الحديث عن"الزنزانة" قد يحيل القارئ منذ الوهلة الأولى على تلك"المعاقل" أو أمكنة الحجز والاعتقال المتواجدة عادة في مقرات الأمن والدرك والمحاكم الزجرية (التقديم) والمؤسسات السجنية، حيث ينصهر "فولاذ" الحرية في أمكنة تحضر فيها مفردات "الضبط" و"النظام" و"الزجر" و"العقاب" و"الانصياع" للأوامر والتعليمات .. لكن "الزنزانة9" - في المشهد التعليمي- تختلف عن سابقاتها، ليس فيها قضبان حديدية ولا أبواب موصدة ولا حراس ولا أصفاد ولا أوامر تفرض الامتثال .. "زنزانة" اقترن إسمها بالرقم "9"، وهو رقم"مشؤوم" يختزل واقعا أليما يبدو كبساط تتقاسمه فئات من الأساتذة الذين اكتووا بلهب سياسات تعليمية مشوبة بالارتباك فاقدة للرؤية الثاقبة، وتم الزج بهم لسنوات، في زنزانة السلم التاسع، ولم يبارحوا مكانها إلى اليوم، في وضعية تبدو كوضعية المعتقلين "احتياطيا"، فلا هم أدينوا بعقوبات سالبة للحرية ولا هم تلقوا خبر الإفراج عنهم، أو كما يقول المثل الشعبي "مرات المنحوس ماهي مطلقة ماهي عروس" ... زنزانة تختزل تفاصيل أساتذة تحطمت آمالهم وأحلامهم وتطلعاتهم عند عتبة "السلم 9" بعد سنوات من الجد والعطاء، كرست عبر السنوات مفردات "اليأس" و"التمرد" و"الإحباط" و"انسداد الأفق" في صفوف " أساتذة" /معتقلين إلى أجل غير مسمى، وبالقدر ما تبدو مياه هذه الزنزانة راكدة، بالقدر ما تتعمق هوة الاحتجاج وتتوسع مساحات الاحتقان وتتمدد شوارع الإحساس بالحيف والظلم وخيبات الأمل، وتتأجج الرغبة المشتعلة -وسط معتقليها- في خوض معارك النضال على أمل تجاوز "الزنزانة 9" والتحرك بسلاسة في سلاليم "مرنة" و"محفزة" بعد سنوات من "الاعتقال" و"الظلم''، إيمانا منهم أن "ما لا يتحقق بالنضال.. يتحقق بالمزيد من النضال" ... زنزانة لا تختزل فقط "معتقلي" السلم التاسع، بل هي -في شموليتها- بمثابة مرآة عاكسة لوضعية "الشغيلة التعليمية" التي ظلت عبر السنوات بعيدة عن بوصلة "الإصلاحات المرتبكة" التي طالت المدرسة العمومية، مما أفرز مشاكل اجتماعية ومهنية متعددة الزوايا، كرست ثقافة اليأس والشكوى والآهات والاحتجاج، ورفعت من سقف المطالب والتطلعات التي تواجه بسياسات التسويف والمماطلة تارة، وبالتجاهل والإقصاء وعدم الاكتراث تارة أخرى، وحتى في زمن تنزيل "الرؤية الإستراتيجية" و"القانون الإطار" وما يرتبط بهما من برامج ومشاريع إصلاحية ترمي إلى النهوض بأوضاع المدرسة العمومية، ظل حال "الأسرة التعليمية" كحال "المياه الراكدة" التي لا تبارح مكانها، ويكفي النظر إلى الإضراب الوطني ليوم الثالث من الشهر الجاري، ليتبين جليا حجم المأساة التي تعيش فيها الشغيلة التعليمية بكل فئاتها بدءا من ملف "الزنزانة 9" و"شيوخ التربية والتكوين ضحايا النظامين" و"الأساتذة المقصيون من خارج السلم" مرورا بملفات "التفتيش التربوي" و"هيئة الإدارة التربوية" و"حاملي الشهادات العليا" وانتهاء بالأزمة ذات الصلة بالتوظيف بالتعاقد الذي زاد طين"الاحتقان" بلة ... هي إذن، "زنزانة" تعليمية بامتياز، تتجاوز حدود" الزنزانة9" التي تبقى "وصمة عار"على جبين "التعليم العمومي"، والجهات الرسمية لم يعد مسموحا لها اليوم، التعامل مع الإضرابات القطاعية بمنطق الأرقام ولغة الوعد والوعيد والاقتطاع من أجور تعاني "الهزال"، ولامناص لها من استحضار الإضراب الوحدوي والتقاط مطالب وشعارات المضربين والمحتجين، وتقدير تداعيات هذا الاحتقان على مستقبل المدرسة العمومية التي تعيش على وقع"الإصلاح" الذي لم يستطع لحد الآن تحريك المياه الراكدة للاحتقان المستشري وسط الأسرة التعليمية بمختلف هيئاتها، والتسريع بتنزيل "نظام أساسي" جديد "منصف" و"عادل" و"محفز" يستوعب كل المطالب الفئوية ويفتح أمام "الرأسمال البشري" أفقا للارتقاء الاجتماعي والمهني بعيدا عن مفردات"اليأس" و"الإحباط" و"التمرد" التي تجعل من أي "مجهود إصلاحي" مقرونا بأسباب "الارتباك" و"الفشل الذر يع" ...لذلك لامفر من إعادة الاعتبار للرأسمال البشري، فهو بمثابة "عش" لابديل عنه، لاحتضان وصون "بيضة" الإصلاح، فكفى من "إصلاح الإصلاح"، وإلى متى سيبقى"التعليم العمومي" رهين أفق معالمه تبدو غامضة ؟وما قيمة "الإصلاح"الذي رصدت له إمكانيات مادية مهمة، إذا لم يحرر "معتقلو الزنزانة9"و"ينصف "شيوخ التربية والتكوين"و"يفك عقدة التعاقد" ويعيد الأمل والاعتبار لأسرة تعليمية بأكملها تعيش بين "مطرقة"الانكسار" وسندان"الانتظار"- بدونها- لا يستقيم إصلاح...؟.
-كاتب رأي، أستاذ التاريخ والجغرافيا بالسلك الثانوي التأهيلي(المحمدية)، مهتم بقضايا التربية والتكوين. [email protected]