أثار انضمام كاديما، بزعامة الجنرال شاؤول موفاز، إلى حكومة نتنياهو، دفعة من الأسئلة المهمة، من بينها فيما إذا كانت هذه الخطوة بداية النهاية لحزب «يمين الوسط» الذي أسسه شارون، في انقلابه الشهير على الليكود، وإذا ما كان للعامل الفلسطيني دور ما في صياغة، وإعادة صياغة الحالة السياسية والحزبية في إسرائيل، وهل يمكن للفلسطينيين حقاً أن يلعبوا هذا الدور وأن تكون لهم قدرة على الفعل في الخارطة الحزبية الإسرائيلية. إذ من المعروف، أن كاديما ولد من رحم الليكود، وانضم إليه بعض القادة التاريخيين في حزب العمل، كشمعون بيريس، وكذلك انضم إليه مؤيدو حزب الوسط. وبتشكيله، انتقل شارون، في موقعه السياسي من مربع اليمين الإسرائيلي، إلى مربع «يمين الوسط»، وخلفية هذه الخطوة قناعته السياسية الراسخة بثلاث قضايا. الأولى استحالة قيام إسرائيل الكبرى، لتضم الضفة والقطاع، ولأسباب ديمغرافية وأيديولوجية وأمنية، من بينها الخلاص من الفلسطينيين حرصاً على «الهوية اليهودية» لإسرائيل. الثانية (حسب قناعة شارون) استحالة إمكانية الوصول إلى اتفاق مع الفلسطينيين، في أية مفاوضات قادمة، تحفظ ما يسمى ب»مصالح إسرائيل»، ما يفترض وضع الفلسطينيين أمام الأمر الواقع، من خلال خطوتين للانكفاء، الأولى من غزة، (جرت في الربع الأخير من العام 2005) والثانية من الضفة، خلف «جدار الفصل» (لم تتحقق لأسباب عدة من بينها مرض شارون وحرب لبنان عام 2006). أما القضية الثالثة التي دفعت شارون للانقلاب على الليكود والذهاب إلى حزب جديد هو كاديما، فهي فشله في إقناع قادة الليكود بصحة رأيه، فاختار عندها تشكيل حزب جديد، فالحزب عند شارون ليس هو المقدس، (كما قال عنه بعض المحللين الإسرائيليين) بل الهدف هو المقدس، وبالتالي يمكن تشكيل حزب جديد كلما رأى لذلك ضرورة. فهو (على سبيل المثال) صاحب فكرة مشروع الليكود في السبعينيات، وهو بالمقابل صاحب قرار الانقلاب على الليكود. وواضح كخلاصة أن خروج شارون من الليكود، وذهابه إلى حزب جديد هو كاديما، كان سببه الصراع مع الفلسطينيين، و»الحل» الذي ارتآه، وقرر العمل على تحقيقه من جانب واحد. إذن، الحالة الفلسطينية هي «عامل موضوعي» في صناعة السياسة الإسرائيلية، «وعامل موضوعي» أيضاً حتى في صياغة أو إعادة صياغة الخارطة الحزبية الإسرائيلية. وهذه الخلاصة تقودنا إلى السؤال التالي: هل يمكن للحالة الفلسطينية أن تتحول من «عامل موضوعي»، تفرضه قواعد الصراع وتداعياته، إلى «فاعل واعٍ» لدوره في صناعة القرار السياسي الإسرائيلي وفي صياغة وإعادة صياغة الخارطة الحزبية الإسرائيلية؟. *** هذا السؤال ليس بجديد. فلقد سبق للقيادة الفلسطينية (في زمن إقامتها في تونس) أن فكرت في هذا الأمر. وفي الانتخابات الإسرائيلية عام 1992، دعت هذه القيادة الناخب الفلسطيني في إسرائيل إلى منح صوته لحزب العمل بقيادة اسحق رابين، (على حساب الأحزاب العربية) لضمان سقوط حزب الليكود، بقيادة اسحق شامير، وضمان وصول رابين إلى الحكم، باعتباره (حسب التقدير الفلسطيني آنذاك) مؤهلاً للوصول إلى اتفاق سلام في المفاوضات الجارية، خلافاً لما كان عليه موقف شامير. ولسنا بحاجة لأن نسرد تاريخ المفاوضات مع رابين، والتطبيقات الإسرائيلية لما تم الاتفاق عليه في أوسلو، وكيف تحولت المصلحة الأمنية الإسرائيلية إلى الأساس الوحيد لتطبيق الاتفاق أو تعطيله. في المرة الثانية حاولت القيادة الفلسطينية أن تلعب دور الناخب في تقرير نتائج الانتخابات التشريعية في إسرائيل، حين تواطأت مع شمعون بيريس، عام 1996، في الالتفاف على مفاوضات الحل الدائم، عشية انتخابات مبكرة دعا لها العمل، بعد مقتل رابين. وخوفاً من أن تشكل مفاوضات الحل الدائم «ثغرة» في مواقف العمل، اتفق مع القيادة الفلسطينية على عقد جلسة شكلية يعلن فيها افتتاح المفاوضات، ثم تعليقها إلى ما بعد الانتخابات. النتيجة معروفة. خسر بيريس، وفاز الليكود بقيادة نتنياهو، وما زالت مفاوضات الحل الدائم، منذ العام 1996 وحتى الآن، تجرجر نفسها، ولم تصل إلى خواتيمها المرجوة! هذا النموذجان (وهناك نماذج أخرى مشابهة) يوضحان كيف تحاول الحالة الفلسطينية أن «تفعل» في الحالة السياسية الإسرائيلية، لكن ليس من موقع الفعل الإيجابي، وبما يخدم المصلحة الفلسطينية، بل من موقع سلبي وبما يستجيب لمصلحة حزب إسرائيلي تراهن القيادة الفلسطينية على أنه سيكون معها، تفاوضياً، أكثر اعتدالاً من سواه. لذلك تعمل على دعمه انتخابياً، في إطار رهان الضعفاء على كسب هذا الحزب وليس في إطار رهان الأقوياء على فرض الحالة الفلسطينية على هذا الحزب الإسرائيلي أو ذاك. وهناك فرق كبير بين «ترتيب» التكتيك الفلسطيني في خدمة حزب إسرائيلي أو آخر، وبين فرض إستراتيجية فلسطينية ترغم الأحزاب الإسرائيلية نفسها على ترتيب، استراتيجياتها وتكتيكاتها، تحت ضغط الإستراتيجية الفلسطينية وفعلها وتأثيرها في الحياة اليومية الإسرائيلية. ولنا في هذا المجال أكثر من مثال. *** إذا أخذنا التجربة الفلسطينية نفسها نستعير منها كيف أن رابين نفسه، يوم كان رئيساً لأركان الجيش الإسرائيلي، توصل تحت ضغط الانتفاضة إلى الاقتناع بأن الحل مع الفلسطينيين لا يمكن أن يكون إلا سياسياً، إذ لا يمكن قهرهم والتغلب والانتصار عليهم عسكرياً. وهذا معناه (في السياسة) الدخول في مفاوضات مع الفلسطينيين تحت ضغط الانتفاضة. وشارون نفسه لم يتوصل إلى قناعته باستحالة قيام «إسرائيل الكبرى» وضرورة «الانكفاء» خلف «جدار الفصل»، لولا الانتفاضة الثانية التي كانت تكبد إسرائيل خسائر فادحة في معظم الميادين. كما أن جورج ميتشل، لم يدعُ، في تقريره الشهير، إلى تفكيك البؤر الاستيطانية التي بنيت بعد آذار (مارس) 2001، إلا تحت ضغط الانتفاضة الملتهبة، والتي تلت فشل مفاوضات كامب ديفيد (تموز/يوليو 2000). كما أن رابين وبيريس لم يطرقا أبواب قيادة م.ت.ف في تونس لولا الانتفاضة الأولى التي سدت الطريق على أية مفاوضات لا تقود إلى ضمان الحقوق الوطنية الفلسطينية. وعلى الصعيد اللبناني، نلاحظ أن الحركات الأهلية في إسرائيل، الداعية للانسحاب من جنوب لبنان، (نساء متشحات بالسواد، نساء الأربعاء) لولا الخسائر التي كان جيش الاحتلال يتكبدها يومياً تحت وطأة ضربات المقاتلين اللبنانيين والفلسطينيين. كما يمكن القول إن «حركات السلام» نشأت في إسرائيل تحت وطأة الخسائر التي كان يتكبدها جيش الاحتلال في الضفة والقطاع وجنوب لبنان على أيدي المقاومتين الفلسطينية واللبنانية. ويسجل التاريخ أنه كلما زادت خسائر إسرائيل على أيدي المقاومة كلما أرتفع صوت القوى الإسرائيلية الداعية إلى «عودة الجنود إلى البيت» والوصول مع الفلسطينيين إلى حل سلمي. وأنه كلما تراجعت وتيرة المقاومة، وأصبحت إقامة الاحتلال فوق الأرض الفلسطينية مربحة، وبلا خسائر، في الأرواح والاقتصاد، كلما ارتفع صوت اليمين واليمين المتطرف وكلما ارتفعت الأصوات الداعية إلى المزيد من التصلب في مواجهة الفلسطينيين. وهكذا نكون أمام إستراتيجيتين: الأولى هي إستراتيجية استجداء المتغيرات بأساليب تؤكد ضعف أصحابها وغياب الإرادة السياسية لديهم. والثانية إستراتيجية فرض الوقائع عبر اللجوء إلى كل عناصر القوة وفي مقدمها قوة المقاومة الشعبية، وعبر تكامل أشكال النضال والكفاح المختلفة. عبر هذه الإستراتيجية، يمكن الحديث عن الحقوق الوطنية، وليس عبر الرسائل والشكوى والبيانات والخطب والمذكرات. ولعلنا نجد في تجربة الأسرى الأخيرة درساً مفيداً.