ترخي التظاهرات في مدن الغرب الرأسمالي بظلالها وتضغط المساحات الهائلة المعبأة التي اختزنت على سطحها بريق شعارات الغرب وتفتح خلفها أفقاً لا متنتاهياً من الخشية المزدوجة على مصير العالم، وهو يعالج اختلاجات الرمق الأخير في أمراض استعصت على الحل. أمراض الرأسمالية التي بدت في أغلب الأحيان عارضة أو هكذا سوقت، جاءت هذه المرة لتؤشر إلى أمراض شيخوخة متأخرة بأعراضها ومواصفاتها رغم الاعتقاد السائد بأنه من المبكر جداً الحديث عن تلك الشيخوخة. فالواقع يعكس حالة من الانتكاسة السياسية طالت النظام الرأسمالي في عموميته ونبتت على جوانبها استطالات مرضية عجزت كل المعالجات الآنية عن التعامل معها، وبدا أن تخفف من أعراضها، فاقمت ظهورها إلى أن تطورت إلى أعراض مرضية فعلية نخرت الداخل الرأسمالي وتكشفت عن خواء اقتصادي هزّ أركانه ووصلت أمراضه إلى عظامه. فالغرب يثور أيضاً، وتكتظ بثواره ساحات العواصمالغربية الغافية على مشكلاتها وأزماتها وتناقضاتها، من شارع الكابيتول في واشنطن وساحة وول ستريت في نيويورك في الغرب الأقصى، إلى ميادين روما وأثينا في الغرب الأدنى، تخلع أحشاء المدن غلالاتها الرقيقة، ويسقط القناع عن وجوه فلاسفة الأنظمة الرأسمالية التي تقبض بأيديها الملوثة بالدماء على مقادير البشر في دول الشمال، فترشو غرائزهم الإنسانية بنمط خادع من أنماط الحرية السياسية، كي تسلبهم باليد الأخرى مردود طاقاتهم الإنتاجية، ونصيبهم من الثروة وحقوقهم في العمل، وتحسين شروط الحياة! فليس العرب فقط هم من تنقصهم العدالة، وينشدون الحرية، ويحتاجون إلى التغيير والذهاب إلى الثورات الداعية إلى عقد اجتماعي جديد، ومعادلات سياسية جديدة تحكم مجتمعاتهم، وتحررها من قيود الأحادية والتعسف في استخدام السلطة، وأوبئة الفساد، وليس العرب فقط هم من ضجروا من سكونهم ورتابة أيامهم في ظل أنظمة أبوية متكلسة مضى عليها عقود وعقود من الزمن، دون أن يستيقظ فيها شعور بالحاجة إلى إصلاح شأنها، وتحديث تشريعاتها، وتطوير مناهجها السياسية والاقتصادية والتربوية، ودون أن تفتح عيونها على مستجدات العصر وحاجات مواطنيها، وتوقهم إلى تجديد الخيارات دون المساس يثوابت الأمة المتصلة بالعدو والصديق، والمتعلقة بالخصوصيات الوطنية والقومية! الغرب أيضاً يخرج الآن من ضجره واعتياده على اللعبة المحكومة بالغش، التي تعطي الشارع الغربي حرية امتلاك المنابر، وحرية التظاهر وحرية الاعتقاد والانتماء السياسي، وتقتطع بالضريبة المقدسة من معاشه. ما يوفر للقوى الحاكمة دوماً الإنفاق على مصانع السلاح الحديث، التي تمكنها من خوض الحروب وتطوير سياسات الهيمنة، وتوسع مناطق النفوذ، ومن خلال هذه اللعبة المحكومة بالغش التي توسع على الدوام هامش الفقر في المجتمعات الغربية، وتضيق هامش الثراء، تصبح الحضارة الغربية الناهضة بعد الثورة الصناعية في أوروبا حضارة عبودية مقنعة تلمع قشرتها كلمعان الذهب، وتختنق أحشاؤها بالنفايات والروائح الكريهة. والسؤال المطروح بإلحاح: هل الأمر هو مجرد ثورة شباب أم أزمة مالية ضربت جوانب الحياة المختلفة؟ فواقع الحال يشير إلى أنه ما جرى وما يجري أبعد من ذلك بكثير، إنها ثورة على تسليع الإنسان، وعلى نظام اقتصادي جعل الإنسان ترساً في ماكينة، أو رقماً وسط كومة أوراق، لا كرامة ولا إنسانية، رأسمالية جشعة تبغي السيطرة على العالم كما من قبلها حاولت الشيوعية وأخفقت. إنها ثورة على العولمة المتوحشة التي تسعى إلى السيطرة على مقدرات العالم ومجريات أموره، عولمة آثمة، عمادها الشركات المتجاوزة للجنسيات والتي أضحت ولا شك المهيمن الرئيسي على صناعة القرار العالمي اليوم، وفي ذات الوقت تقلصت قدرات وظائفها وسَطت على أكثر من اختصاصاتها. فلم يستطع التجاهل الرسمي والاستخفاف الإعلامي بالاحتجاجات التي بدأت متواضعة في أكبر مركز مالي في العالم (وول ستريت)، وامتدت لتشمل عدة مدن أميركية من بينها شيكاغو وسياتل وسان فرانسيسكو ولوس أنجلس وبوسطن وهيوستن، قبل أن تصل إلى العاصمة واشنطن ومدن أخرى حجب هول المفارقة وحجم التحدي الذي يطرحه الحراك الأميركي الشعبي المرشح للتعاظم في مواجهة تغوَل الشركات المتعددة الجنسيّات والمصارف الاستثمارية الكبرى التي وصلت أرباحها في الربع الأول من هذا العام إلى 36.8 مليار دولار، والمتهمة من المتظاهرين بتعميم المخاطر على الناس وقصر الأرباح عليها فقط، وبالسطو على ممتلكات ومنازل الأميركيين الذين لم يتمكنوا من دفع الأقساط المترتبة عليهم، بمساعدة إدارة أوباما، ناهيك عن الاحتجاج على التفاوت الطبقي الحاد الذي تبخرت في ظله الطبقة الوسطى التي تعتبر بمنزلة ''صمغ المجتمع''، وتعاظم اللامساواة الاجتماعية الاقتصادية إلى حد جعل واحداً من كل ستة أميركيين يعيش على بطاقات الطعام المجاني التي توفرها الحكومة، وعلى ارتفاع معدلات البطالة التي يقدرها خبراء اقتصاديون ب20 في المائة، أي ضعف ما تشير إليه الإحصاءات الرسمية، وذلك قبل دخول عناوين جديدة للاحتجاج لها علاقة بالحرب الأميركية على أفغانستان والعراق التي تجاوزت تكلفتها 1.26 تريليون دولار، وأسهمت في إضعاف الولاياتالمتحدة على صعيد الاقتصاد الكلي، وأدت إلى تفاقم عجزها وأعباء ديونها، وبمسألة الاحتباس الحراري، وأخيراً، وليس آخراً، بلجوء الشرطة إلى القوة المفرطة بحق المتظاهرين، وطريقة تعاملها مع الأقليات العرقية، والمسلمين بوجه خاص. مفارقة هذه الاحتجاجات التي تتباين التقديرات بشأن قدرتها على الاستمرار والتطور، والتي ووجهت بعنف رجال الأمن الذين يبدو أنهم لم يسمعوا بالتهديدات التي توجهها إدارتهم للحكومات العربية لإفساح المجال أمام المتظاهرين للتعبير عن آرائهم ومواقفهم بحرية مطلقة، تتبدى أساساً في جانبين، الأول، حالة هروب إدارة أوباما التي حاول رئيسها استغلال حركة الاحتجاج لتسجيل نقاط على خصومه الجمهوريين، من مواجهة الأزمة الاقتصادية والمالية والسياسية التي تعصف بالولاياتالمتحدة، نحو مواصلة الحروب الخارجية وزيادة منسوب التدخل في شؤون مختلف دول العالم، ولاسيما في المنطقة العربية التي تشهد ولادة خرائط سياسية جديدة، بأمل إعادة إحياء المشروع الإمبراطوري الذي برز إلى السطح عقب انهيار الاتحاد السوفييتي، وتبيَن، بالوقائع والأرقام والمعطيات، أنه لا يرتكز على قاعدة اقتصادية أو اجتماعية صلبة، بل على بنية مالية ومصرفية عنوانها الفساد والسرقة وخرق القوانين وانتهاك الأعراف، وهو ما أدى إلى الانهيار المالي في عام 2008 الذي كاد يفضي إلى كارثة إنسانية كبرى، والذي لا تزال عواقبه ومخاطره ظاهرة في مختلف أنحاء العالم. الجانب الآخر في المفارقة له علاقة بواقع الإنكار الذي يتسم به أداء إدارة أوباما حيال مجمل الأزمات البنيوية التي تستوطن الجسد الأميركي، والذي يدفعها نحو ارتكاب الأخطاء الكارثية داخلياً وخارجياً في الميادين السياسية والعسكرية والاقتصادية والمالية والاجتماعية، فضلاً عن إغماض العين عن انهيار الثقة الشعبية بالنظام السياسي والاقتصادي الذي يعتبره المحتجون محطماً وفاسداً وغير خاضع للمحاسبة، ولا يستجيب لمتطلباتهم، وكذلك بالمؤسسات التشريعية (82 في المائة من الأميركيين، حسب ''نيويورك تايمز'' غير راضين عن أداء الكونغرس) وبالأحزاب والساسة التقليديين والعملية السياسية الديمقراطية التي يتحكمون بها. ولعل ما يلفت، في هذا السياق، هو تهاوي التنظير البائس، الذي ظهر في بداية التسعينيات، حول اعتبار الاقتصادات الليبرالية المتماهية مع المؤسسات الديمقراطية، بمنزلة ''خريطة الطريق'' الوحيدة التي تمتلكها البشرية للتقدم والازدهار، بدليل، ليس فقط تلك الشيخوخة المبكرة التي تعتري مفاصل أكبر مراكز الرأسمالية في العالم، بل تجوَل عدوى الأزمات والخضَات والاحتجاجات في مختلف ''ديمقراطيات العالم''، بدءاً من فرنسا و''انتفاضة أبناء الضواحي''، وبريطانيا التي شهدت حالات تظاهر وأعمال شغب الشهر الماضي، ومروراً بإسبانيا المبتلاة بأعلى معدل رسمي للبطالة في العالم المتقدم (21 في المائة) واليونان وغيرها من الدول الأوروبية التي تمر، بحق، ب''أزمة شرعية'' حقيقية. وللأسف فكثيرون من مثقفي الغرب ومفكريه تناوبوا على تنفيذ الادعاءات الغربية التي تقول أن النموذج الغربي الحر على حدّ زعمهم هو الحل للبشرية، وأن فكرة الحرية في الغرب هي الجاذب الأقوى لعقول البشر في القارات الخمس، وبموجب هذه الفكرة التي تحولت إلى وظيفة، صار يحق للغرب أن يجتاح العالم لتلبية التوق الإنساني إلى الحرية والديمقراطية، لكن الحقيقة التي يضيء عليها مفكرو ومثقفو الغرب ممن لم تتلوث عقولهم بوباء الطموح الإمبريالي، هي أن القوى الحقيقية التي تحكم الغرب منذ عقود طويلة، ليست القوى الديمقراطية، بل القوى المتحالفة مع الشركات الكبرى متعددة الجنسيات، أي أن شركات التصنيع الحربي وشركات النفط والإنشاءات ومافياتها هي حكومات الغرب الحقيقية التي ترسم هياكل الأنظمة الغربية من السيناتورات واللوردات وأعضاء الجمعيات الوطنية ومجالس الشيوخ إلى رموز الدولة العليا بمرتبة رؤساء وأباطرة! معنى أن يثور الشارع الغربي والأمريكي اليوم إذاً، هو أن الجزء الأعظم من المجتمع الغربي والأمريكي قد ضجر من الاعتياد على الكذبة التي تحكم مصيره، وأن رشوة الحرية التي نالها لا تطعمه خبزاً بمفردها، إذا لم يحصل على حاجاته الاجتماعية والمعيشية، فهل يمضي هذا الشارع إلى النهاية للإطاحة بقصة الإلهام الغربي والأمريكي للشعوب حتى آخر سطورها، أم أن طريقه مسدود، بشرطة سكوتلاند يارد، والشرطة الفيدرالية التي تدور اليوم كالكلاب المسعورة في شارع وول ستريت في نيويورك...؟ فالعنف المستخدم ضد المتظاهرين، في غالبه عنف غير مبرر، وأمريكا هي الدولة التي اعتادت أن تدين وبشكل دوري أي اعتداءات على المتظاهرين السلميين في أي دولة حول العالم، وقد كان العنف على جسر بروكلين واضحاً جداً، وقد قال أحد المتظاهرين، في إشارة إلى تعمد قوات الشرطة الفرز بين المتظاهرين على أساس عرقي أن ''رجال الشرطة بدؤوا بانتقاء الأشخاص الواقفين في الصفوف الأمامية، أي متظاهرين من ذوي البشرة السمراء أو البنية، كان يرمى على الأرض فوراً، والتحفظ عليه''. فهل يكشف هذا التعامل الازدواجية الأمريكية المعهودة من جديد؟. وهل الآلاف الذين خرجوا إلى الشوارع الأمريكية محتجين ورافعين لافتات كتب عليها '' لنضع حدا للبنك المركزي'' و '' عندما يسرق الأغنياء الفقراء يسمون ذلك أعمالاً، وعندما يدافع الفقراء عن أنفسهم يسمون ذلك عنفاً'' و ''فلنقض على جشع وول ستريت قبل أن تقضي على العالم'' و ''أنقذوا جمهوريتنا''...هل هؤلاء المحتجين المنتفضين ضد الرأسمالية المتوحشة، بداية مغايرة لفكر اقتصادي مختلف يسود العالم، كما كان سقوط برلين إيذاناً بانبلاج فجر ما أطلق عليه النظام العالمي الجديد، والذي هو في حقيقة الأمر ''اللانظام العالمي''؟. هنالك فريقاً من أساطين المال والعسكرية والإمبريالية يريد للأوضاع أن تمضي على ما كانت عليه، وهذا يطرح سؤالاً أهم: هل ستفشل تلك الحركات في تغيير الواقع الذي يدفع ضريبته الفقراء ورقيقو الحال عبر سياسات التقشف التي تصب في نهاية الأمر في جيوب الأغنياء وتحرم الفقراء من فرص الحياة الكريمة الإنسانية؟ يمكن أن يطرح السؤال بصورة معاكسة فنقول: هل ستفرض الشعوب استراتيجية الخروج من الرأسمالية المتأزمة بدلاً من استراتيجية الخروج من الأزمة التي تتبناها السلطات؟ والجواب في نظري المتواضع، أن المنظرين الذين يعملون في خدمة السلطات يغرقون في تهويمات بلا مخرج حول العالم بعد الأزمة، ووكالة المخابرات الأمريكية لا تتصور إلا إعادة الأوضاع السابقة مع إعطاء الأسواق البازغة دوراً أكبر في العولمة الليبرالية على حساب أوروبا، وليس الولاياتالمتحدة، وهي لا تتصور أبداً أن الأزمة ستتفاقم وتتعمق. وعليه، وتحت وطأة الأزمة المتفاقمة، والتحول المنظور في ميزان القوى الاقتصادي الكوني لمصلحة دول أخرى، وبالأخص الصين التي باتت تسيطر على الأسواق، على حساب الولاياتالمتحدة، ووصول بعض التقديرات المتشائمة، إلى حد اعتبار ما يحدث بمنزلة إرهاصات ربما تقود إلى تفكك الكيان الأميركي الموحد من فيدرالي إلى كونفدرالي يضم تجمعات أربعة أو خمسة، فإن ثمة سعياً أميركياً حثيثاً لإنقاذ نظام السيطرة السائد راهناً، من خلال القرصنة على الاستثمارات والتوظيفات النقدية في السوق العالمية وتوسيع نطاق الحروب الصغيرة والفوضى، وإعادة صياغة هيكلة الدول وأنظمتها السياسية والاقتصادية، والحصول على مليارات إضافية من بيع وتجارة السلاح. أي محاولة تجديد الرأسمالية ونظامها عن طريق الهدم وإعادة البناء من جديد، على غرار ما حدث خلال الحربين العالميتين الماضيتين اللتين أخرجت نتائجهما وتداعياتهما نظام الرأسمالية ودولها من الأزمات العامة البنيوية، ومنحتهما فرصة جديدة للحياة والاستمرار.