تأخذ الأمكنة سحرا إنسانيا مفعما بالشوق فالمكان ليس اسم أو عنوان فقط بل ديمومة روحية فكرية مهما ابتعد عنه الإنسان مرغما أو كارها والولاء له ليس غريبا فمنذ الولادة يرى هذا المكان الحضن الثاني بعد حضن الأم ، فهو وثيق الصلة بين الشعر والشعراء منذ العهد القديم إلى وقتنا الحاضر فقد يعتبر المكان المحرك الشعري للشاعر من خلال فيض من الحب والشوق والحنين والذكريات مما يشير إلى علاقة الشاعر بالمكان وتعلقه وأشجانه وإبراز مشاعره وإحساسه ومكان الحبيب وبواطن ذكرياته ، وامرئ ألقيس يقول في معلقته ( قفا نبكي من ذكرى حبيب ومنزل ، بسقط اللوى بين الدخول فحومل ) هذا التناغم الروحي والوجداني لا يفارق البشر بل يكون المكان حضن الولادة وحضن اللحد الأخير بعد مسيرة حياة قد تطول أو تقصر . من هذه المقدمة القصيرة نلجأ إلى قصيدة ( دهوك) للشاعر عصمت شاهين دوسكي بين الحين والآخر يفاجئنا بقصائد مفعمة بالحب والجمال والتألق ويتغنى هذه المرة بحبيبته مدينة ( دهوك) التي ولد فيها وقضى سنين عمره فيها لولا الظروف السياسية والعسكرية والضائقة الاقتصادية القاهرة ولعدم وجود فرص عمل غادرت أسرته العفيفة إلى مدينة الموصل في نهاية الستينات وشاء القدر والظروف القاهرة أن تعيده إليها بعد تغير دولاب الزمن وأن تعيده بعد سنين من الغربة الروحية والمكانية ليكتشف من جديد عظمة وجمال هذه المدينة والتي خلدها بهذه القصيدة وقصائد أخرى " عروسة الشمال ، وشيخ الجبل ، والمدينة الآمنة وغيرها " التي تستحقها من أبنائها البارين. الأديب و الناقد عصمت شاهين الدوسكي . يستنطق المكان والطلل بإيقاع شعري بصري وتأملي باستنكار الغياب وغربة الشاعر النفسية والروحية ،فالمكان لصيق الشاعر مهما غاب عنه أو انتقل منه إلى مكان آخر يظل يختزنه في ذاكرته ويتغنى به . ( دهوك يا صمت غربتي النائية جمالك سحر يلهب العاشقين عيناك أغنية كوردية حالمة تنشدها أنًة الحائرين ) . إنه العشق دوما لكل جميل وملفت للنظر فيها لقد انفتحت قريحته الشعرية ليشدوا عبر هذه القصيدة و ليغازل بالجمال والدلال والحب والولاء وليرفع عنها غبار الزمن والإهمال والإنكار لتاريخها النضالي وتأثيرها الاقتصادي والسياحي والزراعي ولكن الإهمال والتنكر لدورها الريادي في ثورة شعبنا الكردي منذ بداياتها ولغاية إعلان الانتصار، أي كان لهذه المدينة ألأبية وأبنائها المخلصين دوماً المتميزة . رغم الصمت إنها عروس بهدينان لقد أعاد إليها الأديب والشاعر عصمت دوسكي بهائها عبر هذه القصيدة حينما يقول : ( دهوك يا وجعي الآتي عبر الزمان على وجنتيك ذوت نيراني على شفتيك غدت ثلوجك براكين دبكاتك علت أصواتها سمعت الأفئدة ألحانها أسرعت الخطى بين خطى السائرين ) . ويمضي الشاعر يتذكر صور ذكريات طفولته والعودة لتلك الأيام الخوالي من طفولته وتمضي الذكريات مع الأهل والأحباب وأصدقاء الطفولة والحنين لمن فقدناهم من حبيب وصديق وخليل وصور أزقتها القديمة وشوارعها وبساتينها وجريان ماءها من الجبال والوديان عبر هذه التراجيديا الملحمية لأحداث جميلة وحزينة مهلكة توالت على هذه المدينة الأبية بتسلسلها الزمني . ويقول في مقطع آخر من قصيدته: ( فإذا الصمت هدر كصمت جبالك العائمة على صدرٍ حنين تجمعت الغيوم فألبستك وشاحاً من عمق السنين احبك والحب فيك نعمة فتحتار .. " كري باصي وبروشكي" من حبي وتغار " حي الملايين " ) . فصمت دهوك وهو أيضا ( رمز ) يحرك هذا الصمت واللا مبالاة والإهمال بعد عودته وسيطرة طغيان المادة والمناصب التي غيرت نفوس الصديق والقريب والبعيد وأصبحت المبادئ والأخلاق والعهود والوعود والوفاء مجرد خرقة بالية . ويتذكر الشاعر أحيائها القديمة والجديدة وعماراتها الحديثة وتغير الوجوه وكثير من معالم هذه المدينة ولكن تبقى الجهات المشرفة على هذه المدينة الأبية متخلفين من جانب إعطائها رونقها الذي تستحق بسبب كثرة خيراتها وموقعها و نضال أبنائها المناضلين الأوفياء فيعود بقوله : أحبك و الحب فيك نعمة تحتار كري باصي و بروشكي من حبي وتغار(( حي الملايين(( ، فالحب أساس الوجود والتكوين الأخلاقي والفكري والحسي ، فمهما اعتلى الإنسان جاها ومنصبا ومالا لكنه بلا رحمة وحب وعطاء ووفاء يبقى مجرد كالآلة يعمل ليل نهار لكن مصيره مجرد بلا أي شيء تحت التراب ، فالحب عند عصمت شاهين دوسكي للمكان والزمان ليس له حدود أو وقت مهما كانت الظروف والمعاناة . ( أنا شاعرك المغترب أنا عاشقك السرمدي افتحي أبوابك لقلبي المسكين فعشقك يا دهوك ليس محرم على العاشقين ) . هكذا الشاعر أعاد إلينا ذكرياتنا بمرارتها وحلاوتها فللمكان أهميته في حياة الإنسان فقبل الوجود خلق الله الأرض وذللها للبشر مثلما هيأ الكون كله فما كان من إدراك الإنسان للمكان والزمان أن يختلف حسب تطور الإنسان ونشأته فيتجسد إدراك الإنسان للزمن خلال فعله وعلاقته بالأشياء أما المكان فيكون مباشر من خلال إحساسه فيلتصق به على مر السنين ، وضعنا الشاعر عصمت أمام نوافذ إحساسه المرهفة بدقتها ورقتها وأجاد بصوره الشعرية الإجادة الإنسانية والفكرية والحسية وأعاد بنا للتاريخ عبر تقلباته لتكون مدينة دهوك مدينة حية مشرقة رغم كل شيء . ************* أنيس ميرو كاتب وقاص * مدينة دهوك كوردستان العراق * بعد إكمال دراسته تخصص في إدارة تشغيل المحطات الثانوية الكهربائية . * تم تعيينه في مدينة زاخو . مدير فني أقدم * أحيل على التقاعد وحاليا متفرغ للأدب القصة القصيرة والشعر وكتابة مقالات أدبية ونقدية . * تنشر مقالاته في الصحف المحلية العربية والعالمية . * معدة للطبع كتب نقدية وقصصية ومنها كتاب مأساة قرية .. قصص قصيرة ولديه ثلاثة كتب أخرى معدة للطبع في اختصاصات متنوعة .