كما هو معلوم، فقد أصدرت وزارة القصور الملكية والتشريفات والأوسمة بلاغاً تعلن فيه أن الملك محمد السادس سيوجه خطابا إلى الشعب المغربي بمناسبة ذكرى 20 غشت. لكنَّ موقع "هسبريس" اختار أن يقدم البلاغ المذكور بعنوان يقول: الملك يخاطب المغاربة غدا بمناسبة "ثورة الشعب". يقتضي حسنُ الظن أن نفترض أن الأمر خطأ تقني أدى، عن غير قصد، إلى إسقاط "الملك" وحرف الواو من عبارة "الملك والشعب". وحتى إذا كان التحليل النفسي يرى أن زلات القلم وهفوات اللسان تشكل منفذا مهما إلى اللاوعي، فإننا سنلعن الشيطان الرجيم، والتحليل النفسي ومؤسسه، سيغموند فرويد، وسنقول مع المتأسلمين إنه يهودي يتآمر على الإسلام والمسلمين تحت غطاء "العلم"، وأن التحليل النفسي ليس سوى مؤامرة يهودية صهيونية ماسونية لإفساد الأخلاق وتدنيس الأعراق نكايةً بابن مسكويه. ليكُنْ! غير أن الخطأ قد حصل على كل حال وصار من اللازم، تربوياً على الأقل، تصحيحُه في أذهان القراء أو الزوار بلغة الإعلام الإلكتروني. ولعل الحاجة إلى هذا التصحيح تزداد إذا أخذنا في الحُسبان أن المغرب بلدٌ شاب، أي أن الشباب يشكلون أغلبية السكان، وأن الذين عاشوا أحداث 20 غشت انتقل أغلبهم إلى العدم، وشاخَ مَنْ لا يزال يدبُّ منهم على وجه البسيطة. وبالتالي فنحن أمام مغربٍ لا يعرف أغلب مواطنيه ما حدث، بالتحديد، قبل 65 عاماً، وليس لديهم إلا تصورٌ عام، وباهت، عن معركة استرجاع الاستقلال الوطني. ولربما ينبغي أن نصارح أنفسنا بوجود دعاية نشيطة جدا تحاول ترسيخ الاعتقاد بأن كل ما حدث يوم 20 غشت 1953 هو أن الاستعمار الفرنسي قام بنفي الملك محمد الخامس وأسرته لأنه رفض التنازل عن العرش، وأن الشعب المغربي انتفض ضد السلطات الاستعمارية تضامُناً مع الملك فقط، وأن ذلك كان غباءً سياسياً من طرف المغاربة الذين كان عليهم البقاء تحت النفوذ الفرنسي، والتخلُّص من الملك ومن الملكية على حدٍّ سواء. بل وهناك أبواق كثيرة تردد أن الاستقلال الوطني تحقَّقَ بثورة خاضها الشعب وحده ولم يكن فيها أي إسهام للملك ولا للمؤسسة الملكية. ولذلك فهي "ثورة الشعب" (كما جاء في عنوان هسبريس) دون الملك. وجودُ مثل هذه الدعاية أمرٌ عاديٌ جدا ولا يُرعب عادةً إلا الكيانات الضعيفة. أما الدول القوية، والشعوب العريقة، فهي تتعامل معه كفُقَاعة إعلامية لا أقل ولا أكثر. وهي الفُقَاعة التي لا تصمُد، بالتأكيد، أمام أبسط قواعد المنطق. ولننطلق من سؤال بسيط جدا: لماذا أقدمت فرنسا المُستَعْمِرَة على تنحية الملك محمد الخامس ووضع بن عرفة مكانَه؟ لعل أبسط قواعد المنطق تقول إن ابن عرفة كان يخدم مصالح فرنسا بينما لم يكن الملك محمد الخامس كذلك. أما إذا ما تركنا المنطق إلى التاريخ فسنجد أن محمد الخامس قد أعلن منذ خطاب طنجة في أبريل 1947 تشبث المغرب باستقلاله الوطني، وسيادته الكاملة، ووحدته الترابية، مُصْطَفاًّ بذلك علانية إلى جانب القوى الوطنية التي كانت قد قدمت وثيقة المطالبة بالاستقلال في 11 يناير 1944. وفي سنة 1952 وجه الملك رسالة إلى رئيس فرنسا يطالبه فيها بإعادة النظر في عقد الحماية الذي فُرض على المغرب سنة 1912. وبالاقتصار فقط على هذين الحدثين، خطاب طنجة ورسالة الملك إلى الرئيس الفرنسي، يسهل الاستنتاج بأن الملك نُفي لأنه كان يُطالب باسترجاع استقلال بلاده مثله مثل أي مواطن مغربي باستثناء عملاء الاستعمار. ولأن الشعب كان يعرف أن الملك نُفي بسبب قيادته لحركة المطالبة بالاستقلال فإنه ثار في وجه السلطات الاستعمارية ولم يهدأ إلا بعد أن عاد الملك ومعه الاستقلال. وبين نفي محمد الخامس وعودته مرت سنتان وثلاثة أشهر تقريبا، سقطت خلالها طوابير من الشهداء برصاص المستعمرين، ونالت فيها سياطُ الجلادين من أجساد المواطنين، وقضى على أعمدة الإعدام شهداء ما تزال أسماؤهم اليوم تُرصِّعُ شوارعنا ومعالم أخرى في مدننا وقُرَانا أيضاً. وانتُهكت بيوت المغاربة مثلما تم تضييق الخناق على الملك في منفاه. وصَمَد الملك هناك مثلما قاوَمَ الشعبُ هنا. وكانت تلك الثورة التي قادت إلى استرجاع الاستقلال الوطني والتي هي، بكل موضوعية، ودون حماس خَطابي، ثورة الملك والشعب معاً. صحيحٌ أن واقعنا الاجتماعي اليوم قد أدى إلى حالة من الاستياء العام. ومن الطبيعي تماماً أن يؤثر هذا الواقع الاجتماعي القاتم في نفوسنا كمواطنين، ويصبغ ببعض قتامته تلك أكبر ملاحم (وملامح) تاريخنا الوطني. وهو قد يدفعُنا بذلك إلى الاستخفاف بكل ما صنعه المغاربة من أجل استرجاع الاستقلال الوطني، من المواطن البسيط في "كريان سنطرال" إلى الملك الذي لقبه الاستعمار ب"ملك كريان سنطرال". لكنَّ كُلَّ هذا لا يُمكن أن يُفقدَنا القُدرة على ممارسة الحس السليم. فالمشاكل الاجتماعية الكبرى التي نُعَاني منها تحتاج إلى حُلُول لا إلى أن تُضَافَ إليها مُعضلة سياسية أكبرُ منها وأخْطَر. ذلك أن الاستقرار السياسي، والمؤسساتي، والأمني، يُعتبر شرطاً لا محيد عنه للنهوض بالجانب الاجتماعي. وحتى أكثر الناس غباءً لا يمكنه أن يتصور نهضة اجتماعية في بلد غارق في الفوضى أو في حرب أهلية. بل إن منطق الثورات الاجتماعية نفسَهُ يرفض ذلك. ووحدهم الذين يحترفون شطحات التثَوُّر المجاني يقولون بالعكس. هذه الشطحات هي التي تُذكيها اليوم كثير من "العناوين الخاطئة" التي تتلبَّسُ لَبُوسَ "الفقهاء" و"الشيوخ" تارة، وتتسربَلُ بأثواب "الزعماء الثوريين" حيناً، وتضع على رأسها تاج "صاحبة الجلالة" أحياناً فتتحول إلى أشرطة وثائقية، وحوارات صُحُفية دُبِّرَ أمرُها بليل، وعناوين بالبُنْط العريض صيغت بمخالب بنات آوى. فكأن هذا الوطن الجميل، وهذا الشعب العريق، قد صارا مُجرَّد نقطة على جدول أعمال بعض الأوساط التي تتصوَّرُ، وهماً، أن المغاربة قطيعٌ يسهُلُ الهشُّ عليه بعصا تزييف الحقائق وتشويه الوقائع وشحن الأنفُس الضعيفة بالأكاذيب. نعم، لقد تضعضعت نُخبتُنا السياسية والثقافية والإعلامية إلى حد كبير. لكنَّ هذا لا يعني أننا صرنا شعباً بلا ذاكرة، ولا أننا نفتقد وسائل الرد على كل دعاية ماكرة تروم استغلال التوتر الاجتماعي القائم في البلاد، وتحويله إلى أداة لتفجير الوضع السياسي برمته، وإفشاء التشكيك في المؤسسات، ونشر اليأس والتطرف. ولربما جاز لنا أن نقول إن ما يحتاجه المغرب والمغاربة اليوم هو مرحلة أخرى من ثورة الملك والشعب في المنحى الاجتماعي، تقضي تماما على الفقر، والبطالة، ورداءة الخدمات الصحية، وتدني مستوى التعليم، والتصدي للبيروقراطية السلبية، والفساد الإداري...إلخ. وبدل أن تتحول ذكرى شهداء ثورة 20 غشت إلى تركة يتنازعها الملك من جهة، والشعب من جهة أخرى، كما يوحي بذلك الخطأ الذي تسرب إلى عنوان "هسبريس"، ينبغي أن تكون مناسبة تُذكرنا جميعا بأن هذا الوطن الذي نضع أقدامنا على ترابه هو نتيجة لتلك الوقفة الملحمية التي وقفها الملك والشعبُ معاً، وأننا نحتاج اليوم إلى الروح عينها لتحقيق ثورة جديدة في المجال الاجتماعي الذي يمثل اليوم أكبر معضلة نواجهها. والأمر في كل الأحوال ليس من قبيل الإتيان بالشمس من المغرب. ف"الإنسانية لا تطرح إلا مشكلات تستطيع حلها" كما يقول ماركس الذي لم تقرأه أغلبية المُتثَوِّرين. ومشاكل المغرب الاجتماعية ليست بحال من الأحوال خارج متناول المغاربة الذين عليهم جميعاً إيجادُ حلول لها مع المحافظة على المكتسبات السياسية والمؤسساتية والعمل الدؤوب، والدائم، على تعزيزها. طبعاً، فالمنطلق في كل ما قلناه هو أن خطأ غير مقصود تسرب إلى عنوان هسبريس. لكنْ، ماذا لو لم يكن خطأً؟ في هذه الحالة أيضا سنكتفي بأن نلعن "الشيطان" الذي يريد إفساد الأخلاق وتدنيس الأعراق.