الحسن الهلالي * يعتبر الدكتور مبارك حنون من الأساتذة الباحثين الأوائل الذين تحملوا مسؤولية إدخال اللسانيات المعاصرة إلى مجال التداول العربي وأسهموا في تطوير البحث اللساني العربي الرصين في الجامعة المغربية. فلقد اهتم الأستاذ، منذ مطلع الثمانينات من القرن الماضي، باللسانيات المعاصرة تدريسا وتأطيرا وتأليفا وترجمة ووضعا للمصطلحات الملائمة.
لقد أدرك مبارك حنون في وقت مبكر أهمية المؤلفات التي تعرف بمبادئ اللسانيات البنيوية والسيميائيات المعاصرة، فألف في 1987 كتاب "مدخل للسانيات سوسير"، وأصدر في السنة نفسها كتاب "دروس في السيميائيات". وهما كتابان يتميزان بالعمق في البحث، وبالإحكام في طرق التحليل والتماسك في بسط المعطيات، والتنوع في المصادر والمراجع، والسلاسة في التعبير عن المعارف اللسانية الآخذة آنذاك في التشكل، وبالحرص الكبير على ضبط المفاهيم وإتقانها، وبالتوفيق الواضح في وضع المقابلات العربية للمصطلحات اللسانية والسيميائية. لقد سد هذان الكتابان ثغرة في المكتبة اللسانية العربية، وشكلا وما زال يشكلان مرجعين أساسيين لكل باحث في هذين الحقلين المعرفيين.
وجاب الأستاذ مبارك حنون بعزيمة وإصرار دروب التراث العربي القديم وغاص في حقوله المختلفة وفروعه المتنوعة ليقدم للقارئ العربي الجهاز النظري الذي كان يوظفه القدماء "في قراءاتهم للواقع ومختلف تجلياته ومجالاته"، فكتب دراسة متميزة بعنوان "في السيميائيات العربية: قراءة في نصوص قديمة" نشرها في حلقتين (شتاء 1986، وربيع 1987) في "مجلة دراسات أدبية ولسانية" التي كان قد ساهم في إحداثها. ولقد أضاف إلى هذه الدراسة التقديم الذي كان قد أعده لكتاب "الاتجاهات السيميائية المعاصرة" الذي ترجمه، بالاشتراك مع آخرين، في سنة 1987، ومجموعة من النصوص اختارها بعناية من التراث العربي، بإمكانها أن تسهم "في تكوين صورة واضحة وكاملة عن المجهود العربي في الصياغة الكونية المتدرجة للسيميائيات"، ف"أخضع هذا الجمع لنوع من الترتيب والتنظيم والتنسيق" وأعاد نشره في 2001 بعنوان "في السيميائيات العربية قراءة في نصوص قديمة".
ومع بداية العقد الأخير من القرن العشرين انشغل الأستاذ مبارك حنون بمجال تخصصي دقيق، ونعني به دراسة النظريات الصواتية الحديثة واتجاهاتها، وبشكل خاص التوليدية منها، بهدف إعادة وصف الظواهر الصوتية العربية وتفسيرها باستخدام المفاهيم والآليات والتمثيلات الجديدة التي توفرها هذه النظريات.
وهكذا شرع أستاذنا في إنجاز مشروع واعد يدور حول الصواتة التوليدية الحديثة؛ فصدر له في عام 1992، بمعية الأستاذ أحمد العلوي، ترجمة بعنوان "الفونولوجيا التوليدية الحديثة". ثم صدر له، بمعية الأستاذ أحمد العلوي أيضا، ترجمة لكتاب كليمنتس وكايزر بعنوان "الفونولوجيا المقطعية: نحو نظرية توليدية للمقطع". ويحاول هذا العمل إدماج المقطع في التحليل والتمثيل الفونولوجيين بعدما تبين أن التمثيل الفونولوجي الذي يقتصر على القطعة وعلى تنظيمها الخطي لا يستطيع الإمساك بمختلف الظواهر الصوتية وتفسيرها بالكفاية المطلوبة، وهو ما يعني ضرورة اقتراح نماذج جديدة تعترف بوحدات فونولوجية من قبيل المقطع والتفعيلة والكلمة الفونولوجية والمركب الفونولوجي.
وفي سنة 2003 صدر للدكتور مبارك حنون كتاب "الصواتة الزمنية: الوقف في اللسانيات الكلاسيكية". وهو بمثابة وقفة نقدية تقويمية للأدبيات اللسانية حول الوقف ومقدمة ضرورية لتأسيس صواتة زمنية. كما صدر للرجل سنة 2010 كتاب آخر بعنوان "في التنظيم الإيقاعي للغة العربية: نموذج الوقف"، يمكن اعتباره دراسة مكملة للكتاب السابق. وقد بين فيه أن للوقف مكانةً خاصةً في اللغة العربية لما له من تأثير مباشر على اللفظ من خلال ما يتركه من أثر على الأصوات الموقوف عليها. كما أثار فيه أسئلة وقضايا هامة تذهب إلى حد إعادة النظر في أدوار مكونات النحو في تنظيم اللغة، ليخلص إلى أن الوقف جزء من البنية الإيقاعية يتوقف على الإيقاع ويتوقف عليه الإيقاع.
وفضلا عن ذلك، أسهم الأستاذ مبارك حنون في تكوين أجيال عديدة في مجال البحث اللساني عامة والبحث الصواتي على وجه الخصوص، وأشرف على عدة رسائل جامعية كان لها دور واضح في تطوير البحث اللساني الدقيق بالمغرب والنهوض به.
اعتبارا لهذا المسار العلمي المتميز ولهذه الجهود المتنوعة، نظم نادي همزة وصل للكتاب والصورة وتفاعل الاختصاصات ومختبر البحث في العلاقات الثقافية المغربية المتوسطية بالكلية متعددة التخصصات بتازة، احتفاء بأعمال الرجل وتكريما له، يوما دراسيا بعنوان: "البحث اللساني في المغرب: قراءات في أعمال الدكتور مبارك حنون" يوم الأربعاء 05 دجنبر 2012 بغرفة الصناعة والتجارة والخدمات بتازة، ولقد شارك فيه مجموعة من الأساتذة أصدقاء الأستاذ المحتفى به ومحبيه.
ولقد وقفت عروض الأساتذة المشاركين في هذا اليوم الدراسي عند إسهام مبارك حنون في إرساء دعائم الدرس اللساني في المغرب، وأثارت أسئلة وقضايا يتعين على اللسانيين اليوم الاهتمام بها. وهكذا ربط الأستاذ عبد المنعم حرفان بين تاريخ اللسانيات العربية بالمغرب بدءا من مستهل الثمانينات إلى الآن وبين المسار اللساني للأستاذ مبارك حنون في الكتابة والتدريس والتأطير. لقد مرت اللسانيات في شعبة اللغة العربية بالمغرب، في نظره، بثلاث محطات رئيسة: هناك أولا محطة التأسيس، وفيها رفع جيل الأستاذ مبارك حنون، من منطلق الوعي بعبء المسؤولية، تحدي النجاح رغم العراقيل الكثيرة التي اعترضت مشروعهم. وتحولت اللسانيات في المحطة الثانية إلى برنامج عمل يجيب عن أسئلة اللغة من خلال بنيات نظرية ومنهجية. وفي المحطة الثالثة انتبهت اللسانيات إلى عزلتها عن المجتمع فحاولت أن تتصالح مع قضاياه وانتظاراته، فأنتج لنا ذلك مقدمات ما يسمى باللسانيات التطبيقية.
وركزت مداخلة الأستاذ عبد الرحمان يجيوي على دور الأستاذ مبارك حنون في توطين المصطلح اللساني. فبالرغم مما للترجمة من دور في التثاقف ونقل المعارف، فإن مبارك حنون اختار التأليف بالعربية المبني على استيعاب اللسانيات المعاصرة وتمثل المفاهيم وضبط المصطلحات ووضع المقابلات العربية الملائمة؛ وذلك طريق أنجع، في رأي الأستاذ عبد الرحمان يجيوي، لترسيخ اللسانيات في اللغة العربية وسبيل أسلم لتجاوز التشتت والاضطراب في الكتابة اللسانية. وفي نفس الاتجاه بينت مداخلة الأستاذ محمد العلْوي جهود مبارك حنون في بناء معجم الصواتة العربة الحديثة. فلقد اتبع مبارك حنون في وضع المصطلح الصوتي جميع الوسائل الممكنة، كإعمال المصطلح التراثي واستثماره وتوليد المصطلح والتعريب والنقل. وهي طرق من شأنها، في نظره، أن تيسر ضبط الدرس الصوتي الحديث وتطبيق مناهجه على الظواهر الصوتية العربية.
واستوحت الأستاذة شمس الضحى مراكشي موضوع مداخلتها "الدلالة وجدلية الحقيقة والمجاز" من أبحاث الأستاذ مبارك حنون في مجال السيميائيات العربية القديمة. ولقد بينت أن موضوع الدلالة حظي باهتمام علماء العرب القدامى على اختلاف توجهاتهم، حيث ركزوا جميعا على استكشاف العلاقة الرابطة بين اللفظ والمعنى. وركزت على موضوع الدلالة في علاقتها بالحقيقة والمجاز.
وقدم الأستاذ محند الركيك قراءة عميقة في كتاب مبارك حنون "دروس في السيميائيات"، بيَّن فيها خلفيات المؤلف ومنهجه وأهدافه. لقد عرف الأستاذ مبارك حنون في هذا الكتاب، بلغته العربية الرفيعة ودقته المعهودة، بموضوع هذا العلم ومفاهيمه الأساسية، واتجاهاته الرئيسة، وأبرز أهم الإشكالات التي يثيرها. لقد قدم "المعارف الضرورية والأساسية للسيميائيات". وبذلك شكل وما زال يشكل مرجعا أساسيا لكل باحث في هذا الحقل المعرفي. وتناولت مداخلة الأستاذ الحسن الهلالي بعض قضايا اللسانيات العامة من خلال عمل الدكتور مبارك حنون "مدخل للسانيات سوسير"، كمفهوم اللسانيات العامة، وموضوع اللسانيات، ونظرية الدليل اللساني. ولقد دعا الأستاذ الحسن الهلالي في تدخله إلى ضرورة معاودة النظر في تفكير سوسير اعتماداً على ما تم اكتشافه في عام 1996 من نصوص جديدة لسوسير ومخطوطات له، وعلى ضوء ما أنجز حوله من دراسات جادة في إطار ما أضحى يعرف بالسوسيرية الجديدة. إن القارئ العربي والمكتبة اللسانية العربية أصبحا في أمس الحاجة إلى طبعة جديدة منقحة ومزيدة لكتاب "مدخل للسانيات سوسير".
وفي الختام قدم الأستاذ المحتفى به الدكتور مبارك حنون عرضا مفصلا حول أسئلة اللسانيات واللغة؛ شرَّح فيه واقع البحث اللساني بالمغرب وبيَّن بعض اختلالاته، ووقف عند التحديات التي تفرضها العولمة على اللغتين الوطنيتين (العربية والأمازيغية)، ودور اللسانيين واللسانيات في ذلك، وأبرز الرهانات المطروحة على اللسانيين المغاربة أفرادا ومجموعات، وأشار إلى دور الدولة المتمثل في الإنفاق وفي توفير البيئة المناسبة لكسب الرهان ورفع التحديات. ووسط أجواء مؤثرة، اختتم اللقاء العلمي بتقديم الطالبة زهرة هشيمي، باسم طلبة مسلك الدراسات العربية بالكلية متعددة التخصصات بتازة، هدية رمزية للأستاذ المحتفى به وأخذ صورة جماعية.