انتبهت إلى أن مشيته لم تعد مستقيمة ، وأن مزاجه قد تغير قليلا. أرجعت تثاقل خطوه إلى وعكة تصادفه كلما لعب الكرة في البيدر، وتغير مزاجه إلى خلاف يقع بينه وبين أبيه حول مصروف الجيب من حين لآخر، فطردت الشكوك دفعة واحدة وانصرفت لأشغال البيت. الغرفة الطينية باردة وموحشة ، والسبابة مرفوعة إلى السماء . سماء لا يدري إن كانت قد أغلقت في وجهه إلى الأبد ، وقد انقطع عن الصلاة لأكثر من خمسة أيام خائبة قضاها في العاصمة. جبينه يسيل عرقا ، فيغريه في ابتلاع قطرات مالحة منه ، كلما وصلت إلى شفتيه . - السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته سلم في سهو على اليمين ، كان حذاءه العاري من الحداثة ، جاثما هناك بلا حياة. تسمر للحظات يتأمله ، كان حذاء يتيما وحزينا في شكله الموحش ، هو بدوره لم يرطب جلده منذ شهور. لم يقترب من مقدس ولا سب أحدا (هكذا يعتقد)، فقط جهر بصوته حتى جف حلقه ، وردد شعارات مع أصدقاء وصديقات وحدهم الاعتصام . طقطقات أحذية البوليس فاجأت طبلتي أذنيه ، فأخذه المشهد وبدأ يسترجع الرحلة من الذيل ، حتى نسي أن يسلم يسارا ، كي تصبح صلاته جاهزة للارتقاء إلى السماء. أحس بأن الوقت قد سرقه ، فتردد بين أن يكمل الصلاة أو يعيدها ، يصلح الصلاة أو” يرقعها ” ، كما سمع فقيه البلدة المنسية يقول ذات أمسية رمضانية. لكن وبعد تفكير... ، أغمض عينيه والتفت إلى اليسار: - السلام عليكم وحمة الله تعالى وبركاته أحس بنوع من الراحة ، وخلاص من انقباض عابر. دعا وترجى ، ملى النفس ومناها بأمنيات كثيرة ، بتعيين في إحدى الشركات أو الوزارات ، وبحورية من حوريات الرباط – ممن صادفهن هناك – زوجة له. كانت أمه التي أحس بدخولها ، من خلال رائحة السمن البلدي ، واقفة تنتظر انتهاءه من الصلاة . خطت خطوتين مولية في اتجاه الباب ، لكن ولإحساس ما وقفت متسمرة تحمل الصينية بين يديها ، بها إبريق يتصاعد منه بخار خفيف ، ورائحة خبر طازج تملأ خياشيمه. كانت تبدو فرحة بأدائه الصلاة ، وفي موعدها . - الله يقبل أوليدي... يقبل...- يتقبل...- يقابل – يتقابل – ...، لا يهم. صرف – نحو – سيميولوجيا – تكنولوجيا – فلسفة – أدب – علوم – لا فرق ...، وما الفرق ؟. كلنا كنا هناك (كلمات رددها في انهزام مع نفسه). التفت إليها ، تذكر يومه المر هناك ولعنة الكر و الفر. استدارت هي فجأة لتمسح دموعا غلبت أنوثتها الشائخة ، ثم وضعت الصينية أمامه في هدوء ، وانصرفت تدعو له وعليهم. سمع صوتها في الخارج ، وكأنها تكلم أحدا ممن يعرفهم . اقترب الصوت أكثر فعرفه ، ومن يكون غيره في مثل هذه اللحظات ؟. - نظرت إلى الضابط وحمرة عيني تكاد تغرقه في الأرض ، صرخت في وجهه : الدستور يعطيني الحق في العمل / في الحصول على وظيفة / في الاحتجاج وسط الشارع العام ، وسطرت أمامه طابورا من الحقوق التي يخولها القانون لي . كان ابن عمه ” العربي” الذي أوصاه بعدم الذهاب ، ينصت إليه فيما يشبه قلة الاهتمام ، وعيناه مسمرتان على بقعة داكنة في ذراعه الأيمن وحمرة في عنقه. ثم ... ، أشاح بوجهه عنه و أشعل سيجارة . أخذ نفسا عميقا منها ونفثه على دفعات ، قبل أن ينكس رأسه بين ركبتيه. وطال الصمت ... ، صمت بارد في غرفة باردة أصلا. ارتخت الكوفية الفلسطينية الملفوفة على عنقه ، تردد في أن يعيد لفها أو يتركها كما هي ، فظهر ما كان يريد أن يخفيه . - والله لم يكن قصدي يا ابن العم ، لا تصدقهم إن قالوا لك أنني تعمدت أن أكون زعيما . هو من لحق بي ، كان عنيدا ، جريت بكل قواي لكنني هزمت ... ، وخانني كل شيء هذه المرة : ركبتاي – حذائي – قوة الجري عندي – كما أشياء أخرى في هذا البلد السعيد....!!