، ومن هنا فقد كان الرد على هذه الحركة أيضا من جنس طرحها المشهور، وتوالت الآليف ما بين مؤيد للوهابيين وناقد لغيرهم، وما بين رافض للوهابيين ومؤيد لغيرهم وخاصة في هذا الباب الفقهي العقدي.
لكن هؤلاء وأولئك قد نسوا أو تناسوا أن الوهابية لم تكن مذهبا فكريا أوعقديا محضا، وإنما هي حركة جعلت من توجهها العقدي والفقهي قاعدة للحكم والتصرف السلطوي، فأصبحت بهذا تتحمل مسؤولية مجتمعها في كل تصرفاته النفسية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية وذلك من خلال الاتفاق التأسيسي للدولة الوهابية الذي تم بين محمد بن عبد الوهاب ومحمد بن مسعود، وهو اتفاق بين سلطة اللسان وسلطان السنان على صورة مشبوهة وذات خلفيات غامضة
أولا: الأسرة الوهابية بين التماسك ومؤشرات التفكك
في الواقع لا يمكن القول بأن هيكل الأسرة وبناءها في المجتمع الوهابي قد طرأ عليه تغيير جذري عام، كما أنه يجوز لنا القول بأن المدرسة الوهابية قد أدخلت عوائد هي قديمة في مصدرها، ولكنها بالنسبة للمجتمع الذي تولت أموره قد تبدو فيها بعض مظاهر الجدة، وذلك أن الوهابية لم تفرض نظرية جديدة أو تشريعا جديدا في مسألة الأحوال الشخصية والبناء الأسري، لأنها التزمت المذهب الحنبلي السني في اجتهاداته وهو بالتالي التزام بما ينص عليه ظاهرا القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، وحول هذا الموضوع يقول محمد بن عبد الوهاب في كتابه الهدية السنية ص 99 : " وأما مذهبنا فمذهب الإمام أحمد بن حنبل، إمام أهل السنة في الفروع ولا ندعي الاجتهاد وإذا بانت لنا سنة صحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عملنا بها ولا نقدم عليها قول أحد كائنا من كان"[1]. فإذا لا شيء جديد أضيف إلى الساحة الاجتماعية المتعارف عليها، إلا أنه يبقى الأمر متعلقا بمدى الحفاظ على سلامة هذه الرابطة، ومدى الالتزام بتطبيق قواعد بنائها تطبيقا سليما وإدخال الثقة في نفوس الأفراد اتجاه عائلاتهم وزوجاتهم وأولادهم، وذلك بإقامة عقوبة الحدود على المخالفين للصراط القويم الذي تنص على اتباعه الشريعة الإسلامية كما استعرضته بإيجاز من قبل. إلا أن أهم ما يمكن تسجيله بصفته الظاهرة البارزة في الوسط الاجتماعي الوهابي هو موضوع علاقة الرجل الأجنبي بالمرأة الأجنبية ومدى تطبيق مبدأ الفصل بينهما في باب المعاملات العامة.
فلقد درجت الوهابية في بادىء أمرها على تحريم أي اتصال بين الجنسين - الرجل والمرأة - غير ذوي المحارم وكان تطبيقها لهذا المبدأ صارما لا هوادة فيه، بحيث لم يعد أثر يسجل في الاختلاط بين الرجال والنساء، لغاية أنه كانت تقام مواسيم تجارية في الدرعية وغيرها كان يفرق فيها بين الرجال والنساء، فكان كل جنس يأخذ حيزه الخاص بالسوق لا يلتقي هؤلاء بأولئك. فيقول ابن بشر في هذا الموضوع :
" ولقد نظرت إلى موسمها - الدرعية - وأنا في مكان مرتفع - وهو في الموضع المعروف بالباطن، بين منازلها الغربية التي فيها آل سعود، والمعروفة بالطريق وبين منازلها الشرقية المعروفة بالبحيري التي فيها أبناء الشيخ، ورأيت موسم الرجال في جانب، وموسم النساء في جانب وما فيه من الذهب والفضة والسلاح والإبل والأغنام وكثرة ما يسمع من صفقة البيع والشراء"[2].
تلكم كانت حالة المرأة والرجل في المجتمع الوهابي آنذاك وهو الشيء الذي يكفل الأمان التام للعلاقات الأسرية ويبعدها عما يشوبها من ريب وشك بسبب الاختلاط والتبرج سبق وبينا سلبياته وخلفياته في كتابنا "حجاب المرأة وخلفيات التبرج في الفكر الإسلامي" وذلك بأسلوب علمي وموضوعي وبأبعاده النفسية والروحية، ومع ذلك فالوهابية أخذت موضوع الحجاب بشكل متشدد واعتمدت النقاب على عمومه كنموذج الطالبان فيما قبل بأفغانستان. وهذا ما ينقلب عكسا كليا حيث تواتي الفرصة للتغيير سواء الاجتماعي أو السياسي والمذهبي، لكن هذا الإطلاق في منع اتصال الرجل بالمرأة الأجنبية أيا كان نوع هذا الاتصال قد تغير بشكل مثير ومضطرب، وذلك بسبب إدخال المرأة في كثير من المرافق العامة وخاصة في ميدان التعليم، الذي اضطرت بموجبه المرأة أن تقابل الرجل وتتحادث معه، ولكن في إطار محدد لا يخرج بها عن الصفة الشرعية ظاهريا، والشيء الذي يمكن إدراجه في موضوع التغير الذي يهم الجانب الأسري هو العادات التي طرأت على بعض المظاهر التي يتم بموجبها الزواج والتغير الذي حصل في الوظائف التي كان ينبغي أن يقوم بها كل عضو في الأسرة.
فالزواج كان وقد بقي أغلبه يتم في سن مبكرة، وهذا السن الغالب فيه يكون بالنسبة للبنت 13-14 من العمر وبالنسبة للولد 15-16 سنة، كان كل ذلك بعد ظهور الحركة الوهابية طبعا. ولقد كان هذا الزواج يتم دون أن يرى الزوج زوجته ولا أن يلحظها اللحظة المنصوص عليها شرعا، وهذه الحالة كان الغالب سريانها في الحاضرة أما في البوادي فقد كانت هناك بعض الظروف ميسرة للرجل في أن يسترق النظر إلى من يريد التزوج بها نظرا لأن الفتيات كن يقمن بعمل الزرع والحطب وكذلك الرعي خارج منازلهن [3]. وهذا الحاجز الذي كان يحول بين رؤية الشاب أو الراغب في الزواج لمن يريد التزوج بها هو في حد ذاته تغيير أحدثته المدرسة الوهابية في مجتمعها بسبب منع الاختلاط منعا كليا، وكان من نتيجته أن برز دور الوسيط في تحقيق الزواج، وأصبح تدخل الأبوين جوهريا في اختيار الزوجة لابنهما، فكان يقوم بهذا الدور طبعا، النساء فيما بينهن[4].
ولقد استمر هذا الوقار الاجتماعي في الوسط الوهابي بنسبة لا بأس بها، من أهم مظاهره على سبيل المثال، أنه يوجد في كل منزل من منازل العائلات عندهم في القديم وحتى الآن بيت خاص للحريم وآخر للرجال[5].
أما فيما يتعلق بالمهور، فإن الأمر أصبح عسيرا ومعقدا، وذلك لارتفاع أثمانها بنسب عالية قد ترهق كاهل الطبقة الوسطى أو الضعيفة، وتعجزها عن الزواج بمن ترغب، ففي أول الأمر من ظهور الحركة الوهابية كانت المهور تسير سيرا عاديا[6]. ولم تكن هناك عقبات في الزواج من هذه الناحية، إلا العادات التي كانت رائجة آنذاك، ولم تستطع المدرسة الوهابية إزاحتها لحد الآن ألا وهي عقبة الحسب أو الطبقة الاجتماعية التي ينتسب إليها كل من الزوج أو الزوجة ويبرز هذا قول إخباري من "سيت تنومة" وهي قرية سعودية "إذا كانت عائلة الفتاة كبيرة عريقة فهي تختار من يناسبها. ولا يستطيع كل شاب خطبتها إلا شاب مساو لها في المكانة والمنزلة أو يعلو عنها في ذلك"[7].
ولقد برزت ظاهرة ارتفاع المهور بوضوح في عهد الملك عبد العزيز مما دعاه إلى تحديدها في نجد، بمائة ريال حتى يسهل الزواج لكل الناس. وهذا يدخل ضمن أعماله الإصلاحية الاجتماعية. إلا أن المجتمع آنذاك لم يلتزم هذا التحديد فبقي التضارب على أثمان المهور قائما سواء من طرف الموجب أو القابل، باستثناء المنطقة البدوية التي بقيت نوعا ما محتفظة بالنسبة العادية لأثمان المهور[8].
وهذا الارتفاع في المهور كان بمثابة رد فعل قوي على التلاعب بالعلاقات الزوجية، الذي بدأ صدوره عمن يغرهم المال ويؤثر في أخلاقهم البذخ والترف. فكان هذا الرد من طرف الأولياء يهدف للحفاظ على مستقبل بناتهم أو مولياتهم وردع كل من تسول له نفسه الإسراع بالطلاق أو إحراج زوجته الأولى بالتزوج عليها.
وفعلا لوحظ بروز ظاهرة الطلاق بكثرة في المجتمع الوهابي وعزي سببه حسب ما افترضه الإخباريون الاجتماعيون - إلى ازدياد موجة الثراء الذي سببه البترول. والنزوع إلى تعدد الزوجات بسبب هذا الثراء[9] لغاية أن اعتبر كثير من علمائهم كتبرير أو تقرير بأن التعدد هو الأصل في الزواج والواحدة هي الاستثناء، وعلى هذا فالطلاق الجاري هناك ملاحظ كثيرا بين الأمراء والأغنياء وشيوخ البوادي. كما يلاحظ نقصه عند الفقراء بالضرورة نظرا لعدم تمكنهم من استبدال زوج بآخر!.[10]
وحول هذه المسألة فقد كان لي سجال مع علماء الوهابية عبر جريدة المسلمون قبيل حرب الخليج الثانية ،إذ طلعت عليهم بموقف واضح حول التعدد وهو اعتبار أن الأصل في الزواج هو الواحدة والتعدد استثناء من لدن آدم وحواء حتى سيرة نبينا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وزواج السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه،وذلك من غير إلغاء لحكم جواز التعدد شرعا، على عكس ما كانوا يروجون له في جرائدهم ومنابرهم باعتبارهم أن الأصل هو التعدد والواحدة هو الاستثناء.وقد كنت فاجأتهم بأدلة من القرآن الكريم ومن عمق السنة النبوية الشريفة وتطبيقاتها، حتى وصل الأمر بطرح المسألة على مؤتمر وزراء الأوقاف والشؤون الإسلامية بجدة و الذين خرجوا بموقف وهو :أن الأصل في الزواج هو التعدد.وبهذا فلم يقدموا أي حل للمشكلة التي طرحها علماء الخليج ودافع عنها أغلبهم من بينهم العلامة سيد سابق ودرويش جنينة ولم لا محمد الغزالي وغيره لا أتذكر أسماءهم،بل ضمنيا بقي موقفي هو المطروح والذي سيؤيده بعض علماء المغرب باحتشام فيما بعد حمي السجال وطول مدة بروز الجدل الفقهي عبر الجرائد،في حين كانت ردود المعلقين كما هو الشأن في الجرائد الإلكترونية من أسوأ الردود والانتقال من المسألة العلمية إلى الشخص كتعبير عن ضعق المستوى الأخلاقي والسلوكي عند الشريحة العامة من المتسلفة تجاه من يخالفهم الرأي.
فمسألة التركيز على تعدد الزوجات واستخراج الفتاوى الشاذة لتكريس توجه ذوي الثراء فيما يتعلق بموضوع الشهوات لهي المفارقة بعينها والتناقض بين مزاعم السلفية وزعمائها التاريخيين كما أنها قد تلتقي بوجه أو آخر مع تركيز الشيعة على زواج المتعة بعدما حرمته الشريعة الإسلامية بالنص الناسخ والواضح الدلالة.
تتجلى المفارقة في أن زعيم السلفية التاريخية وهو ابن تيمية نفسه لم يكن متزوجا ،وهذه نقطة سوداء في سيرته الذاتية ومخالفة لمنهج السلف الصالح في اقتدائهم بالرسول صلى الله عليه وسلم عند قوله :"سنتي النكاح ومن رغب عن سنتي فليس مني"،وبهذا فقد كان ابن تيمية ناقص الدين وناقص العاطفة والمودة وهو ما سينعكس على أتباعه وذلك بالنص الشرعي أيضا حينما يقول النبي صلى الله عليه وسلم:"من تزوج فقد أكمل نصف دينه فليتق الله في نصفه الآخر".إذن فابن تيمية من هذا الجانب محجوج ومدخول وقد أتى شذوذا اجتماعيا انعكس على أتباعه إما بالإفراط أو التفريط ، والناس بحسب قدوتهم وشيوخهم وأساتذتهم وخاصة العامة.ولقد توفيت زوجة أحد أقاربي وتركت له بناتا وبقي مدة من غير زواج .فقلت له، رحمة به، لم لا تتزوج بامرأة تجمعك وتجمع عليك بناتك؟فأجابني للتو بالرفض ومعللا موقفه بأن ابن تيمية لم يتزوج !فقلت له :هل أنت تقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم أم بابن تيمية،وما دخل ابن تيمية في هذه المسألة ولربما قد كان يعاني من مرض نفسي أو جسمي وغيره فتتبعه أنت فتهلك.حينئذ وبعد إصرار تزوج وحسنت أحواله...أريد أن أقول بأن متسلفة عصرنا لا هم تابعون لابن تيمية ولا لسنة النبي صلى الله عليه وسلم ولا لأخلاق العشرة الزوجية وحرمة الزواج في تصورهم للتعدد وحكم الطلاق .بحيث قد تصلنا أخبار مسيئة لمفهوم الزواج في الإسلام عن مثل هؤلاء الشهويين الملتحين، لغاية أن بعضهم قد أصبح شغله الشاغل هو إجراء العمليات الحسابية في حياته الأسرية : يتزوج أربعة نسوة كتعدد وهو ينوي تطليق الرابعة ليجدد العدد المشروع بعدما أقصى الخامسة وهكذا ،وتحت مبرر شرعية التعدد حسب تصوره،حتى لقد أصبحت حياته اليومية كلها تتمحور بين الجمع والطرح والضرب للنساء حينما لا يتم الامتثال ، فهو قد يجمع الأربعة ثم يطرح الرابعة ثم يضيف الخامسة وفي الأخير يضربهن جميعا إذا لم يمتثلوا لأوامره ونزواته .حتى قد وصل الأمر بالبعض إلى دفع إحدى زوجاته أو كلتيهما لكي تخطبان له زوجة أخرى حتى يرضى عنها أو عنهما وتدخل أو تدخلان الجنة بهذا العمل، كما قد يلجأون إلى ما يسمى بالزواج العرفي وتحت إشهاد زائف خارج الجماعة والقانون والدولة وتحت مزاعم الأخوة في الدين(يا أخي ويا أختاه) وتوهم عدالة الرجال الكثيفي اللحية وذوي البقعة السوداء على الجباه لإظهار أثر السجود المصنوع والمراءى به...وذلك لتخليص مكبوتاتهم بعدما قيدهم القانون ومدونات الأسرة بالتزام ما يجب التزامه شرعا، وهذا ما تفطنت له الدولة المغربية وأصدرت ضده قرارا بعدم الاعتراف بشرعية هذا الزواج وما يترتب عنه من ولادة بعد انتهاء مهلة التسجيل في سجل القضاء ودفتر الحالة المدنية ،وفي هذا الإجراء قد يلتقي هؤلاء بالشيعة في مسلكهم الشهوي الآخر من خلال زواج المتعة والتبديل المستمر للزوجات كبضاعة مزجاة وغير منضبطة روحيا وسلوكيا.
وبين هؤلاء وأولئك فقد يبقى الموقف الصوفي هو الأرقى والأجمل في صياغة البناء الأسري والوعي بمسؤولية الزواج واعتبار المرأة مرآة الوجود ومسرحا للتأمل واعتبار التوحيد وتزكية النفس .بحيث أن الصوفي في زواجه حينما يتزوج لا يتزوج إلا لله وحينما يبقى عزبا أو يعدد فهو للسبب نفسه ،ومن مبادئه أنه لا يتزوج حتى يكون رجلا بمفهوم الرجولة الحقيقية والسلوكية وليس فحولة البهائم كما يصور الكثير علاقة الرجل بالمرأة عند الزواج.فقد قيل لصوفي لماذا لم تتزوج فقال :لا أتزوج حتى أكون رجلا والمرأة تحتاج إلى رجل !.ومن مظاهر الرجولة عندهم هو عدم الطلاق لأتفه الأسباب ولمجرد كراهية شهوية ونحوها وذلك لوعيهم بأن الطلاق مما يبغضه الله ومن حام حول ما يبغضه الله وقع بنفسه في بغض الله له،فقد ذكر الغزالي في كتاب الإحياء أن صوفيا تزوج امرأة فمرضت بالجدري بمجرد ما دخل بها فتظاهر هذا الصوفي حينئذ بالعمى لمدة عشرين سنة حتى توفيت ثم أظهر بصره فقيل له في ذلك فأجابهم بأنه فعل هذا حتى لا يشعر زوجته بأنها عالة عليه وأن عشرته لها قائمة على مجرد الشفقة !إنها أخلاق عالية ينبغي أن تتربى عليها البشرية في تحديد تعاملها الأسري وسعادتها الزوجية...
ثانيا:النمط التعليمي وواقع المرأة المتأرجح
إن أهم ميدان حدث فيه التغير الواضح وبصورة مفتعلة هو ميدان التعليم في الحركة الوهابية، ولئن كانت سرعة هذا التغير قد تباطأت شيئا ما في الأساليب المتبعة في التعليم، إلا أنه كان من أوله تغيرا جذريا عميقا سواء في أهدافه ومواده.
فقد كان التعليم قبل الحركة الوهابية يسير على أسلوب قديم متوارث على نحو ما كان سائدا في باقي أرجاء الجزيرة العربية وعلى ما كانت عليه أغلب القرى العربية آنذاك ينحصر في تلقين العلوم الشرعية واللغوية، كالنحو والصرف...الخ. ولقد بقي هذا الأسلوب أو هذا المنهج متبعا حتى بعد التواجد الوهابي، لغاية منتصف الثلاثينات من القرن العشرين، بحيث أخذت تظهر نماذج ومناهج جديدة على الساحة التعليمية[11]. غير أن الشيء الذي طرأ جديدا بظهور الحركة الوهابية واستقرارها كان يتمثل في الإقبال الكبير على تعليم العلوم الشرعية في كل المناطق التي تنتمي للنفوذ الوهابي، بحيث كانت في كل واحة مدرسة تقريبا، وفي كل قرية بدوية عدد من المعلمين[12]، وكان المسجد هو المدرسة المركزية للتعليم والتدريس، فكان الإمام للصلاة هو الذي يتولى هذه المهمة، فبعدما ينتهي من الصلاة يجتمع إليه الناس فيلقنهم دروسا في التفسير والحديث...الخ، وكان الطلاب يقسمون إلى أفواج حسب السن، ومن المسجد كان يتخرج الدعاة والقضاة وأهل العلم المفتون...الخ[13].
فالدعوة الوهابية أحدثت حركة علمية مذهبية بارزة بمنطقة نجد وخارجها، بحيث نشرت المذهب الحنبلي بقوة وساهمت في القضاء حسب زعم الوهابية على البدع والانحرافات التي أصابت بعض الناس في عقائدهم كما رأينا قبل، فكانت بهذا قد قامت بعملين متكاملين ومتمازجين، هما الإصلاح الديني بالأسلوب التعليمي الهادف[14].
هذا، ولم يكن للمرأة نصيب يذكر من التعليم في المجتمع الوهابي، بحيث بقي دورها ونشاطها مقتصرا على التفرغ للأعمال المنزلية وخدمة الأسرة ومحاولة إتقان الطبخ والتأثيث، وتربية الأطفال كما كان الشأن في باقي أنحاء الجزيرة العربية، وهذا داخل في زاوية التشدد المبالغ فيه اتجاه المرأة، فكانت على العموم لا تملك تعلما منظما أو معمقا. وإنما كان يكفيها أن تحفظ بعض الآيات القرآنية بمعزل عن الكتابة، وهذه الصفة كانت هي الغالب الأغلب على المرأة آنذاك، بل بقي الأمر هكذا حتى عهود متأخرة جدا[15]، وهو ما شخصته حركة طالبان في أفغانستان باعتبارها نسخة أصلية للوهابية!.
وبقيام الدولة السعودية في القرن العشرين عرف قطاع التعليم تطورا هاما، تزداد نسبه بازدياد السنين بقدر اهتمام المسؤولين بهذا القطاع وعلى رأسهم الملك فيصل بن عبد العزيز، يليه بعد ذلك خلفه في حكم البلاد بحيث برزت مظاهر هذا التطور في شتى المجالات كما وكيفا.
فبعدما كان عدد الطلبة سنة 1925م يساوي صفرا، أصبح في بداية السبعينات يتجاوز النصف مليونا يليه عدد المدارس التي أنشئت، والذي بلغ 2500 مدرسة، وأبرز حادث يسجل في ميدان تطور التعليم وتغير نظرة المجتمع إليه، هو افتتاح معاهد للبنات لتعليمهن، بلغ عددها نحو 400 مدرسة ومعهد لا تقتصر بهن على تعلم القراءة والكتابة كما كان قبل، وإنما ييسر لهن الترقي لغاية الدراسات العليا في الجامعات[16].
وهكذا أخذنا نرى تراجعا في فقه علماء نجد، وتعقلا أكثر وليونة في النظر إلى الأمور الشائكة، والتي تحتاج إلى نوع من التؤدة للحكم بإجازتها أو منعها، بحيث أخذنا نرى اجتماعات يقيمها العلماء والشيوخ الوهابيون يتطرقون فيها إلى مشاكل الحياة الاجتماعية ويصدرون الفتاوى في أمورها؛ أنقل نصا عن مجلة العربي جاء فيه على لسان العلماء الوهابيين :
" إن تعليم الفتاة أصبح أمرا ضروريا لأن الظروف تتطلب ذلك، وتعليم الفتاة في حد ذاته أمر طيب وجميل إذا تحرر من قيود العادات الغربية أو حافظ على عاداتنا وتقاليدنا الدينية "[17].
وهذه الرخصة التي أعطيت للفتاة من أجل التعليم والنهل من المعرفة، كان الغالب على اتجاهها دراسة العلوم الدينية والتعرف على الحضارة الإسلامية والتكوين النظري الذي يتماشى مع العقيدة الإسلامية ويقف عند حدود الشريعة بحسب الفهم الوهابي ومذهبيته.
فكانت الحيطة دائمة في أمر تعليم البنات والمراقبة جد شديدة لما يلقن من علوم. وهذا ما يعبر عنه أحد العلماء الوهابيين وهو الشيخ عبد العزيز المسند في رابطة العالم الإسلامي بقوله :
" وإذا كانت الحاجة قد دعت المملكة إلى اتساع نطاق تعليم البنات، فإن اللجنة تؤكد ضرورة اهتمام المسؤولين عن هذا التعليم بمراقبة سيره، مراقبة دقيقة وأخذ كل بادرة من بوادر الشر في صفوف الطالبات والمعلمات بحزم وشدة حتى يظل سير التعليم في نهجه المستقيم، وأهدافه المرسومة"[18]
وهكذا أدخلت الفتاة الوهابية المختبر، وأخذت تجري التحليلات والدراسات العلمية التجريبية، على النمط الحديث، خاصة في عهد الملك فيصل بن عبد العزيز[19].
وقد أثيرت مسألة عدم تعميم الشعب عند البنات، وأسباب الإنضباط السلوكي الذي تمتاز به الفتاة السعودية المتعلمة في سؤال وجهه أحد الطلاب المتتبعين للدراسة في الخارج إلى الملك فهد منذ عهد قريب فكان جوابه :
أن العبرة في ذلك هو التحفظ الذي اتخذته الفتيات في اختيار بعض الشعب دون بعض إدراكا منهن بعدم ضرورة بعضها بالنسبة للمرأة وعدم لياقتها بها، مثل لذلك بهندسة الطرقات والمباني وهندسة الزراعة وغيرها من المهن التي تعرض بالضرورة المرأة إلى مخالطة الرجال والاحتكاك بهم ومشاكستهم[20].
وعلى هذا، فالمرأة في المجتمع الوهابي لم تعد عليها قيود حول تعلمها إلا بما تفرضه عليها بنيتها الأنثوية، والتي لا تسمح لها باقتحام بعض الميادين.
وعموما، فإن التعليم في المجتمع الوهابي لم يعد يقتصر على تدريس المذهب الحنبلي أو الفقه التيمي والجوزي كما كان قبل، وإنما أخذ طورا أوسع وتعددت شعبه بفعل النهضة التي أحدثها الأمراء السعوديون في مجال التعليم، بغية السير بالبلاد لمواكبة القافلة العالمية من حيث التطور المدني. فدخل في برامجه التعليم الصناعي والتجاري والزراعي كما أدخلت مواد الفيزياء والكيمياء والرياضيات وعلم النفس... ولم يقص من الدراسة إلا علم الكلام وعلم التصوف وذلك لما للوهابية من خصومة باطنية ومذهبية رافضة لهذين العلمين الجوهريين من العلوم الإسلامية الرفيعة. لغاية أنهم يقبلون التحاور في منتدياتهم وقنواتهم مع جميع الفئات وأهل الملل والنحل سواء كانوا مسلمين أو حتى علمانيين وغير متدينين إلا أن يحاوروا ويستضيفوا أهل التصوف وعلماء التوحيد على المذهب الأشعري أو مذهب أهل السنة كما كان يصطلح عليه فيما قبل وهذا ما يعبر عن سوء نوايا الوهابية وفرارها من مراجعة الذات وتصفية الباطن وإحياء الوجدان! لغاية أنهم قد يسعون إلى حجب بعض المواقع الصوفية في الأنترنيت عن البث في المناطق التي يحكمون فيها!الخ[21]. كما قدم أضيف تعليم الوقاية المدنية للبنات بعد كارثة الحريق الذي ذهب ضحيته مؤخرا عدد من بنات مدرسة لم يستطع الرجال إنقاذهن بزعم عدم جواز ذلك حسب فهم الوهابية! وضيق أفق فهمهم للحجاب وشروطه وضروراته وأحواله!، رغم أنه يوجد في صحيح البخاري باب مداواة النساء للرجال. وقد يكون العكس عند الضرورة والتعين كما فصلناه في كتاب "حجاب المرأة وخلفيات التبرج في الفكر الإسلامي"، ولقد كثرت الاختصاصات بنسبة مثيرة فأصبح عدد الكليات بالبلاد 60 كلية تضم 400 تخصص ويدرس فيها حوالي 75000 طالب وطالبة كما أن عدد المدارس الثانوية والإبتدائية قد عرف تطورا كبيرا بحيث أصبح عددها حاليا يصل إلى أكثر من 13900 مدرسة، يدرس فيها مليون وثمانمائة ألف طالب وطالبة[22]، ومما يبرز بشكل أكثر عمق هذا التطور الحاصل في مجال التعليم هو المعدلات المالية المخصصة من أجله وتفاوتها صعدا :
فبينما كانت ميزانية التعليم سنة 1960 تساوي 15800100 ريال أصبحت في سنة 1970 تبلغ 587442207 ريال[23] ثم قفزت قفزة كبرى سنة 1981 - 1982 إلى 25823289000 ريال[24] أما في سنة 1984 - 1985 ارتفع مقدار الميزانية المخصصة للتعليم إلى (30460) مليون ريال[25].
كان هذا هو أهم ما وصل إليه التعليم في المجتمع الوهابي باطراد متفاوت كما ونوعا وهو كما نرى يبين لنا عن تغير هائل في مجاله، وطرقه ومواده وبالتالي هو تغير المرتكز الأساسي للحياة الاجتماعية ألا وهو الثقافة والتربية والتعليم.
ثالثا:النمط السياسي ومرحلية ازدواج القرار
إن أية كتلة بشرية لا يمكن لها أن تجتمع وتستقر دون أن يكون اجتماعها قائما على سياسة وتعاقد اجتماعي على الوفاق والتعاون من أجل تحقيق حسن المعاش، وقد تعمدت إدراج هذا النمط تلو النمط الزراعي نظرا لأن أساس الاجتماع والمدينة كما يرى بعض الباحثين كان نتيجة الزيادة في الإنتاج الزراعي الذي يمكن الناس من التحرر من عمل الأرض إلى البناء والتعمير[26] وبالتالي اضطر الأمر إلى تأسيس الدولة، وكما يقول ابن خلدون في مقدمته : "فلا بد في تمصير الأمصار واختطاط المدن من الدولة"[27].
فالحركة الوهابية كانت وما زالت دعوة ودولة، حصل هذا حينما تعاقد محمد بن عبد الوهاب مع الأمير محمد بن سعود، فكانت الانطلاقة تحمل طابعا ازدواجيا في القيادة، بحيث أن الرجلين كانا يصطحبان بعضهما في كل الغزوات ولا يعملان إلا بالمشورة بينهما، ويطلبان المبايعة لهما معا، وترسل الوفود الأجنبية إلى كل واحد منهما[28]، وعلى هذا فقد تقاسما الألقاب والمناصب أيضا، فكانت هناك الإمامة الكبرى ويقصد بها إمامة الدين يمثلها محمد بن عبد الوهاب والتي ينحصر دورها في التعليم والتدريس والقضاء والإفتاء...، أما محمد بن سعود فكان يحمل لقب الأمير، ويقوم بإدارة شؤون الحكم وتنصيب الولاة على الأقاليم[29]، وكانت وظيفة هؤلاء الولاة سياسية وإدارية وعشائرية، كما كان دورهم يتمثل في جمع الزكاة والضرائب وإرسالها إلى المركز وإعلان النفير والدعوة إلى الجهاد[30]...الخ
وهكذا كانت حالة محمد بن عبد الوهاب، ومحمد بن سعود في تقاسمهما للسلط، بل إن جانب محمد بن عبد الوهاب كان أكثر نفوذا وبروزا، نظرا لأخذه بزمام الزعامة العلمية، وبعد وفاتهما تعاقد أبناء الأمير وأبناء الشيخ على أن يعملوا متعاونين على نشر الدعوة والمحافظة على العهد الذي ألف بين الشيخ والأمير[31].
ولكن حسب ما يبدو، وبعد وفاة الرجلين، أن زمام الأمور أخذ ينفرد به الأمير وحده، ولم يعد هناك شيخ يمكن أن يقال عنه أن له حق التدخل وبسط النفوذ على آراء واتجاهات الأمير فأصبح النظام قائما على الشكل التالي :
1) الإمام (الحاكم) : وهو رئيس الدولة ولقب الإمام هذا أصبح شاملا لمعنى الزعامة الدينية أو العلمية والسياسية فكانت له القيادة العامة للمسلمين في أمورهم[32].
2) ولي العهد : وقد سارت الدولة آنذاك في اختيارها لولي العهد حسب النظام الوراثي القائم على تولية العهد للإبن الأكبر للإمام إلا أنه في بعض الحالات كانت تخرج عن هذه القاعدة وتولي أكبر أفراد الأسرة للإمامة دون الإبن الأول للإمام[33].
3) أمراء الأقاليم : كانت الدولة بطبيعة الحال مقسمة إلى عدة أقاليم، وكان يعين على كل إقليم أمير وأحيانا يطلق عليه لقب عامل، وهذا المنصب مقتبس من الدولة الإسلامية الأولى، ويأتي بعد منصب ولي العهد مباشرة، وله من السلطات الواسعة[34] في إدارته للشؤون السياسية والمالية والعسكرية.
وقد كان هذا المنصب واستمر حتى عهد قريب ينال وراثة بحيث كان كل أمير يخلفه أحد أبنائه أو قريب منه[35].
4) شيوخ القبائل : إن القبيلة كانت الوحدة الأساسية للمجتمع الوهابي, لهذا ففي أول أمر الدعوة الوهابية كان أسرع من قبلها هم أصحاب القبائل المجاورة لنجد, أما أهل الحضر فكانت العلاقة بهم تطبعها الحيطة والحذر، وقد جرت عادة الأمراء الوهابيين على تنصيب الشيوخ القدامى في مناصبهم ودون محاولة عزلهم إلا إذا صدر من أحدهم تمرد فيبدل بأحد أفراد عائلته, نظرا لأن أصحاب العشائر لا يرضخون بسهولة إلا لمن ألفوا تواجده بينهم وخاصة أصحاب الحسب عندهم[36].
5) أهل الشورى : وكانت مجالسهم تنقسم إلى قسمين :
أ‌- أهل الشورى الخاصة : يحضر هذا المجلس الأمراء وأفراد الأسرة الحاكمة لتدارس المسائل الخاصة، وتحمل طابعها استثنائيا وسريا.
ب‌- أهل الشورى العامة : وتضم شيوخ القبائل والقضاة والفقهاء لتدارس المسائل العامة ومتطلبات المناطق التي يتولى قيادتها عضو من هؤلاء الأعضاء، وكانت هذه المجالس تشبه المجالس النيابية الحديثة إلا أنها لم تكن تحمل طابع اختيار الشعب لها بالانتخاب كما هو معمول به حديثا[37].
6) مركز الدولة : كان أول الأمر بالدرعية، ثم انتقل في المرحلة الثانية من الحكم الوهابي إلى الرياض، واستمر بها حتى الآن، حيث يوجد قصر الأمير وديوانه الذي يجتمع فيه مستشاروه وقضاته وأمراؤه ورؤساء الأقاليم ومشايخه[38].
أما فيما يتعلق بآداب المخاطبة بين الأمراء وعامة الشعب فقد كانت تمتاز بالبساطة في التعبير، بحيث أن أقل البدو كان يخاطب الملك عبد العزيز وغيره ب: يا عبد العزيز أو يا أبا تركي أو يا طويل العمر، والأمراء أنفسهم لم يكونوا يعبأ ون بالألقاب، فحينما أخذت الحكومات الحديثة بإطلاق ألقاب على بعض موظفيها مثل : وزير مفوض ووزير دولة .....الخ بدأت تظهر المعارضة من بعض مفكري الوهابية لهذه الألقاب والدعوة بالرجوع إلى البساطة التي كانت عليها الأمور أولا[39].
هذا وإن قيام الدولة الوهابية الجديدة قد أولت الإمام كل السلطات وخولت له حرية التصرف، وإن تجددت الازدواجية في الحكم والمتمثلة في الأمير وحركة الإخوان بحيث كانوا يقومون بعملية الإفتاء والإجازة والمنع لكل ما يريد الأمير إدخاله من إصلاحات إلى البلاد كما رأينا وخاصة في عهد عبد العزيز، لغاية أن قاموا بقطع أسلاك التليفون التي استعملها لنفسه وإعلان الثورات القبلية ضده بسبب محاولته إدخال الأنماط التقنية الحديثة للبلاد.
قلت : وإن تجددت هذه الازدواجية لكنه على التوالي أخذ يضعف تيار الإخوان، وبدأ الأمراء يستقلون بإصدار القرارات والاستئثار بها[40].
أما من حيث الحريات العامة فإنه لا مجال للاحتجاج في المجتمع الوهابي على تصرفات السلطة ولا مجال للإضرابات، وقد أعلن هذا منذ 1956 [41]. كما أدخلت تعديلات كثيرة على النظام الإداري، فبعدما كانت البلاد مقسمة إلى أربعة أقاليم على رأس كل إقليم أمير في بداية القرن العشرين فقد جرى تقسيم هذه المناطق إلى إمارات كثيرة تراعي فيها قدرة الأمير على تسيير شؤونها كما تم ربطها بوزارة الداخلية بعد ما كان كل أمير يتصل بالملك مباشرة, أو نائبه، في كل ما يحدث له من الأمور صغيرها وكبيرها، ومع هذا أحدث نظام المقاطعات[42].
وعلى عهد قريب، أخذنا نسمع بمحاولة إحداث مجالس نيابية على النمط الحديث بالدولة الوهابية وهذا تحول كبير في سياستها الداخلية، وبالتالي قد يبرز لنا تغيرا في المنظور السياسي للقادة الوهابيين نحو مجتمعهم، ويؤكد الانسياق الوهابي السياسي والاجتماعي في التبعية للأنظمة الغربية وضغوطاتها، ولكن بشكل غريب ومتناقض يخدم مصلحة الغرب أكثر من العرب!.
رابعا: الحدود التطبيقية لتشكيلة المذهبية الوهابية
إن الوهابية كدعوة لم تكن قادرة على الظهور بأسلوبها العالمي وخاصة في الحواضر، مما دعا ابن عبد الوهاب كما رأينا إلى الاعتماد على البوادي وكذلك على القوة السياسية التي دعمته برجالها وأسلحتها، فهي إذن قد اعتمدت على الجانب السلطوي في التغيير أكثر من اعتمادها على الجانب الإقناعي.
ولقد كان للحركة الوهابية في بدئها دور فعال في التغيير واستجابة أهل البوادي لها. وفرض المذهب على أهاليها، وحدث تغير اجتماعي ملموس من انحراف سلوكي إلى انضباط ووقار اجتماعي وإقامة لحدود الشريعة من حيث الظاهر السطحي والمتشدد إلا أنه لم يكن ليستقر ويكتمل حتى تكتنفه الحروب الدامية والرغبة في السطو. ومما يبرز لنا تفكك الانضباط الأول هو ما قام من حروب أهلية بين أبناء تركي وما أورده ابن بشر كما رأينا قبل من عودة إلى الحالة ما قبيل الحركة الوهابية وتلون الساحة التي دخلتها وغيرت مجتمعاتها. وهذا ما يبين لنا أن الاستجابة كانت مؤقتة وليست عن طريق الإقناع التام. وبهذه المناسبة أستأنس بقول أورده الأستاذ "محسن عبد الحميد" في كتابه "المذهبية الإسلامية والتغير الحضاري" بين فيه أن الحركة الوهابية كانت تمثل حلا مرحليا لا تكتسي طابع الشمولية وذلك لإهمالها جوانب أخرى من الحياة، كان من الضروري أن تعيرها انتباها بالغا ليحدث التكامل في الدعوة وتطبق الإسلام كما ينبغي له أن يطبق، وهكذا فإن تطبيق مبادئ الوهابية الفرعية لم يكن ليستمر حتى عهود طويلة وذلك لسببين:
أولا: استعمال العنف في تطبيق المبادئ
ثانيا: عدم مسايرة العالم مدنيا
وهذان العنصران قد عجلا بانقراض العهد الوهابي الأول، لأن الحركة طبقت شرطا وأهملت الشرط الآخر طبقت الحماسة والاندفاع، وأهملت التقن والتدقيق ووضع الأمور كل في محله، وهذا هو الشيء المعيب عليها من حيث الحضور الواقعي للحركة وقد يعذرها البعض في المسألة الثانية ويؤاخذها على التصرف الأول .لكني - حسب رأيي- إذا أعطينا المسألة بعدا أطول قد يوجه شيء من اللوم إلى الحركة الوهابية في عدم اعتنائها بالعلوم التجريبية وتطرقها إلى تطوير المدنية، وذلك لأنها لو اقتصرت على الدعوة الفردية الهادفة إلى إصلاح القلوب والأفكار فصلا عن كل المجالات الأخرى حسب ما يدعيه زعماؤها، لكان جائزا لها التبرير، لكنها تقلدت السياسة وتحملت مسؤولية المجتمع روحيا وماديا فكان لازما عليها أن تبرز فعاليتها في كلا المجالين وتعطي كل حيز حقه من العناية.
ثم أنه قد يتبادر إلى الذهن تقييم مبادئ الوهابية الاجتماعية، هل تعتبر من قبيل الثابت أو المتحول؟
فإذا كانت من قبيل الثابت فهل يجوز أن تتراجع الوهابية في موضوع فتح مجال التعليم المتواصل للمرأة بعدما كانت لا حظ لها فيه، كما هل يجوز أن تعلن التفتح التام على العالم الخارجي وإعلان التعايش والمساواة بين الطوائف المذهبية كاستدراج سياسي ومذهبي بعد ما كانت محل الحيطة والمحاربة والحذر؟
إن أغلب مظاهر هذا التغير برز بشكل واضح في العهد الثاني من الحركة الوهابية عند قيام الدولة السعودية الجديدة وخاصة بعد اكتشاف زيت البترول، وكان قد مر بنا الصراع الذي وقع بين الأمراء وحركة الإخوان، بعد ذلك أخذ التغير يظهر بحرية واستمرارية، وكان جليا في مجال الأنماط الاجتماعية أكثر منه في مجال التركيبات، بحيث بنيت المدارس والمعاهد وطورت المناهج التعليمية وأدخلت العلوم التجريبية إلى حقل التعليم عند الوهابيين. كما اعتني بالصحة وسلامة المجتمع من الأمراض. ولا يفوتني أن أشير إلى دور الوهابية في هذا المجال خاصة، بحيث أنه لا مكان للأمراض الزهرية المعدية في المجتمع الوهابي في عهده الأول خصوصا نظرا لأنها كانت تطبق ظاهريا حدود الشريعة الإسلامية الرادع القوي لكل من تسول له نفسه الامتداد في الفحشاء والمنكر والذي من نتائجه الأمراض التي أشرت إليها. كما أن تطوير النمط الزراعي حري بأن ينال بإعجاب، فتحقيق اكتفاء ذاتي في الإنتاج الزراعي وفي بلد صحراوي قاحل خير دليل على أن الوهابية قد تشعر بمسؤولياتها وتعي كامل الوعي بان الاعتماد على الإنتاج القليل المستمر والدائم خير من الاعتماد على الثروة الطائلة والمحددة زمنيا، بالإضافة إلى أن تحقيق الغذاء الكافي للمجتمع من بين العوامل المساهمة في ضمان سلامته انضباطا وسلوكا، بل ربما جمال الخضرة سينعكس على النفوس ويورثها تفتحا وحسن طبائع ‍! !
أما النمط السياسي فإن تقلد الأمير منصب الإمام بعد ما كان الشيخ يقوم به كانت من بين العوامل التي سببت الانضباط في السياسة الوهابية، ولو استمر الوضع على ما كان عليه أولا لما كتب للوهابية أن تستمر كدولة أبدا، لأنه كان لابد وأن يحدث صراع جوهري بين الشيخ والأمير ولكان الشذوذ السياسي هو الغالب على طابع الحركة وتصرفاتها. والدليل على ذلك هو وجود أنظمة معاصرة تكاد تشبه ما كان عليه محمد بن عبد الوهاب ومحمد بن سعود إذ أنه توجد فيها قيادتان: القيادة الروحية، والقيادة السياسية الشكلية. إلا أن المحرك - الحقيقي للاتجاه السياسي هو صاحب القيادة الروحية كما كان في إيران مثلا وخاصة في عهد الخميني-، ولجهل صاحب هذه القيادة بالأمور السياسية ومخادعاتها حدثت أحداث خطيرة بل مغامرة بكيان هذا المجتمع الذي تسوده القيادتان المختلفتا وجهات النظر من خلال حرب الخليج الأولى والمبادرة بتصدير الثورة أو المذهب الشيعي الرافضي بالقوة وافتعال الفتنة الطائفية نحو العراق وهو ما يبرز أيضا على شكل صراع بين تيار الإصلاح كما يسمى والمحافظة! لهذا فإن استئثار رئيس الدولة بالزعامة الدينية والسياسية أولى من تقسيم السلط بين رجلين كل له قوته ووزنه واتباعه الخاصين وليس معنى هذا الانفراد بالآراء أو إهمال مجلس الشورى، بل المقصود به إعطاء الأمير حرية التطبيق بعد الموافقة العامة على المشروع.
والذي يبدو أن الحركة الوهابية قد كان لسياستها نوع من الرضوخ إلى الاستشارة كما رأينا، إلا أنه كان لا ينزل إلى حد الاستشارة العامة بل يقتصر على الأعيان، وهذا نقص في معنى الاستشارة العامة، ويشيع حديثا كما أشرت إليه قبل أن السياسة الوهابية أخذت تنزع إلى تطبيق هذه الاستشارة العامة وإحداث المجالس النيابية على النمط الحديث.
وهي كما أشرت قبل عبارة عن رضوخ للمسار السياسي الغربي وضغوطا ته بتحقيق التبعية ولو بشكل مقنع. وهذا ما جعل السياسة الوهابية تنفلت عن الفقه الوهابي، وترتمي في أحضان المصالح المادية الصرفة - بل توظف الوهابية المذهبية لزعزعة الأنظمة العربية والإسلامية خارج الجزيرة بزعم السلفية والأصولية، وبدعم الريال والدولار جنبا إلى جنب لكل حركة مناوئة لنظام لا يوافق المذهبية الوهابية ولا السياسة الأمريكية كما حدث في الشيشان وأفغانستان وما ترتب عنه من لعبة الطالبان وذريعة محاربة الإرهاب...!
وهو ما أخذ ينعكس على علاقة السعودية بالولايات المتحدة الأمريكية سلبا، بل أصبحت المعاداة علنية بينهما بسبب ما تقوم به الوهابية من تحركات وإجراءات لم تعد تخدم مصالح الأمريكيين بعدما كانوا يمثلون المعول الرئيسي للغرب في تفتيت المجتمعات الإسلامية باسم السلفية ومحاربة البدع ودعوى تطبيق الشريعة.
لكن وبعد أحداث 11 سبتمبر 2001 بنيويورك ألصقت التهمة إيهاما وشكلا بالوهابية وعلى رأسها أسامة بن لادن، كمؤامرة أو ذريعة للتدخل في أفغانستان واحتلال العراق وبالتالي الانتقال إلى الجزيرة العربية والأماكن الحيوية من العالم الإسلامي استعمارا، رغم أن كل المؤشرات تدل على أن ابن لادن-وهذا رأي شخصي وترجيح- لا يد له في تلك الأحداث عمليا أو واقعيا. وإنما الأمر كما يعبر الواقع وتلاحق الأحداث بأن ما يحدث في الولايات المتحدة الأمريكية ليس سوى صراع داخلي يسقط على الخارج قد ينكشف أمره فيما بعد حينما يتفاقم أمره!. ومن هنا فقد ينقلب السحر على الساحر والفتنة على المتآمر. "إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا فمهل الكافرين أمهلهم رويدا" صدق الله العظيم.
خامسا:الإمكانات والتطلعات بحسب ظاهر المعطيات
إن الحركة الوهابية تبدو وكأنها تمتلك مفاتيح الخير كلها تقريبا، فهي تتذرع باتخاذها - حسب دعواها- الشريعة الإسلامية حكمها، كما تسعد باحتضانها الحرمين الشريفين عمادين أساسيين كفيلين بأن يكسبا الحركة الوهابية قوة واحتراما من طرف المجتمع الإسلامي داخليا وخارجيا، إضافة إلى هذا توفر البلاد على ثروة مادية محركة للمدنية العالمية. فإمكاناتها المادية والمعنوية إذن بعيدة الآفاق رغم تورطها في المديونية المدمرة بعد حرب الخليج وتداعياتها الحالية التي تورط فيها سياسيوها غلطا وعن سوء تقدير مما اضر بالعراق الشقيق والمنطقة كلها من خلال التدخل الغربي السافر والعدائي الاستعماري لكل أهل الخليج ومجاوريه، لكن الشيء الذي ينبغي على الحركة الوهابية أن تسلكه هو التخفيف من حدة الصراعات المذهبية وتوطيد التجانس والتآلف الاجتماعي الداخلي من أجل اكتساب تجانس عالمي وهو الشيء الذي تأمر به الشريعة الإسلامية، وكذلك الرغبة الفعلية في التجديد ليس تجديد الأصول ولكن تجديد المفاهيم لتلك الأصول وبالتالي إصلاح مفهوم الإصلاح نفسه بأسلوب مخالف للنمط الأول الذي تأسست عليه الحركة الوهابية وسلكه زعيمها محمد بن عبد الوهاب.
ولتحديد إمكانيات الحركة الوهابية المستقبلية يجب ربط مظاهر التغير الاجتماعي داخلها بعوائقه والتي هي على الشكل التالي:
1) عدم تكامل المجتمع وتجانس تركيبه الطبقي والطائفي:
وهذا العنصر كما رأينا قد خف وطؤه بالنسبة للمواقف الماضية في العهود الأولى لحكم الوهابية وأصبح الشيعة نظريا وإداريا يتمتعون بحقوقهم كمواطنين عاديين وخاصة بعد التقارب المصلحي بين السعودية وإيران ضدا على العراق فيما يبدو وخاصة بعد حرب الخليج الأولى وهي ميزة من مزايا التغير في المنظور الوهابي الحديث وإن كان بعض العلماء عندهم لا زالوا يحملون نوعا من التعسفات الفكرية والحزازات ضد مخالفيهم في المذهب، إلا أن أصحاب السلطات عندهم قد يغضون الطرف عن هذا الجانب ويحاولون إرضاء الكل حتى تنسجم البنيات الاجتماعية وتتآلف من أجل المصلحة العامة. لهذا فإن إمكانات اطراد انضباط المجتمع الوهابي كانت آخذة نحو التقدم بسبب رحابة الصدر المصطنعة التي أعلن عنها بعض الحكام الوهابيين وخاصة متأخر يهم كما رأينا شكليا. لكن أحداث حرب الخليج والمواقف السعودية الوهابية منها أعادت الاختلال إلى مستويات تنذر بتفجر غير قابل للاحتواء!.
2) الخوف من التغير والرغبة في المحافظة على القديم:
وقد سلكت الحركة الوهابية في مرحلتها الأخيرة تفتحا وأبدت رغبتها في تغيير أنماط الحياة الاجتماعية وبدلت البرامج التعليمية وحسنتها. ولقد جاءت هذه الرغبة صراحة في عهد الملك فيصل بن عبد العزيز حيث أوردت جريدة نيويورك تايمس مقالا بمناسبة توليه السلطة بالبلاد ما نصه:
" بتولي الملك فيصل بن عبد العزيز عرش المملكة السعودية، ادخل بلاده دنيا الحضارة من أوسع أبوابها وجعلها في مكان بارز من عالم القرن العشرين لأنه أضفى عليها من شخصيته صفة حضارية عقلانية متفوقة تعتمد على العلم أولا و آخرا في رسم خطوط المستقبل لا للمملكة العربية السعودية وحدها بل لعموم العالم العربي"وهذا يبرز بشكل إشاري طموحات الوهابية في شكلها السياسي والمذهبي لأن تبسط نفوذها على العالم العربي والإسلامي!
3) العزلة التي يعيش فيها المجتمع:
وأسبابها كثيرة منها الثقافية والسياسية والجغرافية وانطباق هذا العنصر الأخير على الحركة الوهابية فيه نوع ترجيح نظرا للتبعية التي تقع عليها بسبب الحروب التي خاضتها ، وفرض الدعوة على الناس بنوع إكراه. وربما قد تكون الظروف البيئية الجغرافية من العوامل في ذلك إلا أنها تتخطى بالقياس إلى أن الدعوة الإسلامية الأولى انطلقت من على تلك البسيطة الصحراوية فكان معتنقوها مثال الألفة والانسجام مع العالم من حيث المعاملة، وتكونت حضارة من أرقى ما عرف الوجود في كل الميادين ثقافيا ومدنيا ... الخ.
وقد تنبه الوهابيون إلى هذه الظاهرة وعملوا على فتح باب التعارف وتبادل الوفود وفتح الكليات التي استقطبت الآلاف من طلاب العالم الإسلامي للدراسة فيها ومساعدتهم ماديا ومعنويا مما سبب احتكاكا وتبادل آراء بين الطلاب الوهابيين وغيرهم وهو الشيء الذي ولد جيلا متفتحا نوعا ما وقابلا للتفاهم والمعالجة الفكرية التي هي أحسن لولا أولوا القرار من علماء نجد الذين لا زالوا يحملون طابع اللهجات القاسية في المجادلات الطائفية، كما أنهم بدأوا يستغلون وسائل الإعلام الحديثة وخاصة عبر القنوات الفضائية، لبث آرائهم وفتاواهم المتزمتة والمصاغة بحسب مذهبيتهم وخلفياتها كما بينا. وهذا مما زاد في تسرب الوهابية إلى أوساط كثيرة من الشرائح الاجتماعية في العالم الإسلامي تحت غطاء الفقه الإسلامي في ثوبه الحنبلي المتشدد، الشيء الذي زاد الطين بلة من تشعب الخلافات في أوساطه واضطراب الفتاوى لديه بين ما هو من مذهبه الإقليمي وبين ما هو مبثوت ومفروض عليه عن طريق القنوات الإعلامية كقناة اقرأ مثلا وغيرها، بحيث يخيل للعامة أنها تمثل التوجه السني المعتدل والسليم للأمة بينما في الحقيقة هي وهابية متشددة مغلفة ومموهة باستقطاب بعض الرموز البارزة في الساحة الإسلامية من خليط المثقفين المتواجدين عبر أنحاء العالم العربي والإسلامي، فمن جهة يبدو العمل متقدما ومعاصرا ومن جهة يخدم التشدد والتخلف في الرؤية وجمود الفهم لأحكام الشريعة ومقتضيات الواقع والمعاصرة. وهذه مناقضة لا تجد الوهابية المعاصرة سبيلا للتخلص منها إلا بالاسترسال في الاضطرابات والتشرذمات الفكرية والاجتماعية!.
سادسا:ملخص وتقييم موضوعي ناصح
فمهما حاولت الاختصار فإن الموضوع متشعب جدا وواسع سعة الرقعة الأرضية التي يتعايش عليها المجتمع الوهابي وسعة الزمن الذي شغله هذا المجتمع في ظل حركته، وقد رأينا المراحل والتغيرات التي عرفها على اختلافها بالتعبير والأرقام وإن كانت الأعداد ليست هي القصد في حد ذاتها ضبطا، إذ أنه بين سنة وأخرى قد تعرف زيادة أو نقصانا. لكن مهما كان مستوى هذه الزيادة أو النقصان فإن التمايز واضح بين بدايات تأسيس الحركة الوهابية وحال مجتمعها وبين طفرة التغيرات بعد العهد الثاني من الدولة السعودية الحديثة وخاصة بعد توفر زيت البترول واكتشاف المعادن النفيسة الأخرى من ذهب وغيره.
ولئن كنت لم أستوف تتبع هذه التغيرات من كل جوانبها وأحيط بها علما إلا أنني أشرت إلى أهم الأهم فيها وأعطيت صورة تتجاذبها أنماط الجدة والتقليد، كما برز لنا جليا دور الحركة الوهابية على أرض الواقع وعوامل التغيرات الحادثة في أوساط المجتمع الذي احتضنته سواء كانت هذه التغيرات إيجابية أم سلبية، غير أن المطلب الآن بعد هذه المعطيات النسبية هو إلى أي مدى يمكن للوهابية أن تستمر في أسلوبها الدعوي والتطبيقي بنفس الأدوات والمناهج التي أدت بها إلى ما هي عليه الآن؟
كما هل الوهابية مؤهلة للتغيير الاجتماعي على نفس الأسلوب الذي أحدثته في بداياتها بعلمائها الحاليين ومستوياتهم أم أنها تحتاج إلى زعامة روحية متجددة تكون في مستوى محمد بن عبد الوهاب وقدرته على تثبيت دعائم مذهبه بغض النظر عن خلفياتها وظروفها وحتى لو فرض جدلا وجود شخصية من صنف محمد بن عبد الوهاب في حماسته لمذهبه وتشدده في تطبيقه، فهل هذا الحماس كاف لردع صولة التغيرات وتياراتها الحادثة في المجتمع الوهابي وسطوة الإعلام الغربي في صياغتها نشرا وإشهارا وتقنية براقة ومغرية؟. هذا بالإضافة إلى توفر سطوة المال وسيولته الذي كان السبب الرئيسي في إحداث طفرة نوعية غير عادية في تحولات المجتمع الوهابي، كما أحدث تغيرات مفاجئة في المفاهيم والعلاقات بين أفراد المجتمع انعكست آثارها حتى على العلاقات الأسرية وتنظيم أحكامها، كان من أبرزها ما طرح جدلا في وسائل الإعلام الوهابي في السنين الأخيرة من طرف أغلب علمائهم حول اعتبار تعدد الزوجات هو الأصل في الزواج وأن التزوج بامرأة واحدة هو استثناء! ولهذا فالمطلوب تكميل الأربعة مخالفين بذلك آراء وأغلب المذاهب الإسلامية السنية التي ترى أن الأصل واحدة والتعدد استثنائي، وطرح مثل هذا الموضوع بالإلزام بالتعدد لم يكن تفسيره لدى أغلبهم إلا بأسلوب مادي والحديث عن إمكانية الإنفاق على أربعة نسوة دون تعرض لفاقة أو حرج وما إلى ذلك. وعرض هذا الرأي بهذا الإلحاح والإشهار به لا يمكن تفسيره سوى بتوفر البذخ وطفرة المال التي طغت بماديتها حتى على صياغة الفتاوى وخاصة في الجانب المتعلق بالغريزة الشهوية..
إن على علماء الوهابية أن يعيدوا النظر في مناهج مدرستهم الداخلية وخاصة من الجانب الأخلاقي والتفسير العقدي لتوجه الآخرين قبل التفكير في تصديرها إلى الخارج وتوجيه النقد لغيرهم وخاصة الصوفية وفقهاء المالكية وغيرهم ممن هم محط النقد والتبديع في زعمهم إذ كما يقال "إذا كان بيتك من زجاج فلا ترمي غيرك بالحجارة".
كما أن المدرسة الوهابية لا تخلو من رجال فضلاء وعلماء أجلاء لهم القدرة على تصحيح الأخطاء التي وقع فيها بعض علمائهم، بل تقديم النصيحة لساستهم وتحويل توجهاتهم من موالاة الصليبيين الغربيين إلى تدعيم البناء الأساسي وإصلاحهم للمجتمع الوهابي السعودي بالعلم والمال والسلاح لحماية أمن البلاد وخاصة في أعز ما تتضمنه من بقاع وهي الحجاز المحتضن للحرمين الشريفين: مكة المكرمة والمدينة المنورة والسعي بجدية لتحرير فلسطين وبيت المقدس من الاحتلال الصهيوني الغادر ومساعدة إخوانهم في العراق الشقيق بدعم مقاومتهم وحقن دماء شعبه من غير خلفيات مذهبية سياسوية ونزعات طائفية متطرفة لا تزيد الوضع إلا تشرذما وتفتتا وفتنة.
حينئذ يمكن للوهابية أن تصمد في وجه التغيرات وتكون بمؤهلاتها العلمية والمادية دعما مهما للمسلمين في بقاع الأرض على مستوى التعاون والحوار البناء لا على مستوى الاستلاب والاستقطاب والاحتكار الفكري والسلفي وتطبيق مبدأ "دكتاتورية الدعوة" وتبني منطق "ما أريكم إلا ما أرى". إذ أن هذا الأسلوب في التعامل عند الدعوة غير مقبول ومرفوض عند عامة وعلماء المسلمين بله غير المسلمين ممن لا إلمام لهم بالعقيدة والشريعة الإسلامية إلا بالسماع من بعيد!.
فوحدة الأمة الإسلامية كامنة في وحدة شعورها والذي أساسه روحي بالدرجة الأولى وميزته المحبة والتوافق والمناسبة والتطابق الغائي دون التواءات أو تعرجات أو تستر بغطاءات سرعان ما تنكشف، لأن الحق هو الذي يكشفها، إذ كل شيء يمكن المراوغة فيه إلا الإسلام، وهو إما أن تكون صادقا مخلصا في إيمانك به عقيدة وشريعة وفي دعوتك إليه، وهذا هو العمل الصحيح المقبول عند الله وعند المخلصين من هذه الأمة المجيدة، وإما أن تكون كافرا تعلن العداء والكيد له وللمؤمنين به صراحة فأنت مكشوف مبدئيا، وإما أن تكون منافقا تداري بالدين وتمتطيه لأهداف خسيسة ودنيوية فانية، وصاحب هذه الغاية لا يستقر أمره على حال إذ سرعان ما يكشفه الدين نفسه ويلفظه على الأرض مرفوضا مكسرا ومقصوم الظهر لا تقوم له قائمة لأن الإسلام علم الله المحيط بالظاهر والباطن، لقوله تعالى: "ما فرطنا في الكتاب من شيء" و"أحاط بكل شيء علما".
وهذه الإحاطة العلمية متناسبة مع القدرة على التغيير والإصلاح والضرب على أيدي المفسدين في الأرض وإيقاف زحفهم بالقوة إذا لم يعودوا إلى طريق الحق والإخلاص في سلوكهم على هديه وشريعته. ولهذا فلم يكن الإسلام ولن يكون أبدا مطية لهدف غير هدفه هو، في أحكامه وغايته، وهذا الهدف هو تحقيق صلاح الإنسان في دينه ودنياه، والصلاح لا يقبل التشطير والمرحلية المتناقضة في أوجهها تناقض أصول وسلوك وغاية ،لأنه كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم "خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذ فقهوا"، وعلى هذا القياس فخياركم في الدنيا خياركم في الآخرة وخياركم في العقيدة خياركم في الشريعة وخياركم في السياسة خياركم في الفقه والتطبيق العملي وخياركم في الأذواق خياركم في الأخلاق. "ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا" صدق الله العظيم؛ وهو ولي التوفيق.
قائمة المصادر والمراجع
[1] - محمد بن عبد الوهاب المصلح المظلوم ص 480
[2] - عنوان المجد في تاريخ نجد ج 1 ص 26
[3] - جزيرة العرب في القرن العشرين ص 117
[4] - د. علياء شكري : بعض ملامح التغيير الاجتماعي والثقافي في الوطن العربي سلسلة علم الاجتماع المعاصر ط 1- 1979 ص46
[5] - د. عبد الفتاح أبو علية، الدولة السعودية الثانية 1840 – 1891 مطبعة المدينة الرياض
[6] - بعض ملامح التغير الاجتماعي والثقافي في الوطن العربي ص 469


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.