كانت حكاية انطلقت في ليلة دامسة بعد أن تناولت العشاء رفقة أسرتي ، استرقت السمع من مذياع يزف الخبر اليقين ، خبر إعلان تنظيم المسيرة نحو استرجاع الأقاليم الجنوبية- يقول الحاج عبد العزيز دو الاثنتين والعشرين سنة حينها وهو يتذكر اللحظات الأخيرة من القرار الذي اتخذه للمشاركة في المسيرة الخضراء بمعية شباب آخرين من مدينة طنجة. يضيف الحاج وهو جالس يتحدث لصحيفة طنجة 24 الالكترونية أن كل ما في الأمر هو الوطن ، نبض قلبي منذ أن بث خبر محكمة العدل الدولية لاهاي،المتعلق بالصحراء ، كنا نتابع كل صغيرة وكبيرة عبر إذاعة بي بي سي الدولية ، إلى أن أعلن عن تنظيم المسيرة . مشاركته لا تختلف عن باقي المشاركات، أخد القرار في ليلة الإعلان عن الحدث ، الأسرة كلها كان إلى جانبه وتمنت له التوفيق ، الأم طبعا يبدو أنها تريد المزيد من التفاصيل -يقول الحاج عبد العزيز غير أنها اقتنعت كما في الماضي أن تلبية نداء الملك والوطن واجب . صارت طنجة ،وصارت أحياءها تحكي حكايات المشاركة بأي ثمن،باتت وكأنها تريد أن تصبح نحيفة، شاب شعرها، وغطت التجاعيد وجهها، أصبحت كإمرأة عجوز تحمل ملامح جمال قد ولي، جمال شباب أدركوا أن الوطنية هي كل شئ والمشاركة في المسيرة رهان وتحدي لا بد أن يتحقق. يتذكر الحاج عبد العزيز تفاصيل رحلة لم تكن عادية، لأنها انطلقت في إحدى ليالي سنة 1975 وانطلقت معها مشاركة الطنجاويين نساءا ورجالا، سار إلى أن وجد نفسه في اليوم الموالي أمام موظف مكلف بالتسجيل.. وكانت الحكاية، حكاية رحلة ليست كباقي الرحلات والأسفار.. يقول الحاج ، بعد تنهيدة طويلة- ما تزال ذاكرتي تختزل كل تلك الصور الرائعة ونحن نتوجه بعزيمة قوية نحو المجهول، نعم الصحراء كانت بالنسبة لنا عالما مجهولا لم نكن نعرف عنه أي شيء، المهم كان عندنا هو تلبية نداء الوطن والملك، اقتناعنا أن ذلك العالم المجهول الذي لا نعرف عنه كان شيء ما هو جزء من تراب مغتصب وحان وقت استرجاعه، كنت سعيدا جدا وأنا ألج مكتب التسجيل، كنت أشعر أنني ذاهب رفقة جنود أوفياء لوطنهم لنصرة قضية البلاد، لكن صدمتي كانت كبيرة وموظف التسجيل يسألني عن بطاقتي الشخصية للتأكد من سني، بعد أن لاحظ أنني صغير السن، وقتها، لم أعرف كيف تدبرت أمري واختلقت عذر عدم توفري على البطاقة التعريفية وبأن سني يقارب الاثنتين والعشرين .. وكانت المفاجأة الترخيص لي بالانضمام الحاج عبد العزيز الطريمني،ذو ثلاث أبناء عمر، طارق، أمينة، يواصل حكاياته بنبرة صدق كادت عيناه أن تخونه فيها لأكثر من مرة وهو يتحدث للجريدة الالكترونية، خصوصا حينما تعثر يداه على صورة تؤرخ للذكرى، بها أصدقاء له غادروا هذه الحياة ومن أبرزهم الإذاعي إبراهيم الغربي ومصطفى بن عبد الله وآخرون . يحكي عبد العزيز تفاصيل وصول ما يربو عن 500 شخص من المشاركين من مدينة طنجة ،كانت كما يقول لحظات مؤثرة جدا أقاربنا وأسرنا والجيران والأصدقاء وحتى أناس لم نكن نعرفهم أو تجمعنا علاقة بهم، الجميع حضر لتوديعنا بمحطة القطار بطنجة. قطعنا المسافة بين طنجة وطرفاية بالجنوب في أزيد من سبعة أيام، واجهنا في الواقع بعض الصعوبات في الطريق، لكن تضامننا وتكافلنا كان يهون علينا كل المصاعب، تغذيتنا كانت تقتصر على الخبز وعلب السردين وبعض التمر والماء، وبعض الفواكه من حين لآخر. الحاج عبد العزيز والى جانبه حفيدته ، يدرك اليوم ان الوطنية لا شئ يعلوها مهما تغيرت الأجيال ، يسكت قليلا ليواصل حديثه عن اليوم المشهود،حولنا طرفاية كمخيم كبير، وكانت كل الوفود ملتئمة ومجتمعة وانخرط معنا سكان طرفاية وأصبحنا كلحمة واحدة.. خلقنا صداقات وعلاقات كثيرة، بل أصبحنا كأسرة واحد لا فرق بين العروبي والأمازيغي والفاسي والريفي والوجدي والطنجاوي.. كنا كلنا مغاربة أداروا ظهورهم لكل شيء وصوبوا وجهاتهم نحو هدف واحد هو الوصول إلى الصحراء واسترجاعها وتحريرها.. كم من الحكايات رأت النور هناك بطرفاية يقول الحاج ، وكم من علاقات إنسانية خلقت بين الوفود المجتمعة، أتعلم كل يوم معنى الوطنية، أكتشف كل يوم عادات وتقاليد هذه الجهة من المغرب أو أخرى عبر ممثليهم في المخيم.. لا شئ يضاهيه فرحة إعلان ساعة الانطلاقة، شعرت بإحساس فريد ماتزال دمائي وعروقي تتذكره-اقشعر بدنه – ويقول ” لقد كنا على موعد مع التاريخ، إما تحرير البلاد، وإما الاستشهاد”. هي لحظات لن تنس ولن تمح من الذاكرة ونحن نطأ بأقدامنا أرض منطقة الطاح .. كان الانتصار لعزيمتنا وقوة إرادتنا، الطاح دفنت التاريخ الاسباني في التاسعة صباحا ، و”طنجاوة” أزالوا عنها غبار الاحتلال في الساعة العاشرة ليلا تقريبا . سألنا الحاج عبد العزيز عن النهاية والعودة، فقال بعد صمت طويل ، نعم عدنا، عدنا، لكن بدموع الفراق والابتعاد، عدنا، وقد ساهمنا في استقلال جزء من وطننا، عدنا وكلي آمال أن يكون الوطن لدى الشباب وجيل اليوم هو الأول وهو الآخر.