قبل أربعين سنة من هذا التاريخ، خرج الفرنسيون في ثورة قادها الطلاب ضد إصلاح فوشيي التربوي، وسار في مقدمتها فلاسفة فرنسا ومفكروها يتقدمهم سارتر وميشيل فوكو وجيل دولوز وغيرهم. ثورة 68 ليست حركة احتجاجية بل هي حركة اجتماعية كبيرة ساهمت فيها كبريات النقابات الفرنسية وانضمت إليها، يوما بعد يوم وعلى مدار شهر، كامل كل أطياف المجتمع الفرنسي، حتى الدوغوليون وجدوا أنفسهم مرغمين على الرضوخ للأمر الواقع والاستجابة للمطالب الاجتماعية والثقافية والسياسية للمجتمع الفرنسي. لعل شظايا كثيرة تكون قد وصلت إلى المجتمع المغربي، لكنها لم تدم طويلا، وأثرها ظل محدودا في الأنتلجنسيا المغربية، وبالأخص النخبة الفرنكفونية منها. من المؤسف ألا يكون لنا نحن المغاربة مثل ماي 68، بالرغم من الوضع الاجتماعي المنحط الذي يتخبط فيه المغرب، ومن المحزن أن يقدم المثقف المغربي استقالته من المجتمع، ويكتفي بالدور القليل، البئيس في التعيش على الفتات، أو يجنح إلى الصمت، أو ينتهز الوضع كي يتحالف مع الخصوم الاجتماعيين ضد مصالح الناس. لم يستطع المثقف المغربي، بالمعنى الشامل للكلمة، أن يقدم قراءة صحيحة وشاملة لعلاقته بالمجتمع، لقد ظلت الدولة تطرده حينا، وفي أحيان أخرى تستميله وتقدم له الإغراء وتشتري سكوته، أو أنها في ظل الغلبة المطلقة التي تحققها في جولات الصراع الاجتماعي تتناساه وترمي به إلى الهامش. مصالح المثقفين هي، مثل مصالح جميع الطبقات المسحوقة، متضررة، فهم بدون حيز حر مثل العامل الممنوع من ممارسة العمل النقابي، أو العامل الذي يجد نفسه تحت سيطرة مركزية نقابية أو ما شابه ذلك، تفاوض باسمه الدولة والفرقاء. سيكون من العدل تقريبا القول بأن بلدنا يحتاج إلى أكثر من ماي مغربي، وإذا جاز التشخيص ستكون النتيجة سوداء وفي مختلف المجالات، فالأسباب التي دعت الطلبة والهيئات التربوية إلى الخروج إلى الشارع الفرنسي في ماي 68 احتجاجا على المشروع الإصلاحي لفوشي هي نفسها اليوم متوفرة وكاملة النصاب في الحالة التربوية المغربية في ظل إصلاح تعليمي تم الاعتراف بفشله من طرف صانعيه. الحركات الاجتماعية ليست مجرد فعل احتجاجي، بل تأطيرا قبل كل شيء ووعيا وتفكيكا لمرحلة، ونظرة تجاوزية إلى مرحلة قادمة أكثر إنصافا وعدالة. أحمد شراك: احذروا الغضب الشعبي الراقد يرى الدكتور أحمد شراك، الباحث في العلوم الاجتماعية، أن ثورة ماي 68 في فرنسا قد خلخلت الكثير من المفاهيم وكان لها أثر كبير في الثقافة الغربية وبالأخص على مستوى فهم النص الماركسي اللينيني، وقال إنه إذا قرأنا هذه الواقعة التاريخية يمكن أن نسجل القوة الشبابية التي انخرطت فيها، وهي فئات كانت تحمل في داخلها توقا إلى عالم جديد تسود فيه العدالة الاجتماعية، ولذلك كان من الطبيعي جدا أن تحقق أهدافها على مستوى الشعارات الكبرى التي حملتها، ومن بينها على وجه الخصوص الحرية الفردية ومطالب العدالة الاجتماعية والحداثة، وهي مطالب عكست توجهات المجتمع العالمي الجديد الخارج من حروب كونية ومن حرب باردة ضارية يريد من خلالها النموذج الأمريكي أن يفرض قراءته الوحيدة الممكنة للعالم والوجود المادي المهيمن للرأسمالية الجشعة. ويمضي أحمد شراك قائلا: من دون شك أن القيم الكبرى لثورة ماي 68 صالحة لكل زمان ومكان مع بعض الخصوصيات كما هو حال الأسرة في المجتمعات العربية التي تعتبر مركزية في البنية الاجتماعية ولا يمكن تجاوزها لصالح أي شكل من أشكال التفكك، ذلك أن مؤسسة العائلة هي محور البناء الاجتماعي في العالم العربي، غير أنه يمكن الإفادة من الكثير من المبادئ في هذه الثورة وبالأخص الشعارات الكونية التي رفعتها، من حيث التنبيه إلى الخطر الماحق للهيمنة الأمريكية على العالم، هي شعارات لم ترفع هكذا جزافا بل جاءت نتيجة قراءة عميقة للواقع، قام بها المفكرون والمثقفون الفرنسيون، حيث يمكن استخلاص الدروس في الحالة المغربية: إنه كلما كان المثقف المغربي قريبا من الناس ومن النبض الاجتماعي، كان أكثر نجاعة، وكلما استهوته التهويمات والتحليقات، ازداد انغزالية. وهذا درس ينبغي أن يستخلصه المثقفون المغاربة، ذلك أن عودتهم اليوم إلى المعترك الاجتماعي مطلوبة على الصعيد الفكري وأيضا على المستوى الشخصي، كلما كان المثقف المغربي قريبا من الحركات الاجتماعية، ساهم في تأطيرها وفي جعلها أكثر نجاعة. هنا لا بد أن نتذكر النخبة الثقافية الفرنسية التي سارت في مقدمة مظاهرات باريس، تلك المظاهرات التي دامت حوالي شهر تقريبا، والتي جعلت حكومة ديغول تخضع للمطالب الفرنسية. نحن الآن في المغرب، وبالنظر إلى خطورة الوضع الاجتماعي واشتداد الضائقة الحياتية على المواطن المغربي بالإمكان الإفادة من ثورة ماي الفرنسية، وجعل الفعل الاحتجاجي بوابة ومنطلقا لطرح كافة القضايا الخاصة بالمجتمع المغربي، إننا لا نعيش حيفا على مستوى توزيع الثروة المادية في البلاد، بل أيضا نعيش حيفا مزدوجا على مستوى توزيع الثروة الرمزية، ومنها الثروة الثقافية. هناك سوء توزيع في اقتسام ثروة المغرب الثقافي، في الوقت الذي ترفع فيه الجهات الرسمية خطاب التعددية والديمقراطية، بينما نجد الممارسة تجنح نحو مزيد من تكريس الجهل والأمية وإفراغ المدرسة من محتواها والإجهاز على التعليم العمومي، والدفع قدما بمسلسل تجهيل الأجيال الجديدة. ومن ثمة أقول إنه بالإمكان استمداد بعض المقومات الثقافية والتنظيمية التي أدت إلى نجاح ثورة ماي الفرنسية، غير أننا نحتاج إلى وقفة متأنية بصدد الوضع الاجتماعي في المغرب الذي يزداد سوء دون أن تنجح الجهات الرسمية ولا الحكومات المتعاقبة في إيجاد الحلول المناسبة للمعضلة الاجتماعية. إننا ما نزال هنا في المغرب في حاجة إلى دروس على مستوى ثقافة الاحتجاج، فالحركات الاحتجاجية في العالم العربي غير مؤهلة لا ذاتيا ولا موضوعيا للقيام بما قامت به ثورة ماي 68، من حيث انتزاع المطالب الاجتماعية والسياسية من الطبقات السائدة، وبالتالي فإن الخوف اليوم هو من استيقاظ الوعي الشعبي الراقد، والذي لامتصاصه لابد من الوجود ضمن أفق مطالبه، هذا الوعي المتذمر قد يعبر عن نفسه في أي لحظة وبالطريقة العشوائية التي تحضره، إن الوعي الشعبي لا ينتظر أحدا، لا ينتظر حزبا أو نقابة أو دولة كي تأتي إليه على مهل ووقتما تشاء كي تخاطبه وتنصت إليه. يكون الوقت في هذه الحالة قد فات، كما نلاحظ اليوم مثلا في بعض البلاد العربية من قبيل مصر، والتي تعرف اليوم تناميا في المسلسل الاحتجاجي خارج كل تأطير نقابي أو حزبي. خبز الثقافة الوضع في المغرب وضع صعب اجتماعيا، فمن جهة تخلت النقابات عن دورها في التأطير، وتحولت من نقابات مطلبية إلى نقابات تقول عن نفسها إنها «تشاركية»، بينما لم يعد لها أي برنامج اجتماعي في الوقت الذي شكل فيه الجانب الاجتماعي قوة دفع أساسية في العمل النقابي، وأصبح العمل النقابي يختزل بالتالي في تظاهرة فاتح ماي، ثم بعد ذلك تنتهي الأمور وتعود الكلمات الحادة إلى أغمادها. لا أعتقد أن المعضلة الاجتماعية والتي هي ثقافية في الوقت نفسه يمكن أن تجد لها حلولا، بعيدا عن معالجة ناجعة لمشكلة البطالة، وبطالة الخريجين على وجه التحديد، كما لا يمكن استغفال التغطية الصحية التي أصبحت مطلبا لا يمكن التراجع عنه زيادة على المزيد من الحلول الفورية لمشكلة السكن ومحاربة غول ارتفاع العقار وتفعيل سريع لمشروعات السكن الاجتماعي. هذه هي المكونات المركزية للمجتمع وللمجتمع المدني، واختلالها هو بداية فشل كل مخطط وكل إصلاح مهما كان ومهما كانت نواياه، مع ما يعني ذلك من محاربة للفقر الثقافي وسياسات التجهيل المتعاقبة. يحلم الكثيرون بأن تتحول الثقافة إلى خبز رمزي وأن تكون المؤسسة الثقافية قادرة على التواصل مع جميع فئات الشعب المغربي بمختلف مكوناته الثقافية واللهجية واللغوية، وأن تستطيع فعلا أن ترقى إلى مستوى الاقتصاد الثقافي الذي يروج السلعة الثقافية المغربية في الداخل وفي الخارج، ويكون بالفعل اقتصادا مدرا للربح، في مجال السينما والمسرح والتشكيل وصناعة الكتاب، وأن يشغل هذا القطاع آلاف الأيدي العاملة من الكفاءات المغربية التي تهرب يوميا إلى الخارج عبر كل المنافذ المتاحة والممكنة. هذا كله لا يمكنه أن يحيا أو يعيش إلا في مناخ ديمقراطي وفي جو من العدالة الاجتماعية وفي سياق احترام الحريات وحقوق الإنسان، وإلا فإنه علينا أن ننتظر الأسوأ.