عبيد أعبيد لم يكن إعتباطيا كلامه عندما قال المفكر الأمريكي المعارض ناعوم تشومسكي عن نظرياته العشر للتحكم في الشعوب، أشهرها، النظرية المسماة "Create a problem - reaction - solution"، أي "خلق مشكل-رد فعل-حل"، ومفادها هو انه واجب على الحاكم في الدول التي تحاول إقناع شعوبها، بإن الخيار الديموقراطي والتنموي ليس أولوية بالنسبة لهم، أن تبتكر المشاكل والفوضى التي تتطلب حتميا حلول ترغبها رجالات السلطة، فمثلا كأن تترك/ توفر أجواء الجريمة المفجعة على أعلى مستوياتها (قتل وتقتيل الجثث، إختطاف عشوائي، الإختصاب، السرقة..)، والإنفلاتات الأمنية المروعة، وبالتالي تطالب الناس بالأمن كأقصى مطلب ملح، وبهذه الطريقة يستدرج المواطنين إلى خندق رجالات المخزن، وبالتالي تنتقل مطالب الناس هنا من مطالب "سياسية مزعجة ومربكة" إلى مطالب إجتماعية جد بسيطة (الأمن الإجتماعي). لماذا هذه المقدمة ؟ إن ما أضحى ملفتا للإنتباه بمداشر صحراوية، من إنسياب أمني فادح يجر أرواح مواطنين عزل وأبرياء إلى موت "مجاني"، يثير التساؤل حول ما إن كان هذا الإنسياب ممنهجا من قبل أجهزة الأمن التي أثبتت فشلها في تدبير ملفات أمنية بسيطة بالصحراء، اللهم العمل على حل "الفوضى العارمة" لشرعنة الغطرسة المتجبرة لرجالاتها، ففي الصحراء يكفي أن تكون من مناصري خيار "تقرير المصير" وأن ترفع شعار أو شعارين من الشعارات المطالبة ب"إستقلال الدولة الصحراوية" وترفع معها بعض الزغاريد الحماسية، فحينئذ تصبح قوات الأمن مرابطة وساهرة على حركاتك وسكناتك على مدار الثانية، أما أن تكون مواطنا عاديا وبدون موقف سياسي مزعج وتسعى رغيف العيش لا أقل ولا أكثر كأقصى أمل لك في هذه الدنيا، فذاك يعني أنك "ضحية إرهاب رجالات السلطة" بالصحراء. أي بمعنى أنك ستكون وسط بيئة مهيئة بشيوع الكثير من الظواهر الاجرامية كالقتل، تقطيع الجثث، اعتراض سبيل المارة، الإغتصاب، السرقة، تجارة المخدرات، الإختطاف العشوائي، الدعارة..إلخ، وبالتالي يظل أملك هو توفير الأمن كأقصى مطلب بدل المطالبة بإختيارات متقدمة أخرى. أتذكر قول صديق "شريف" لي من رجالات الأمن، حينما قال لي مازحا، "وجب على كل الأحياء بمداشر الصحراء أن ترفع شعارات تطالب بالحق في تقرير المصير ولو من باب إستدراج قوات الأمن لحمايتها لا من باب الإيمان الفعي بذاك الحق"، فقد يبدو هذا الكلام الإعتباطي تكتيكيا لحماية الذات وتحصينها من إجرام وفرت له الأجواء، لكن لم لا تفكر تلك اجهزة الأمن بمداشر الصحراء في الحرص على أمن الناس دون تمييز (أقول تمييز بدل تحقير، لأنه أكثر دلالة قانونية) أو تسييس للملف الأمني بالصحراء، مادام البندين 22 و23 من الدستور الجديد جد واضحين في أمرهما للسلطات العمومية بأن تضمن سلامة المواطنين في إطار الحريات والحقوق المكفولة لهم دستوريا، أم أن الأمر هنا أيضا يدخل في إطار "المصالح العامة للدولة" ولو على حساب أمن وسلامة مجتمع محافظ مكامله ؟ المؤامرة الأمنية لبعض رجالات السلطة والبوليس بمداشر الصحراء، تتطلب بالضرورة من قادة الرأي وهيئات المجتمع المدني والحقوقي والنواب البرلمانيين التحرك بشجاعة في إتجاه فضحها أو عرقلتها حد الإمكان، فقد يوصف كلامي هذا، ب"ساذجية الطفل الصغير"، مادام أن قادة الرأي بالصحراء كلها ثلة من المرتزقة ممن يدفع أكثر لتلميع السمعة، وعن المجتمع الجمعوي، كله إسترزاق وإفساد في فساد ومجرد أرخبيل للسلطة المتعفنة، وعن الحقوقيين بالصحراء، أغلبهم مراهقون وتجار مصالح ومآسي، وفنانون في إختيار الأوتار التي يلعبون عليها لإزعاج آلة المخزن، أما عن النواب البرلمانيين بالصحراء، كلهم عهارة سياسية وخونة للعهد والعقد، ناهيك على أن جلهم بارونات أجلاء في التهريب بكل تجلياته بإيعاز من السلطة ورجالاتها. إذن، فعلى هذا الأساس فالأزمة لم تد أمنية بالدرجة الأولى، بل هي أزمة بنيوية تنخر جسد نخبة الصحراء، وجبهة البوليساريو هي الأخرى تتسكح وتباغث من جهتها الدولة المغربية على هذا الوتر بين الفينة والأخرى، فالأمل المرجعي لأبناء وشباب مداشر الصحراء اليوم، هو الإعتماء على إمكانيات الذات دون إستهتار وتحت أي لواء مؤسساتي كيفما كانت صيغته، المهم هو العمل المحمي وعدم ترك الفجوة فارغة لممتهني الإنبطاح والإسترزاق من الصحراويين أنفسهم. فالدولة المغربية تبدو أولوياتها بالصحراء أمنية متجبرة لهاجس (هوس) سياسي، تعمل لإحتدامها بكل السبل والأليات ولو إقتضى الأمر أن يذهب ضحيتها مواطنين تعرف السلطة أنهم أبرياء. وطبعا، لا أحد يحمل المسؤولية الأمنية للحكومة النصف ملتحية التي موهت أن لها صلاحيات على أجهزة الأمن في حين لم تفلح حتى في تمرير مشروع جد صغير إسمه "دفتر التحملات"، فمادمنا نعي من يحكم هذه البلاد حقا ويبسط يديه وذراعيه على الترسانة والأسطول الأمني بالصحراء، فلا حرج أن يتقي خيرا في مواطنين لا يرغبون سوى في حياة كريمة شريفة وعيش سليم يعمه الأمن والإستقرار وراحة البال والضمير، فأمن الناس، من المسلمات والمقدسات الكونية أيضا.