* قامت جماعات الليبيين الذين اصطفوا في طوابير طويلة أمام غرفة التبريد في مصراتة برؤية جثتي العقيد القذافي وابنه المعتصم المعروضتين ، وعبّروا عن الحقد العميق والطبيعي للقذافي وأفعاله المقيتة لما كان على رأس النظام القديم ، فأرادوا تخليد لحظة سقوطه بأخذ صور لهم بالمحمولات وهم على رأسه وهو جثة هامدة. لكنهم لم يعيروا اهتماما كبيرا بالكيفية التي تم بها قتله وقتل ولده وبعض الموالين له ، وكأنهم يعتبرون الأمر عاديا ولا يحتاج لمراجعة أو تساؤل... بالمقارنة مع حجم الجرائم التي ارتكبها. ومع ذلك ، لا يسع المرء إلا أن يسجل انحراف الثورة عن الصواب وسقوطها في فخ التناقض لمّا أغفلت جانب استعمال القوة وتركته يخضع لقانون الغاب ، ولغة القلب والانفعالات ، ومنطق الغضب والعصبية والانتقام. هنا لابد من طرح مجموعة من الأسئلة تفرض نفسها ، خصوصا وأن ردود الأفعال في العالم كانت في مجملها سلبية بعد تصفية القذافي ، واتسمت في غالبيتها بالحيرة والاستغراب وعدم الفهم ، وأحيانا بالرفض والتنديد. هل من قيم الثورة والنظام الجديد الذي كان يطالب النظامَ القديم بالديموقراطية ويسعى إليها ، أن يُضرَب الرجلُ وهو جريح وتعامله جموع بوحشية وهو وحيد ، ثم يقتل على ما يبدو رميا بالرصاص في رأسه ؟ حسب فرانسوا سرجان في جريدة ليبيراثيون 22-10-2011 : " لا يمكن للصور التي تظهر جسم الديكتاتور الملطخ بالدماء ، المقتول والمجرجر على الأرض ، ثم المقتول والمُعروض أمام الجميع ، أن تمثل نظاما جديدا " . وأغلبُ المحللين والمراقبين والقراء عبّروا – على مواقع الصحف العربية والغربية - عن قلقهم وانزعاجهم أمام شناعة هذه الصور، واعتبروا الطريقة التي عومل بها القذافي وقتله لا تختلف في شيء عن ممارسات هذا الأخير ونظامه المستبد لما كان زعيم الجماهيرية الشعبية الليبية. وإذا كان رئيس المجلس الوطني الانتقالي ، السيد عبدالجليل ، قد أعلن أن المصدر التشريعي لنظام ليبيا الجديد هو الشريعة ، فهل من الأخلاق والإنسانية ، ومن مبادىء الإسلام أن يُعامل الأسير معاملة سيئة ويُقتل بطريقة بشعة ؟ أبهذه الطريقة يُدشن طلوعُ شمس ليبيا الجديدة ؟ لماذا وقع الاختيار على تصفيته عوض تقديمه لمحاكمة عادلة يُطلب منه فيها الجواب عن كل التجاوزات الانسانية والجرائم المتهم بارتكابها ؟ لماذا حُرم الشعبُ الليبي بمجمله من محاسبته بالأدلة والبراهين، والاقتصاص منه عن طريق القانون ؟ ما أحوجنا اليوم أن نتذكر جميعا – لأننا ننسى بسرعة مذهلة تحت وطأة الفتن والمواجهات والدماء - شيئا بديهيا يعرفه المثقف وغير المثقف ، والكبير والصغير من المسلمين ، ويتعلق بالعقاب والجزاء ، وبالنار والجنة في الحياة الأخرى أي الحياة الحقيقية المتسمة بالخلود والمطلق في كل شيء. يقرّ الإسلام في نصوص قرآنية عديدة وواضحة بأن العقاب أو الجزاء يكونان بعد " الحساب " أي الوقوف أمام الرب الخالق للجواب عن كل الأسئلة والاتهامات ، الشيء الذي يقابله على وجه الأرض الوقوف أمام العدالة من أجل البحث عن الحقيقة وتبيين كل العناصر المرتبطة بها. قد يتساءل المرء : لماذا الحساب ، ونحن نعرف أنّ الله لا يغيب عنه شيء ويعلم كل صغيرة وكبيرة ويعرف ما قام به المجرمون والظالمون من أفعال وأعمال ؟ لماذا إذن يسمح الله لهم بأن يأخذوا الكلمة ويطلب منهم الإجابة عن أسئلة ، وهو العارف مسبقا بالأجوبة الواقعية والحقيقية عنها لأن علمه محيط بكل ما يحدث ؟ الجواب هنا له علاقة مباشرة بالتلاحم الوثيق بين مفهومي العدل والحقيقة في الإسلام . بعبارة أخرى ، لابد - من أجل إثبات الحقيقة وإعطاء كل ذي حق حقه – من الأخذ بسبل ووسائل تحقيق العدالة. ومنها إقامة الحجج والبراهين بما لا يقبل الشك أو الرد. وهذا يقتضي عدم التفريط في كل ما من شأنه أن يساعد ويقود إلى إثبات ما قيل ووقع بالفعل : هل قلت هذا ؟ هل أنت الذي فعلت هذا ؟ هل فعلته بوحدك ؟ من ساعدك على المضي في تنفيذه علما بأنه كان ينطوي على أضرار عديدة ونتائج ظالمة كانت واضحة للجميع ؟ ما هي الأسباب والدوافع التي أدّت بك إلى ارتكاب هذا الفعل ؟ ما هي الأغراض والغايات منه ؟ هل كانت الحاجة فردية شخصية أو أسروية أو قبلية عرقية أو طائفية لهدف سلطوي محض يكمن مثلا في إرادة استعباد البشر واستباحة أموال ودماء العباد وحقوق الآخرين ، أم كانت الحاجة جماعية ووطنية لخدمة المصلحة العامة وإرساء قواعد الأمن والنظام الاجتماعييْن ، والسهر على احترام قيم االكرامة والتنمية الخلقية والتحرر من شروط عبودية البشر للبشر ؟ إنّ من شأن هذه الأسئلة أن تلقي الأضواء بما فيه الكفاية وتدريجيا - بالصعود إلى العلل والأسباب والدوافع والبواعث ، ومعرفة الوسائل والأدوات والمساعدات ، والوقوف على الغايات والأهداف والنيات – على حقيقة العناصر المكونة للقول أو/ والفعل الإنساني المسؤول وتحديد مدى مسؤولية كل واحد في القيام به. وآنئذ فقط يمكن استخلاص النتائج المعقولة وإعلان الحكم المناسب لحجم المسؤولية ، فإما العقاب بالسجن ، وإما الغرامة المالية دون السجن ، وإما النفي ، وإما الإعدام ... إلخ. ولا يختلف إثنان في أنّ العقل الاسلامي يعتقد بمُسَلّمة قاطعة فحواها أنّ الله عز وجل هو الوحيد الذي " لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ " لأنّ أفعاله منزّهة عن الخضوع للأسباب والعلل. مما يعني أنّ تفسير أفعال العباد ، أكانوا حكاما أم محكومين ، يتطلب بالضرورة الرجوع إلى الأسباب والعوامل الكامنة في إرادة ونية تحقيقها. كان العالم بأسره ينتظر معرفة الاسباب الحقيقية التي دفعت بالتدخل العسكري في ليبيا ، والكثيرمن الأسرار فيما يخص نوع العلاقات التي كانت تربط بين نظام القذافي والأنظمة الغربية التي كانت صديقة له وانقلبت عليه بين عشية وضحاها ، فهل يكمن سرّ مقتله وبسرعة أي مباشرة بعد إيقافه في هذه النقطة بالذات ؟ إنّ التفكير في خدمة الوطن الليبي الحبيب ، والعمل على تهيىء مستقبل أحسن للشعب الحبيب ، وإعلاء أخلاق الدين السمح الحبيب أيضا ... كل هذا مشروط بمبدأ عدم التضحيّة بالحقيقة، حتى لو كان في هذا الشرط تأخير للتحرير النهائي وإعلان النصر التام على العدو. ففرق جوهري كبير بين من يريد، باسم محاربة الاستبداد والقمع والظلم والفساد ، الانتقام والانتصار لنفسه وجماعته، وبين من يسعى في رؤية أخرى أن تنتصر الحقيقة أي أن ينكشف أولا المستور، ثم تُعطى الحقوق لاصحابها ويطبق القانون بطريقة إنسانية وعادلة على المجرمين، مع العمل الحثيث الصارم على تبني ومتابعة سياسات الحيطة والحذر حتى لا تتكرر نفس المظالم والاعتداءات والجرائم في المستقبل. الطريق الأول سهل جدا لأنه قصير النظر وتطبعه لاعقلانية زمنية ومكانية متمثلة في حدود " اللحظات الانفعالية " و ضيق الأفق أو انسداده في ظل " جغرافية ردود الأفعال " الإيديولوجية أو العقدية . أما الثاني فهو خيار صعب لأنه ينبع من مسؤولية إنسانية محفزة بوعي أخلاقي كوني يتحدى الزمان والمكان والثقافة والجغرافيا، وتقف في وجهه عقباتٌ عملاقة من التحقيقات والبحث في التفاصيل وكل أنواع الجزئيات الضرورية لإثبات الحقيقة. انتفضت ليبيا وثارت على معمرالقذافي الذي حكم البلاد والشعب بطريقة غريبة وعتيقة ، كانت تدعي في البداية التحرر من قوى الاستعمار والعمل على التخلص من التبعية للغرب ، لكنها اتضحت شيئا فشيئا على أنها لا تختلف كثيرا عن الأنظمة الاستبدادية والديكتاتورية. شعر الشعب بأنه يرضخ لإيديولوجية ثورية غير شعبية وفارغة ، إيديولوجية قائمة على الهاجس الأمني ، وفرض القيود على الحريات والزج بمعتقلي الٍرأي في السجون ومراقبة المواطنين ، وإخضاعهم لإجلال الشخصية الحاكمة التي أصبحت العقيدة الرسمية للدولة. كان طبيعيا أن ينتفض المعارضون ضد نظام يُحْرمهم من ممارسة حريتهم ويمنعهم من المطالبة بحقوقهم ، والتعبيرعن أفكارهم وطموحاتهم ومشاريعهم الوطنية. وإذا كان الثوار الليبيون قد حاربوا هذا النظام الاستبدادي العتيق، وجندوا للإطاحة به كل غال ونفيس من وقت وجهد وأموال وأولاد ، وضحوا بأنفسهم ، وقبلوا من أجل هذه الغاية أن يكونوا ميكيافليين إذ استعانوا بوسيلة اسمها الغرب والناتو ، فإنّ المنطق والحكمة والواجب الوطني والديني يدعوهم إلى عدم التفريط في القيم والمبادىء التي كانت وراء الثورة. * كاتب عربي يقطن في فرنسا