يقول الدكتور الريسوني: "إن فكرة حقوق الإنسان بتسميتها وفلسفتها ومضامينها المتداولة اليوم هي فكرة غربية وثقافة غربية، بغض النظر عن التقائها وتقاطعها مع كثير من المبادئ والقيم الدينية، بل واستمدادها منها بشكل مباشر أو غير مباشر"[1]، وهذا الرأي بقدر صوابه يترتب عليه أن تكون نشأة حقوق الإنسان نشأة أوروبية، وأن يكون البحث عن تاريخ حقوق الإنسان ومصادرها ومقوماتها قد بدأ في أوروبا أيضاً، ولكن السؤال الذي يوجه إليه. هل يمكن التفريق بين الفكرة والشكل؟ فلو قيل هذا الرأي عن الشكل الحديث أو المعاصر لِ "حقوق الإنسان"، لكان صحيحا دون مناقشة، أما إذا كان الحديث عن فكرة حقوق الإنسان؛ فإن الأرجح أن تنسب الفكرة إلى الرسالات الإلهية جميعها[2]، منذ رسالة آدم عليه السلام ومبدأ الاستخلاف في الأرض، ثم إلى رسالة الإسلام الخاتمة ومبدأ الشهادة على الناس، فالاستخلاف في الإسلام للإنسان المتلقي للعلم من الله تعالى، والشهادة هي شهادة الإنسان المستخلف على الناس، فالإنسان هو محور الرسالات والكتب الإلهية، والدين هو مرجعية الفكر الإنساني طوال تاريخه دون منازع، بما فيها حقوق الإنسان[3]. إن ما نشأ في أوروبا بخصوص حقوق الإنسان لم يكن تأسيساً لفكرة حقوق الإنسان، وإنما صياغة فكرية أيديولوجية مستقلة عن الدين، أو ضد الدين وطعناً به، وبتعبير آخر كانت ردة فعل عن التدين الأوروبي في ذلك الوقت، بل كان الفكر الأوروبي العلماني الحديث في مجمله ردود أفعال غير حكيمة لأزمات دينية وقعت في أوروبا في العصور الوسطى، وفي كل الأحوال؛ فإن النشأة الأوروبية لحقوق الإنسان هي إحدى المراحل التي كانت تبحث للإنسان عن حقه وحضوره وإثبات ذاته وماهيته الإنسانية بنفسه، بعد أن تعرض للقهر والظلم والمحق والاستغلال من موقف الكنيسة من الإنسان، "فقد أنكرت كل من اليهودية والمسيحية الإنسان، ولم يعترف أي منهما به إلا إذا كان، أو صار، من المقدسين ومن الشعب المختار، وأما من بقي خارج ذلك الشعب فلا يستطيع بفعل ما في فطرته هو من شوق إلى معرفة الله، ومن قدرات عقلية وإرادة أخلاقية أن يصير من المقدسين. فهذه لا فعل لها في خلاصه من حال البشرية. وعليه أن يخضع نفسه لفعل الأسرار الإلهية التي أودعها إله المسيحية في الكنيسة، أو أن يكون من المحظوظين الذي ولدوا من أم يهودية"[4]، بل إن التراث الغربي مليء باضطهاد المتدينين لبعضهم بعضاً والحروب الدينية[5]، وما دامت النشأة ردة فعل فإن الفاعل الأصلي هو الدين والموقف منه، على مبدأ القانون الفيزيائي لكل فعل ردة. إن الرأي "الشائع في الكتابات السياسية والقانونية وفي الدراسات الاجتماعية، أن عهد الإنسان بالوثائق والشرائع التي بلورت حقوقه الإنسانية، أو تحدثت عنها، مقننة لها، ومحددة لأبعادها، قد بدأ بفكر الثورة الفرنسية الكبرى التي بدأت أحداثها 1789م"[6]، ومن حيث التاريخ؛ فإن إعلان حقوق الاستقلال الأمريكي الصادر في 4/7/1776م، والذي يوصف بإعلان توماس جفرسون[7]، كان أسبق من تاريخ إعلان الثورة الفرنسية. يقول أحد المختصين بحقوق الإنسان من الناحية القانونية: "وتمجيد الحقوق الإنسانية في الوثائق الدستورية القومية والعالمية هو تطور يرجعه المؤرخون عادة إلى نهاية القرن الثامن عشر، وفي ذلك الحين كانت الحقوق الأساسية معددة في بيانات شبيهة بالبيانات التي نجدها في دساتيرنا اليوم، وإن كانت مكتملة في الشكل وأوسع مجالاً. وكان أول عمل قانوني من هذا النوع اكتسب شهرة مسوغة هو وثيقة فرجينيا للحقوق سنة 1776، وهي إعلان الحقوق التي قاوم بها المستوطنون الأمريكيون مطالبة التاج البريطاني بالسلطة والتي تظهر فيها -حتى بالنسبة إلى قارئ اليوم- روح الحرية المسئولة التي أدت بعد مدة قصيرة إلى انفصال المستعمرات، وفي أوروبا، أخذ المبادرة "الإعلان الفرنسي للحقوق الإنسانية والمدنية معلناً فجر عصر جديد"[8]. يتبع في العدد المقبل.. ------------------------------------- 1. حقوق الإنسان محور مقاصد الشريعة، الريسوني وآخرون، مصدر سابق، ص: 39. 2. حقوق الإنسان بين تعاليم الإسلام وإعلان الأممالمتحدة، محمد الغزالي، ص: 7. 3. حقوق الإنسان في الشريعة الإسلامية، مولاي ملياني بغدادي، ص: 80. 4. فلسفة الإسلام في الإنسان، الدكتور علي عيسى عثمان، ص: 102. 5. تاريخ الكنيسة، الحروب الدينية، التسامح المستحيل، بقلم: جان لويس مونرون، 3/109. 6. الإسلام وحقوق الإنسان، الدكتور محمد عمارة، سلسلة عالم المعرفة، العدد: 89، شعبان 1405ه، أيار 1985م، ص 13. كتاب حقوق الإنسان في ضوء الحديث النبوي، الأستاذ: يسري محمد أرشد، سلسلة كتاب الأمة، العدد: 114، قطر، رجب 1427ه، ص: 40. 7. الدستور الأمريكي أفكاره ومثله، أدلر مورتمر ج، ترجمة صادق إبراهيم عودة، مركز الكتاب الأردني، 1989م، ص: 159. 8. الإسلام وعالمية حقوق الإنسان، كريستيان توماشات، مصدر سابق، النص المنقول لكريستيان من بحثه: حقوق الإنسان من المنظور القانوني، ص: 10.