«لا تدعه يبقيك مستيقظا طوال الليل لأن اللغز لن تستطيع حله والأسئلة لن تجد لها أجوبة»، لكن في «أسرار غامضة طبعت التاريخ» نقوم بالإحياء الدرامي الدقيق لتلك الأسرار التي ألهمت الخبراء وأثارت اهتمامهم وأذهلتهم لقرون وعقود وجعلت من شخصياتها أساطير في الذاكرة. سوف نقوم بكشف حقيقة بعض الشخصيات الأسطورية من خلال اكتشاف أدلة ونظريات جديدة. إنه الرئيس السادس عشر لأمريكا، ويمكن القول إنه أفضلهم، لكنّ اغتياله المفاجئ خلق أسطورة حجبت شخصيته الحقيقية. من خلال تحليل طبي وتاريخي ونفسي معمق، سنقوم بتحليل لشخصية لنكولن وبالكشف عن تأثير حياته غير العادية عليها. يوم الجمعة العظيمة إنه ال14 من أبريل عام 1865، خمسة أشهر فقط بعد انتخابه رئيسا للبلاد للمرة الثانية يذهب إبراهام لنكولن إلى المسرح لمشاهدة مسرحية هزلية.. إنه «يوم الجمعة العظيمة».. بعد ساعتين على بدء المسرحية، توجّه شخص إلى الركن المخصص للرئيس وأطلق عليه النار بمسدس من نوع «ديرنغر». وفي اليوم الموالي، توفيّ لنكولن ليصبح بذلك أولَ رئيس أمريكي يجري اغتيالُه. يقول هارولد هولزر، مؤلف كتاب «لنكولن»: «صادف يوم الأحد عيد الفصح، كانت جميع المنابر في هذا البلد تردد خطبا تقارن لنكولن بالمسيح لأنه قُتِل بسبب خطايا البلد، وقد أوجد هذا أقوى صدى على الإطلاق ورُفِع لنكولن ليصبح في نظر الناس قديسا علمانيا وأسطوريا على الفور».. جميس ماكفيرسون من أشهر المثقفين في العالم الذين درسوا شخصية لنكولن، يقول عن هذه الشخصية: «نسيّ الناس كل النقد الذي وجه له بسبب أخطائه وإخفاقاته في زمن الحرب، لأنه اغتيل في لحظة نصر فلم يَروِ سوى الشهادة.. لقد أصبحت حياة لنكولن مثالية وجرى تناسي تعقيدات شخصيته». يقودنا تحقيق حديث إلى كشف صورة أوسع لهذا القائد الذي كان، في الغالب، رجلا قاسيا عازما على النجاح، وكانت أفعاله في الحياة مُستمَدّة من بدايات ضعيفة ومن الفقر الذي خرج منه. أسرار الطفولة ترعرع لنكولن في كنتاكي، في مزرعة «سينكينغ سبرينغ»، ولد في منطقة ريفية في كوخ خشبي في عائلة من المزارعين الفقراء المكتفين ذاتيا. كان مستواه العلمي محدودا وكان، دائما، يشعر بالحرج، لأنه لم يكن متعلما. عندما وصل لنكولن إلى الكونغرس، أعطيَّ نموذجا ليملأه وتحت عنوان المستوى التعليمي كتب «ضعيف» واستعمل الكلمة كنوع من السخرية.. يعتقد الخبراء أنه استمد من طفولته، المليئة بالحرمان، وحوّلها إلى وسيلة للنجاح. خلال حملاته السياسية كان يردد دائما: «أنا إبراهام لنكولن، المتواضع، سياستي قصيرة وبسيطة مثل رقصة امرأة عجوز».. لكن الحقيقة طبعا مختلفة جدا، فلم يحقق أحد ما حققه لنكولن ولم ينهض أحد من العدم مثلما نهض هو، لقد كان بارعا في السخرية من نفسه، وقد خلق صورة معيّنة عن نفسه ليعشقها الناس ويحترموها من دون أن نرى المطامح التي كان يفكر فيها. يرى مايكل بيرلينغايم، المؤرخ وأستاذ علم النفس، أن جذور مطامح لنكولن منغرسة مع شعور بالدونية، إذ كان يعي جيدا أنه رجل ريفي هو لا يريد أن يكون مزارعا أو نجارا كوالده ولم يشأ أن يعيش في الريف كما فعل والده، وبالتالي كان طموحه الأول أن يغادر ذلك العالم.. لقد حقق ذلك من خلال القراءة على نطاق واسع وعلّم نفسه الكثير من الأمور، لكن سعيه إلى الحياة العامة لم يكن لأسباب تتعلق بمصلحة الغير، كما يكشف بيرلينغايم، بل تبدو دوافعه أكثر من شخصية. وحقق لنكولن أول فوز سياسي حين كان في سن الخامسة والعشرين، حين انتخب ضمن الهيئة التشريعية في ولاية إيلنوي عام 1834 وتمكن، بعد ذلك، من شغل مراكز قانونية ناجحة. أسرار لنكولن السياسي إن أكثر صفة سيئة اكتشفها بيرلينغايم في لنكولن الشاب هي ميله كسياسي إلى القسوة، لقد استخدم روح الدعابة ليسخر من خصومه، خالقا جوا من المرح والإحراج في الوقت نفسه، وكان هناك نوع من التعجرف في بعض المقالات التي كتبها وكان يُوقّعها باسم شخص مجهول في ثلاثينيات وأربعينيات القرن التاسع عشر، ساخرا من خصومه السياسيين.. ففيما قد تكون مثل هذه الأساليب فعّالة في ولاية حدودية كإلينوي، فإنها لم تكن مناسبة للوصول إلى الرئاسة. غير أنه في مرحلة من حياته تغيّر لنكولن على نحو واضح، إنه حادث مر به عام 1842 حين دعاه جيمس شيلدز، خصم سياسي وأحد ضحايا تصريحاته الساخرة، إلى مبارزة للدفاع عن شرفه، وكان سلاح المبارزة هو السيف، لكنْ في اللحظة الأخيرة تمكّن أحدهم من إقناعهما بالتوقف وانتهى الأمر باعتذار لنكولن ورحليه عن الساحة السياسية لمدة 5 سنوات.. خلال تلك الفترة، التي بدت سطحية وخالية من الأحداث، مرّ لنكولن من الرقي النفسي الكبير وأصبح سياسيا فاضلا بدلا من ذلك السياسي الساخر، وشكّل صدور قانون كنساس -نبراسكا عام 1854، الذي سمح للمستوطنين باستخدام العبيد، مع وجود قانون آخر يجعل كل الأراضي بدون عبيد، فرصة لعودته إلى المعترك السياسي. ألقى خطابا أبان عن بلاغته وقوته الفكرية ورفع من مكانته السياسية إلى مستوى وطني قال فيه: «لا يمكن للبيت المنقسم أن يصمد.. أعتقد أن هذه الحكومة لا يمكن أن تصمد: وفي بعض أراضيها عبيد والبعض الآخر خالٍ من العبيد.. لا أتوقع أن يحل هذا الاتحاد.. لا أتوقع أن ينهار هذا البيت، بل إنه لن ينقسم». من خلال بحث مكثف، كشف مايكل بيرلينغايم عن مواقف لنكولن المناهضة للعبودية قائلا: «قال إنه من المثير للغضب أن يخرج أحدهم ويعمل تحت أشعة الشمس الحارقة طيلة اليوم، بينما يجمع شخص آخر كل الأرباح». بدا مجددا أن تجربة لنكولن في طفولته تؤثر في أفعاله المستقبلية، واكتشف بيرلينغايم أن لنكولن حين كان شابا كان والده يؤجره للجيران وكان يعمل أعمالا شاقة في الزراعة وقطع الحطب.. وكان يعطي كل ما يجنيه لوالده. لقد أصبح مناصرا للعبيد عن غير وعي ومعتبرا والده من أصحاب الرقيق.. في 6 نونبر 1860، حقق لنكولن فوزا مفاجئا ليصبح الرئيسَ السادسَ عشر لأمريكا، بعد أن تلقى دعما من الولايات المناهضة للعبودية في الشمال، بينما كانت الولايات الجنوبية تعتمد على العبودية، لذا لم تضع اسمه على ورقة الاقتراع، فنشبت حرب أهلية.. في تلك السنوات عانى لنكولن على المستوى الشخصي، ففي العام 1862 توفي ابنه وليام بحمى التيفوئيد، وكان ذلك صعبا عليه وعلى زوجته، لأنه كان الولد المفضل لديهما. وتكشف أدلة حديثة أنه حاول التخلص من المشكل بتناول دواء «كلوماس»، وهو كتلة زئبقية تخفف الكآبة.. دواء قوي أثّر في شخصيته ومزاجه وجعله سريع الانفعال والغضب. يؤكد نوربرت هيرشهورن، وهو طبيب مؤرخ، أن تصرفات لنكولن الغريبة سببها العقار الذي كان يُسمّمه ببطء، غير أنه سرعان ما توقف عن تناوله بعد 5 أشهر، حين بدأ يدرك التأثيرات الجانبية للدواء. قبل اغتياله بثلاثة أيام، تحدث لنكولن عن الحقوق السياسية للعبيد الأحرار، وكان بين الجمهور ممثل شاب يدعى جون ولكس بوث أغاظه ما صرح به لنكولن وقال غاضبا: هذا آخر خطاب سيلقيه في حياته.. سأقضي عليه، وبعد يومين فقط، أطلِق النار على رأس الرئيس.. وبموته أصبح لنكولن بطلَ الاتحاد وخُلّد كأعظم الرجال في تاريخ أمريكا، التي صفحت عن بعض من إخفاقاته السياسية..