لا يولي المسؤولون، في الأغلب الأعم، كثيرَ أهمية لما يتمخَّض عنه البحث العلمي الوطني عموماً، والبحث الاقتصادي بصفة أَخص، على عِلَّاته وبالرغم من الظروف الصعبة التي يتحرك فيها، من خلاصات نظرية وتجريبية، ومن نتائج عملية من شأنها أن تساعد على بلورة القرار العمومي في مجال السياسة الاقتصادية، وعلى رسم الخطط الاستراتيجية، وإعداد البرامج الإنمائية. الأمر مُؤسف وُمؤلم وغير مُبرَّر تماماً بالنظر إلى ما يترتَّب عن «الأفضلية الأجنبية»من آثار سلبية على الأداء المعرفي الوطني، وما يُخِّلفه هذا الجهل، أو هذا البخس من إحباط للباحث المغربي. خاصة عندما يتمُّ اللجوء إلى الخبرة الأجنبية التي تلجأ بدورها إلى الخبرة الوطنية، تأخذ منها ما تشاء وتترك ما تشاء، دون أدنى اعتبار للأمانة العلمية. لماذا الاهتمام الرسمي الآن بمفهوم الثروة غير المادية؟ هل هو مفهوم جديد؟ هو في الواقع مفهوم جديد قديم. تقرير البنك الدولي لسنة 2006 الموسوم «أين تكمُن ثروة الأمم؟»، الذي أشار إليه خطاب العرش الأخير، لا يمكن اعتباره الأول من نوعه إذا ما اعتبرنا الأدبيات الاقتصادية التي تناولت الموضوع من زاوية أو من أخرى. بل إن «عودة الروح»، إن جاز هذا التعبير، إلى المقاربة التقليدية، الباردة وغير البريئة التي يعتمدها البنك الدولي هو الأمر الجديد. ذلك أن المقاربة التي روَّجت لها المؤسسات المالية الدولية على امتداد أكثر من نصف قرن، سواء في المغرب أو في بلدان أخرى، هي بالذات ما يأتي التقرير الأخير لينتتقدها ضمنياً، وُيبيِّن، بطريقة غير مباشرة، تهافُتها النظري وقُصورها المنهجي في قياس الثروة، بل إنه (التقرير إياه) جاء ليجُبَّها ويقترح مقاربةً أوسع وأشمل تأخذ في الحُسبان ليس فقط الثروة المادية، الطبيعية والمُنتجَة، بل أيضا الثروة غير المادية، أو غير الملموسة، كرأس المال البشري (من يد عاملة غير مؤهلة ومؤهلة)، ورأس المال الاجتماعي (الثقة، التماسك الاجتماعي، المجتمع المدني)، ورأس المال المؤسسي(الاستقرار السياسي، فاعلية الحكومة، النوعية التنظيمية، سيادة القانون، مراقبة الفساد، المساءلة والشفافية).وفي الحقيقة فإن البنك الدولي لم يقم بالنقد الذاتي المطلوب قبل أن يراجع توجُّهاته وينسخ بعضاًً من توصياته. ولا نتذكَّر أنه تساءل يوماً عن نجاعة السياسات التي يوصي بها بإصرار شديد، أو بالأحرى يُمليها إملاءًًعلى حكومات البلدان النامية. لم يحدث أن اعترف يوماً بالأخطاء التي ارتكبها، وهي ليست بالقليلة، من حيث التشخيص أو من حيث التقدير. وكأننا بإزاء مؤسسة متعالية، لا يأتيها الباطل، أو سلطة فوق المحاسبة. أقصد هنا المحاسبة من الناحية الأخلاقية على الأقل، ذلك أن المسؤولية السياسية، في تقديري، لا تتحملها، في آخر التحليل، سوى الحكومات التي تلتزم بتطبيق الوصفات الجاهزة والمجانية، دون احتساب للتكلفة الباهظة التي تتولَّد عنها بالنسبة للشعوب، بلا طائل. وبالمناسبة فإن الجمعية المغربية للعلوم الاقتصادية بصدد الإعداد لندوة علمية حول الأدوار التي تضطلع بها المؤسسات المالية الدولية في بلادنا بصفة عامة، وحول المسؤولية السياسية التي تتحملها في الوضعية الناجمة عن توصياتها إن سلباً أو إيجاباً، على وجه الخصوص. هل كان لابد من الإشارة الملكية لكي ينتبه المسؤولون إلى أن الثروة تتضمن أيضا رساميل غير مادية؟ لماذا لم يتم لحد الآن تحيين لأدوات القياس؟ لا يولي المسؤولون، في الأغلب الأعم، كثيرَ أهمية لما يتمخَّض عنه البحث العلمي الوطني عموماً، والبحث الاقتصادي بصفة أَخص، على عِلَّاته وبالرغم من الظروف الصعبة التي يتحرك فيها، من خلاصات نظرية وتجريبية، ومن نتائج عملية من شأنها أن تساعد على بلورة القرار العمومي في مجال السياسة الاقتصادية، وعلى رسم الخطط الاستراتيجية، وإعداد البرامج الإنمائية. الأمر مُؤسف وُمؤلم وغير مُبرَّر تماماً بالنظر إلى ما يترتَّب عن «الأفضلية الأجنبية»من آثار سلبية على الأداء المعرفي الوطني، وما يُخِّلفه هذا الجهل، أو هذا البخس من إحباط للباحث المغربي. خاصة عندما يتمُّ اللجوء إلى الخبرة الأجنبية التي تلجأ بدورها إلى الخبرة الوطنية، تأخذ منها ما تشاء وتترك ما تشاء، دون أدنى اعتبار للأمانة العلمية. بالنسبة لموضوع الثروة ومُكوِّناتها والعوامل المؤَثِّرة فيها لا يمكن أن نغفل، على سبيل المثال لا الحصر، ما تركه لنا الراحل عزيز بلال من كتابات في الموضوع، خاصة في مؤلفه «التنمية والعوامل غير الاقتصادية»الذي صدر عام 1980. وتشمل العوامل غير الاقتصادية البنيات السياسية والاجتماعية والثقافية، التي يُصطلح عليها بالرساميل غير الملموسة بمفردات البنك الدولي. لا ينبغي، أيضا، أن ننسى «تقرير الخمسينية»حول التنمية البشرية الذي يعتبر من الإنجازات النوعية النادرة في بلادنا التي تمَّت، من الألف إلى الياء، بالاستعانة بالباحثين والخبراء المغاربة. وقد لا نُجانب الصواب إذا قلنا إنه التقرير الوطني الأهم والأعمق والأشمل بعد المخطط الخماسي 1960 1964 الذي ساهمت في بلورته وصياغته نخبةٌ من الخبراء المغاربة من تخصُّصات متنوعة، اقتصادية وسوسيولوجية، بإشراف عبدالرحيم بوعبيد وزير الاقتصاد آنذاك في حكومة عبدالله إبراهيم. كانت التوجهات الاستراتيجية محكومةً بالحاجيات الوطنية في مجالات النمو الاقتصادي والتقدم الاجتماعي، وكان القرار السيادي يتم باعتبار المصلحة الوطنية، بالرغم من الإكراهات الدولية والأجنبية التي لم تكن أقلَّ ضغطاً. في «تقرير الخمسينية»ما يكفي من إشارات واضحة لكي يمضي المسؤولون في تفعيل الخلاصات التي توصَّل إليها الخبراء المغاربة سنة 2005، أي قبل أن يستفيق البنك الدولي من غفوته، ويكتشف أهمية ما يسميه اليوم الرساميل غير الملموسة، ودورها الوازن في خلق الثروة، وفي تعظيم حجمها وتحسين نوعيتها. كيف يتم قياس الثروة؟ هل توجد أدوات خاصة لقياس الثروة غير المادية؟ الثروة المادية تُقاس، مُحاسبيّا، بالناتج الداخلي الخام الذي هو إجمالي ما تختزنه الدول من مواد خام طبيعية، وما تنتجه من بنيات تحتية ومن تجهيزات كالطرق والموانئ والمطارات والمدارس والمستشفيات على سبيل المثال لا الحصر، ومن منتوجات سلعية، فلاحية أو صناعة أو خدمية. عملية القياس أو التقدير تختلف من مُكوِّن إلى آخر، فالثروة المنتَجة يمكن احتسابُها باعتبار قيمتها النُّقودية، أو صافي الدخل. قياس رأس المال يتِمُّ باحتساب قيمة الاستثمار الكُلِّي ناقصاً منها قيمة استهلاك رأس المال. تكمُن الصعوبة الإجرائية في تقدير الثروات الطبيعية بسبب من ضعف أو من غياب البيانات. تجريبياً، يُستعمل «نموذج الجرد الدائم»لقياس را?س المال المنتَج، بينما يتِمُّ استخدام صافي القيمة الحالية للدخل لتقويم مخزونات الموارد الطبيعية. تكون عملية القياس أصعب وأعقد عندما يتعلق الأمر بالثروة غير الملموسة، حيث لا يتِمُّ تقديرها سوى كثروة مُتبقِّية، أي كفارق بين إجمالي الثروة (القيمة الحاليةللاستهلاك المستدام)ومجموع الإنتاج المادي والمواد الخام الطبيعية. يتوفَّر علم الاقتصاد على دالَّةٍ تقليدية لاحتساب قيمة المساهمة النسبية لكل عامل من عوامل الإنتاج (رأس المال والعمل أساساً)، تسمى دالَّة كوب دوكلاس. وعندما يكون هناك إسهام غيرُ مُحدَّد فإنه يُعزى إلى عامل مُتبقٍّ، قد يكون هو التقدُّم التِّقني، أو رأس المال البشري، كما تقول بذلك نظرية النمو من الذات؛ وهو ما يعنيه اليوم مصطلح رأس المال غير الملموس . تكمن إشكالية التَّكْميم الاقتصادي ببلادنا في غياب المعطيات والبيانات الإحصائية. بعض النماذج القياسية كنموذج التَّوازُن الكُلِّي على سبيل المثال، بغضِّ النظر عن صِدْقيَّته النظرية وتلاؤُمية فرضياته مع المنظومة الاقتصادية الخاصة ببلادنا، يتعذَّر توظيفُها واستعمالُها عند صَوْغ السياسات الاقتصادية لعدة أسباب من بينها عدم توافر المعطيات الضرورية، خاصة عندما يتعلق الأمر بالزمن الطويل. يُعتبر غياب المعطيات الإحصائية بالنسبة لبعض المؤشرات، النوعية منها بالأساس، وفقرُ المعلومات الاقتصادية إحدى المعضلات الكبرى التي تقف حجر عثرة ليس فقط أمام البحث الاقتصادي في جوانبه الرياضية والتَّكْميمية، بل أيضاً أمام رسمِ السياسات الاقتصادية، ووضعِ الاستراتيجيات والقيام بالتوقُّع والاستشراف والاستباق. من النتائج التي أفضى إليها «تقرير الخمسينية»ضرورة بناء القاعدة الوطنية للبيانات الإحصائية، الماكرواقتصادية والميكرواقتصادية، واستكمال وتدقيق سلاسل المعطيات النوعية في المجالات الاجتماعية والثقافية والقيمية. تقرير البنك الدولي ذاته لا يتورَّع عن التنويه إلى الحدود المنهجية والإحصائية التي تشوب المقارنات التي يَعقِدُها بين الدول من حيث مستويات الثروة بصفة عامة، والثروة غير الملموسة على وجه الخصوص. من ثمة، ينبغي قراءة الاستنتاجات التي يتوصَّل إليها التقرير في نِسبيَّتها وبغير قليل من الحيطة. هل وضعية المغرب أفضل بمقياس الثروة غير المادية؟ يشتكي المغرب كثيرا مما يصفه ب «ظلم»التصنيفات الدولية، ومنها على الخصوص تلك التي ينجزها برنامج الأممالمتحدة للتنمية البشرية. يرى المسؤولون أن التصنيفات الدولية لا تُنصِف بلادَنا بالقياس إلى الجهود غير المسبوقة، والموصولة منذ»تقرير الخمسينية»، الرامية إلى تحسين المؤشرات المتعلقة بالتنمية البشرية، كإصلاح منظومة التربية والتكوين، والنهوض بالإسكان الاجتماعي، وتوفير الخدمات الصحية، وتحسين وضعية المرأة والمشاركة والحريات العامة. من هذا المنظور ينبغي النظرُ إلى السِّجال المنهجي الذي ما تنفكُّ تخوضه المندوبية السامية للتخطيط، على مستوى الأممالمتحدة، لإعادة صياغة مُؤشِّر التنمية البشرية التركيبي بتنسيب إسهام الناتج الداخلي الخام، الذي لا يأخذ بعين الاعتبار ما للبلدان الريعية، مثل الجزائر مثلا، من امتيازٍ مقارنةً مع البلدان المحرومة من المخزونات النفطية أو الغازية كما هو الحال بالنسبة إلى المغرب. هذا التحفُّظ المنهجي لا يعدم صواباً، غير أن الوضعية العامة لبلادنا تظل، بكل المقاييس، دون المستوى المطلوب في مجال ما يُصطلحُ عليه الاقتصادي الكبير أمارتيا سين بالقدرات البشرية، وبالتمكين الاجتماعي. وليس بوسع المؤشرات أن تُغيِّر من المستوى المتدني لمؤشرات التنمية البشرية سوى بدرجاتٍ حدِّية. لا شك أن لأَدواتِ القياس والتقدير، مثلها مثل الفرضيات النظرية والاختيارات المنهجية، أهمية إجرائية، فهي ليست حيادية في المطلق. من هنا فإن من شأن منهجية احتساب الثروة غير الملموسة أن تُحسِّن من الترتيب النسبي للمغرب بالمقارنة مع التصنيف الذي لا يأخذ في التقييم الإسهامات التي تعود إلى الأصول غير الملموسة في إنتاج وإعادة إنتاج الثروة. إذا ما أخذنا مكونات الثروة غير الملموسة ( رأس المال البشري، را?س المال الاجتماعي، رأس المال المؤسَّسي)فإن للمغرب امتيازاً مقارناً يتجلَّى، بالأساس، في الاستقرار المؤسَّسي من جهة، وفي قوة العلاقات الأُسرِيَّة والجَمْعيَّة من جهة ثانية. أما فيما يخُصُّ البنية الجوهرية للثروة غير الملموسة، فلا نملك سوى أن نُقِرَّ بالمستوى المتدنِّي لكافة المكونات الأخرى من اكتساب الكفاءات البشرية والمهارات المهنية، ومن امتلاك المعارف العلمية والتقانية والثقافية، ومن تطوير القدرات الإبداعية، ومن توفير أسباب الثقة في المؤسسات وفي المستقبل، وأيضاً من فاعلية حكومية، ونجاعة تدبيرية، وعقلانية تنظيمية، ومن سيادة القانون، ومن مناهضة الفساد. جميع هذه المؤشرات تتطلَّب استثماراتٍ لا تقِلُّ أهميةً عن الاستثمار المادي في البنيات التحتية، وفي التجهيزات، وفي التصنيع، وفي التنمية الزراعية. نسوقُ مثالين. من الُمكوِّنات الوازنة، بل والأوزن على الإطلاق في سيرورة تعظيم الثروة غير الملموسة، المكوِّن المؤسَّساتي وفي صُلبه العدالةُ وسيادةُ القانون التي تساهم بنسبة 57 % من إجمالي القيمة المتبقِّية. يأتي بعده المكوِّن البشري وعلى رأسه التعليم الذي يقاس بمتوسط سنوات الدراسة. وبحسب التقرير فإن العائدات تتزايد، والثروة تتعاظم باطِّراد مع تزايُد عدد سنوات الدراسة لكل مواطن. وتكاد تُجمِع الدراسات التجريبية علىأن للتعليم الأساسي أكبر الأثر في خلق الثروة المادية وغير المادية، الفردية والجماعية في نفس الآن؛ يليه في ذلك التعليم الثانوي، ثم التعليم العالي. ُيشكل الإنفاق على التربية والتكوين، بكل المقاييس بما في ذلك تلك العتمدة من لدُن البنك الدولي الذي لا تخفى نزوعاته الليبرالية، الاستثمارَ الأمثلَ والأنفعَ والأجدى. هذه المحصلة لا بد من استحضارها والمجلس الأعلى للتعليم، في صيغته الجديدة، مقبلٌ على مرحلة جديدة من تفعيل الإصلاح، ومن التصدِّي للتحديات الجديدة التي تواجهها المنظومة التربوية. وبحسب تقرير البنك الدولي المذكور فإن التعليم يساهم في الثروة غير الملموسة بنسبة 36 % من إجمالي القيمة المتبقِّية،تليه التحويلات الخارجية بنسبة 7%. حاصلُ القول، فإن الاستثمار في التربية والتكوين والمعرفة هو المدخل الرئيسي المفْضي إلى إنتاج الثروة، المادية وغير المادية، وإلى إعادة إنتاجها على نطاق واسع، وإلى استدامة سيرورتها وتنشيط ديناميتها الذاتية. هل الشروط غير المادية أمست هي المحدد في عملية التنمية؟ أعود لأُؤَكِّد، إن المدخل هو التعليم والمعرفة والإبداع. شرطٌ قد يبدو غير ملموس وذي آثار غير مباشرة وغير فَوْرية على التنمية. نفسُ الخلاصة تنسحب على المكوِّنات الأخرى للثروة المؤسَّساتية والاجتماعية والثقافية والرمزية. العُمق التاريخي للدولة وتماهيها معالمجتمع، أَنظمةُ الحكم، أو ما يُسمِّيه الفيلسوف ميشيل فوكو آليات «الحُكوميَّة»الحديثة، تُشكِّل مع شرط التوازن الاجتماعي - سوف أعود إلى هذه النقطة - ومع الموروث الثقافي والرمزي، البنية المؤسَّساتية والقاعدة الشَّكلية التي تقوم عليها الحضارات، ولعلَّ ما يحدُث اليوم في الوطن العربي خير تصديق لفرضية الدور المُحدِّد لنوعية المؤسَّسات في استمرار الحضارات أو في تفسُّخِها وانهيارها. ولقد سبق لابن خلدون أن فَصِّل القول في هذه العلاقة الجدليةقبل ظهور المدرسة المؤسَّساتية السائدة اليوم في العلوم الاقتصادية بمئات السنين. إذا أردنا الحديث عن التنمية الشاملة، التي تعني سيرورة مستدامة تشمَلُ إعادة إنتاج الثروة بشِقَّيها المادي وغير الملموس، فإن هناك شرطين خفيفان على اللسان، ثقيلان في ميزان التنمية، هما الاستثمار والتوزيع. الاستثمار أولاً. نظرية التنمية تبلْورت في الأصل، في الخمسينيات من القرن الماضي، في سياق الاستقلال الوطني لما كان يُسمَّى العالم الثالث. كان على هذه البلدان أن تَسْتمْلك من جديد خيراتها، وأن تسعى إلى توظيف ثرواتها التوظيف الأمثل. ومن ثمة، كان عليها أن تعمل على تعظيم مُتغيِّرين متلازمين ومتضافرين : الادخار والاستثمار.بدون حد أدنى من الادخار الحقيقي أو صافي الادخار المعدل(الذي يأخذ بعين الاعتبار الإنفاق على التعليم واستنزاف الموارد الطبيعية والأضرار الناجمة عن التلوث البيئي) لا يمكن للتنمية، بحسب قاعدة هارتويكالتي يحيل إليها تقرير البنك الدولي، أنترتقي إلى مستوى المسار المستدام، كما تُبيِّن ذلك التجربة التاريخية لبعضالدول الريعية التي لم تدَّخر عائدات مواردها الطبيعية والنفطية، ولم تستثْمِرْها في الأصول المنتِجة والمولِّدة للثروة. بالنسبة إلى الاستثمار، هناك خيارات تقليدية لتوليد الأثر المضاعِف للاستثمار (كينز)، وبالتالي لتكثيف مَقدُرات تراكم رأس المال الثابت، وتوسيع قاعدة الإنتاج. ويُعتبر الاستثمار في البنيات التحتية، وفي التجهيزات، وفي البرامج المهيكلة الصناعية والفلاحية ذات المردودية المتزايدة، والقادرة أكثر من غيرها علىتوسيع القاعدة الإنتاجية، وعلى تكثيف عملية الاندماج الاقتصادي وخلق فرص الشغل. بطبيعة الحال، القطاع العمومي هو المؤهل للقيام بالدور الريادي في هذا المجال، وهو بذلك يُؤثِّث لبيئة تحْفيزية للقطاع الخاص على الاستثمار في المجالات الأخرى وفي الأنشطة الخفيفة ذات المردودية السريعة. تجدُر الإشارة إلى أن المغرب قد نحا هذا النحو مع بداية الاستقلال، وهو ما مكَّن بلادَنا من وضع البنيات الأولية، المادية وغير المادية، التي ما تزال فوائدها جارية إلى اليوم. في نفس الخيار تندرج الاستثمارات الضَّخمة التي تقوم بها بلادنا في ما يُعرف بالاستراتيجيات القطاعية والبرامج الكبرى، ومن بينها الاستثمارات المرتبطة بالنموذج الواعد للتنمية الخضراء. ماذا عن التوزيع؟ الشرط الثاني للتنمية، بمفهومها الشامل، يتعلق بتوزيع الثروة. في القسم الأول من الخطاب الملكي فقرة متميزة، من حيث التعبير ومن حيث بنية الخطاب. تحدَّث جلالته بنبرة ذاتية ومتأسِّية عن معاينته الشخصية، وهو يجوب البلاد ويمشي في الأسواق، لظاهرة تفاقُم الفوارق الاجتماعية، وهو ما يَشي باختلال مُزمن وعميق في هيكل توزيع الثروة في بلادنا. إنه بيت القصيد. سوف أكتفي حول هذا الموضوع المتشعِّب بملاحظتين. الأولى تتعلق بالعلاقة بين التنمية والفوارق الاجتماعية، التي يمكن قياسُها بمُؤشِّرات الدخل والثروة، وباعتماد المقاربة المالية و النقودية، أو المقاربة الحقيقية التي تشمل أشكال التفاوت في القدرات البشرية. أغلبُ البحوث التجريبية، بما فيها تلك التي تهُمُّ المغرب، تَخلُص إلى أن الفوارق الاجتماعية، عندما تتجاوز حدود المُحْتمل والمُطاق، تُمْسي عاملا من العوامل المُعيقة للتراكم، ولإثمارالثروة، ولاستدامة التنمية. الملاحظة الثانية تهُمُّ الدور الاقتصادي الاجتماعي. لم يعد الاستثمار الاجتماعي ذلك المتبقِّي من توزيع الثروة، ولم يعد الإنفاق في المرافق والخدمات الاجتماعية إنفاقاً غير مُنتج وعديم الجدوى كماكان يزعُم البنك الدولي قبل التقرير الذي أشرنا إليه قبل. العائدات الاجتماعية للاستثمار أضحت من المؤشرات الدالة على بنية الثروة المستدامة، وعلى كَيْفيَّات توزيعها بين رأس المال والعمل، وبين الفئات الاجتماعية، وبين الأجيال وبين الجهات. ما يُسمِّيه بعض الاقتصاديين «الثقة المُعمَّمة»لا تنمو وتترعرع سوى في بيئة تسودها الكرامة والعدالة الاجتماعية. لقد آن الأوان، إذن، لتفعيل الوسيلة الوحيدة لاجتراح الإصلاح في بلادنا، ولتخليصه من المراوحة في المكان، أَعْني وسيلة الإصلاح الضريبي. فإذا كان السؤال الذي طرحه البنك الدولي هو «أين تكمُن الثروة؟ فالجواب، في عبارة : إنَّها تكمُن في توزيعها بين الناس التوزيع الأعدل، أو الأقل سوءاً.