جريمة القتل العمد ظاهرة خطيرة، اتسعت بالمدن المغربية بشكل ملفت في الآونة الأخيرة، ففي الوقت الذي يتفق فيه الجميع بوجود صحوة دينية، وانتشار الوعي في المجتمع، توجد أماكن شبه خاصة لفئة اجتماعية من المنحرفين وجدت فيها ضالتها ومارست جرائم متنوعة ضد مواطنين أبرياء، وأفسدت علاقات الناس ، وأخلّت بالتماسك الذي بينهم وقد تضايق الكثير لكونهم أصبحوا غير مؤمنين فيما يملكون وما يعزون وحتى في حقهم في الحياة ، كما اعتبرها البعض لا تعدو أن تكون ظاهرة متفشية بين صفوف المجرمين الذين ينظرون إليها على أنها أفعال بطولية ، والواقع أنها مست الجميع، فأصبحت هذه المشكلة من أبرز المشاكل التي تعرف توسعا أكبر وربما ستتعاظم أكثر في غياب مشروع مجتمعي متكامل ، والخطير أن انتشار هذه الجرائم وتنوعها يوسع الهوة بين المجرم والمواطن ، فينمو الحقد والكراهية ويتعقد الوضع بسبب التأثير المتبادل ، فالقتل العمد أكبر الجرائم الذي يجعل المواطن حبيس هواجس التفكير في القتل واتساعه . فعندما يسمع الإنسان جريمة قتل ينتابه إحساس الخوف لأنه معني بالأمر رغم بعده عن هذا الحدث ، فالخوف من الجريمة ومن انتشارها، يجعلانه يدرك أن ذلك سيؤدي حتما إلى دخوله في محيطها ولن يسلم من تبعاتها ، ويتوالى الخوف فيجد نفسه مهووسا بأمور كثيرة تشغله عن إنجاز أعماله والتمتع بحياته كما يريد ، وأول ما يفكر فيه هو طريقة القتل ودوافعها أي قتل العمد ، يعني أن المقتول خرج ليعود بعد قضاء أغراضه سالما ، فوقع ما لم يكن في الحسبان، وتكرار نفس الجرائم لاحقا يجد هذا الإنسان نفسه متعودا لا يبالي بمثل هذه الأحداث ولا يهتم بها ، ومع ذلك يستمر هاجس الخوف الذي يعم البلاد والعباد . هذا بالنسبة للذين لا يريدون بمثل هذه الأحداث ولا يقبلون بها ، فما بالك بالأشخاص المنحرفين التائهين المتسكعين في الشوارع بلا رقيب ولا حسيب ، ولا مأوى لهم ولا من يعطف عليهم ، وقد تعرضوا لإهانات أو شعروا بالظلم وبعدم المساواة وبالإهمال وكراهية الآخرين لهم ، وهم يتمتعون بحرية كاملة في تعاطي المخدرات والخمور ليل نهار ، حاملين السلاح الأبيض يلوحون به أمام الملإ ، في غياب الزجر والأمن ، لذلك تظهر عليهم علامات العدوانية تصل إلى درجة القتل لتثبيت قدرتهم على الفعل وتأكيد الذات ، وإذا كانت جريمة القتل العمد هي أكبر الجرائم فلأن هناك جرائم دونها لا تقل خطورة من مختلف أطياف المجتمع قد تكون وراء تلك الأفعال الانتقامية . إن هذه الفئة من المجتمع كانت إلى حد قريب سوية مسالمة تطمح إلى ما يطمح إليه الجميع ، لكن قصتها مع بيئة معينة، وبرامج تربوية غير هادفة ووضعية اقتصادية هشة وفوارق اجتماعية شاسعة ، ذلك أنها لم تشعر في وقت من الأوقات باهتمام لا داخل الأسرة ولا داخل المدرسة ولا بينهما بذلك الرفق الأبوي والإداري والمراقبة التربوية والجو الترفيهي الذي يكسبها حب الجميع والعطف على الكل . فتاهت وابتليت بالمخدرات والخمور وهي في كامل قواها العقلية، ومارست مهنا شاقة وهي في عنفوان مرحلة طفولتها ، ورمتها الأسرة وهي لا تزال في أمس من يحتضنها ، ثم انحرفت ولم تكن منحرفة ، واقتتلت وقتلت ولم تكن كذلك. ولم تجد من ينقذها ولا من يرشدها ، بل ظلت مهمشة ومحرومة من أبسط الحقوق . وهكذا ابتعدت هذه الفئة عن المألوف وتحولت إلى عنصر شغب وقتل، فأصبحت عالة على المجتمع حيث اعوج سلوكها وتطورت أخلاقها في الاتجاه المعاكس، والعجيب مع ذلك أنها اندمجت في المجتمع وتآلفت معه لتفاجئه يوما ما بأفعالها الإجرامية ، فيباغت الناس فجأة بجريمة قتل في أمسية خمرية أو في واضحة النهار ، ويستمر الوضع على حاله حيث يتزايد المجرمون وتكثر الجرائم ولا من يفكر في علاجه ، فالمشكل خطير ، ولا شك أن الكل يدرك ذلك ، وهذا ما يستدعي التدخل العاجل لحماية المواطن من جهة وإيقاف الانحراف وإنقاذ ما يمكن إنقاذه . وقد لا توجد جهة مسؤولة على هذا الوضع أكثر من وزارة التربية والتعليم التي غيبت في ميثاقها مجموعة من الأسس التربوية، ونهجت سياسة الكيل بمكيالين ،أي تربية واقتصاد ، بحيث أصبح التلميذ مستهلكا للكتب المدرسية بدون قراءة ولا فائدة تعليمية واضحة مما يجعل فئة من التلاميذ تنقطع مبكرا بسبب العجز المادي وتتجه نحو الانحراف ، وتصدر الوزارة في كل سنة مذكرة لإرجاع المنقطعين والمطرودين ليؤثروا سلبا على المتمدرسين الآخرين ، ناهيك عن القرارات المستعجلة مثل مشروع الإدماج بدون مراجع والمنسوب لرجل التربية البلجيكي –غزافي- أو مدرسة النجاح المكلفة أكثر من المفيدة وكأن ذلك تم فقط لتدبير ميزانية فائضة ، لذلك فإن سبب الجريمة يتجلى بالأساس في السياسة التعليمية المنتهجة وفي البرامج المقررة والمناهج وضعف الاهتمام بالطفولة سواء في المدرسة أو خارجها ، ثم عدم تفعيل القانون من جهة أخرى، إضافة إلى قوانين حقوق الإنسان المضرة للإنسان نفسه في حالات معينة، لأن ما أوصل بعض الأشخاص لهذه الجرأة هو مجموعة من الحقوق التي تجعل المجرم في مأمن من كل خرق لحريته وكرامته ، فإذا كانت جرأة القتل تأتي لانحراف سلوكي أو لانعدام الوازع الديني فذلك ما تتحمله منظومتنا التربوية المغيبة للقيم الوطنية الهامة ، وإذا كانت الجريمة وليدة ظروف اقتصادية كالفقر والبطالة فما رفع من خطرها وأعطى لها سندا هو السلوك التربوي المكتسب من التربية في المؤسسات التعليمية حيث يتم تطوير سلوك الفرد في غياب قناعة تربوية مبنية على قاعدة الهوية والقيم الوطنية ، كغياب الاهتمام بالجانب الروحي رغم وجود مقرر محتشم . إن مخطط التربية والتعليم يجب أن يستهدف الطفل من واقعه وبيئته وقيمه ليجعل منه مواطنا صالحا وشخصية اجتماعية قوية تتعامل مع الآخر بصدق وثقة متبادلة ومتشبثة بالقيم الوطنية والدينية وتساهم في بناء الدولة والرقي بها والدفاع عنها والحفاظ على مكتسباتها واختيار الأصلح والأهم وتجنب ما لا ينفع أو يضر ، وفي ذلك تجنب الانحرافات التي تضر بالفرد والمجتمع وقد لا يكتشفها إلا الساهر على التربية وهذا ما يفرض على المربي الحذر والحيطة من التربية المستوردة التي تساهم في كثير من الانحرافات ، وخاصة عندما تنتشر "السيبة" في البلاد ويغيب الأمن ولا قدرة للمواطن على التدخل والاحتجاج . إن واضعي برامج التربية والتعليم يتحملون مسؤولية أي خلل في المنظومة التربوية التي من شأنها أن تكسب التلميذ سلوكا ما يكون سببا في انحرافه كضعف الوازع الديني لدى المتعلم الذي يتحول إلى مجرم يوما ما أو يصاب بالشذوذ الجنسي ، أو يدعو إلى الإفطار علنا في رمضان ، أو حرق جسده ، لأنه لم يتلق تكوينا دينيا ولا علم بمخاطر وتبعات الجريمة ، لذلك فإن الوضع خطير يتطلب وقفة تأمل كبيرة والعمل على بناء نظام تربوي تتحمل فيه الأسرة كامل مسؤوليتها وعقوبة انفلات ابنها خارج المحيط المدرسي ثم وزارة التعليم على أساس الوضوح في البرامج والمناهج والاقتصار على ما هو أساسي وخاصة أثناء مرحلة التعليم الأساسي ، وقد يكون الانطلاق من كون التربية علم وسلوك ومبادئ ومحافظة على قيم مهما بلغت الدراسات وتحققت النتائج ، فالتربية والتعليم يجب أن تتضمن قواعد القيم الوطنية للبلد ولا يسمح لواضعي الميثاق التربوي أن يخرجوا عن ذلك قيد أنملة ولا يخافون لوم أحد مهما بلغت التربية خارج الوطن انطلاقا من خصوصية البلد ، أما التعاون مع الغير فلا عيب والاحتراز أولى ، واستيراد منظومة تربوية خلل كبير وتربية مبتورة تنتج مواطنا مبتورا وربما هذا ما حصل في مجتمعنا حيث يلاحظ نقص الوعي وضعف التعلم وقلة التواصل وانتشار الجريمة ، فما نرى غير أطفال الشيفون المبلل وآخرون تائهين في الشوارع يتعلمون السرقة ، وهذا ربما ما يخطط له الكفار لتدمير الأمة الإسلامية . إن توفير حق الإنسان أولا ضروري لتطبيق حقوق الإنسان ، لكن في دولة لها خصوصياتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدينية تعكس صعوبة التمتع حتى بما هو ضروري للبقاء ومصارعة الحياة ، فالشغل غير متوفر ، والبطالة غير مؤدى عنها كما هو مقرر في الغرب الذي أملى علينا شروطه بعدما بنى قواعد اقتصاده على سلب مواردنا ووفر كل مستلزمات الحياة وأساسها الشغل ، وارتفع مستوى العيش إلى أعلى درجاته ففاضت الحرية والكرامة عندهم فطالبونا بالتمتع بها حتى يضمنوا تبعية اقتصادنا لهم دون أن ينسوا من حين لآخر منحنا هبة عندما يشعرون بتوعيتنا تجاه مصالحنا ، وهي هبة أقل ما يقال عنها أنها هبة مسمومة قد تحمل معها ما لا طاقة لنا به . يبدو أن ما نحن عليه الآن من برامج تربوية ومقررات وحقوق الإنسان وتشريعات مستعجلة ، كل ذلك أبان عن الفشل الكامل للميثاق التربوي، بحيث ظهرت العيوب والنتائج السلبية والعكسية ما دام انتشار الجريمة في تزايد والتعليم في تدهور والتوعية محدودة ، وما يعزز هذا تذمر الناس من كل مظاهر الحياة المرتبطة أساسا بالمنظومة التربوية التي من المنتظر أن تنتج مواطنا صالحا ، فماذا يقول المسئولون عن التربية عندما تكثر الجرائم وتتنوع وتتعدد وينخفض مستوى التعليم وتتفشى في المجتمع كل أنواع الرذيلة . وهكذا فإننا بلا شك في حاجة إلى تأسيس لمشروع تربوي قار كما بين السماء والأرض حيث قوانين منذ الأزل لم تتغير ولن تتغير وكل شيء على ما يرام وبانتظام ، سبحان خالق الكون ، ألا يمكن تطبيق نظام تربوي تعليمي قار بالبلاد بعيدا عن السياسة والتقليد والمزايدات ودعوات النقد ، والكل فيه مجاني ومضبوط بالقوانين والزجر ، ميثاق تربوي متكامل وواضح يكون قاعدة لانطلاق قاطرة التنمية من جميع جوانبها خالية من الإجرام والمجرمين ، تنسجم فيه الأمة بتكوين مواطن بمواصفات دقيقة ، مواصفات تنتقل كالإرث من هذا إلى الآخر ، تظهر فيه التربية كنظام اجتماعي تجتهد فيه المدرسة والأسرة والمجتمع المدني لتربية النشء عقليا وأخلاقيا ليتمكن من القيام بدوره في المجتمع بكامل الانسجام بين أفراده ويكون خير خلف لخير سلف . حسين سونة