لو كان غير المغرب هو من تعرض لكل هذا السيل الجارف والمتواصل والمتصاعد من التهجمات والتطاولات والاتهامات المجانية والكاذبة التي تشيب لها الولدان وترفع لها ألوية الحرب والقتال، لكان الرد قاسيا وناقضا لكل التزام بحسن الجوار وبالمعاملة بالحسنى، وأقل هذا الرد هو الرد بالمثل والمعاملة بنظير الفعل، على وجه العدل والانتصاف، ف»جزاء سيئة سيئة مثلها» كما في شق من الآية القرآنية، لكن لأن المستهدف بالإساءة والتطاول من جيرانه الأشقاء يسمى بالمملكة المغربية الشريفة العريقة النسب والتاريخ والحضارة، فإن القيادة الحكيمة لهذه المملكة أكملت قراءة الشق الثاني من الآية القرآنية الكريمة والذي فيه «فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين» فالتمست هذا الفضل العظيم والأجر الكريم، بتفويت حقها في الرد والمعاملة بالمثل والجزاء بنفس العمل، خصوصا وأن هذه القيادة الملكية الرشيدة مثقلة بالتزامات وعهود وبيعة وأخلاق وثوابت، وتحمل على عاتقها أمانة عظمى في رعاية مصالح الأمة والنأي بها عن كل ما ينغص الاستقرار والأمن والسلام في منطقتها ومحيطها، خصوصا إذا تعلق الأمر بجار شقيق تجمعنا به أواصر وروابط قوية مستمدة من تاريخ مشترك ومصاهرات مختلطة وعادات وتقاليد موحدة، بل ومصير مشترك لا يمكن أن يسير إليه بلد جار ويتخلف عنه آخر، لأن ما يضر هذا سيضر بالضرورة بذاك، وهما جسد واحد وتوأم إذا أصيب جانب منه بسوء تداعى له الجانب الآخر بالسهر والحمى، هكذا وصف قائد البلاد وملكها وضعية هذا الجسد والتوأم المغربي الجزائري في خطاب العرش لسنة 2021، ويعود في خطاب العرش لهذه السنة وفي عز التصعيد من جانب واحد بهدف تمزيق هذا الجسد التوأم، إلى التذكير بروابط المحبة والأخوة والصداقة التي تجمع الشعبين المغربي والجزائري على درب مصير مشترك، لعل الهمم المغربية الجزائرية ترتفع إلى مستوى اللحظة التاريخية والمصيرية التي نعيشها، والتي تؤهلنا متكاملين ومجتمعين للعب دورنا القوي والثابت في تأمين مصالحنا ومستقبلنا ومنطقتنا المغاربية من المؤامرات الخارجية على ثرواتها وعلى النضال التحرري لشعوبها من الهيمنة والاستغلال، فمنذ أن أدركت القوى الاستعمارية والكيانات الدخيلة أن لا قدم لها في هذه الأرض المعطاء والمجاهدة، لم تيأس من التحريض والتحريش بين إخوة الدم والنضال والكفاح. وما وصف الخطاب الملكي السامي للعلاقات المغربية الجزائرية في وضعها الحالي بأنها «مستقرة ونتطلع لأن تكون أفضل» إلا رهان على ما يجب ويفترض أن تكون عليه هذه العلاقات، وأن سياق التوتر سياق عابر وسحابة صيف لا تفسد للود والأخوة والمحبة والصداقة الدائمة والمتجذرة قضية، وهذا جواب لمن سأل عن سوء نية أو عن حسن نية عن ماذا يقع بين البلدين، فيقال له: خير إن شاء الله. رسائل الملك في الفقرة التي تحدثت عن العلاقات المغربية الجزائرية، تبرز أن مصدر الشر والسوء في هذه العلاقات لا صلة لها بتاتا بالطرف المغربي الحريص في عز التصعيد وأمام أنظار العالم على التهدئة وعلى ذكر الجزائر بكل ما يليق من حفظ للكرامة وحسن للجوار والمعاملة، وبمزيد من تكرار خطاب مد اليد للتعاون على إزالة أي عقبة في طريق ربط مستقبل البلدين بقطار التنمية والنهضة. وهذا التكرار الدائم لنفس خطاب الأخوة والمحبة واليد الممدودة إن دل فإنما يدل على أنه ثابت من ثوابت الدولة المغربية وقيمة أخلاقية وديبلوماسية لا يمكن لظرف عابر ولطرف عابث أن يزعزعها أو يجرها إلى أتون معارك خاسرة يكون الشعبان والبلدان ومصالحهما الوطنية ضحيتها، والتي يتحاشاها المغرب ويتفاداها بكل ما أوتي من حكمة وصبر ورباطة جأش وطول نفس، لأن المعطيات المتوفرة لديه أن الأيادي التي تعبث بالسلام والوئام في المنطقة هي نفسها الأيادي التي عربدت بما يكفي فيها تقسيما وتجزيئا وتحريشا واستعمارا وتقطيعا للأوصال، وأن الاستمرار في لعبة هذا التحريش والقبول به، هو في حد ذاته خدمة مجانية لقوى الاستعمار والاستغلال، والحال أن على شعوب المنطقة أن يزيدها هذا الاستغلال والاستفزاز والتحريش وتشويه التاريخ، الذي تحرض عليه قوى الهيمنة إيمانا راسخا بوحدة مصيرها وكفا عن المساس بسوء بعضها بعضا، وإصرارا على تجاوز العقبات والعراقيل والأزمات والقيود التي تحبس انطلاقة مسيرتها إلى المستقبل الواعد بتحقيق حلم الشهداء الأبرار في الوحدة والتضامن. إن الوعي المغربي الكبير والنبيل بما يتربص بالمنطقة من تدخلات غاشمة ومساع للتفتيت ومخططات الإضعاف، يجعله يقدم المرة تلو المرة يد الأخوة والصداقة مهما تعالت الأصوات المزعجة الداعية بالويل والثبور، اعتقادا منه أن الخير كل الخير في وحدة الكلمة والصف، وأن قواعد لعبة الإضعاف والهيمنة تتغير بتراكم الوعي الإيجابي بين الشعبين لمصلحتهما المشتركة التي يفرضها التاريخ والجغرافيا والمستقبل المفتوح بينهما للتكامل والتبادل. إن العناية الشديدة التي يوليها جلالة الملك في كل خطبه السامية لأولوية العلاقات المغربية الجزائرية عند تطرقه للسياسة الخارجية للبلاد، لدليل كاف للمشككين والمترددين بأن المغرب لم يغير ولم يبدل ولم يتحول عن مبادئه الخالدة في النظر إلى الجزائر على أنها سنده الشرقي وهي سنده الغربي وبدون تساندهما لن تقوم قائمة للاستقرار والسلام والأمن والأمان في المنطقة. فهل سيدرك قادة الجزائر وصناع القرار فيها أن تنكب هذا الصراط المستقيم هو زيغ هالك، وأن الذئب يأكل من الغنم القاصية، وأن الثور الأبيض أكل يوم أكل الثور الأسود كما طالعوه في الأمثال والحكايات الشعبية التي ما فتئت تذكرهم بالمصير المحزن وعاقبة السوء لكل من لم يحسن عملا وأضاع الفرص تلو الفرص لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من بين أيادي العبث والتلاعب وركوب الحماقات والمزايدات. لم يرد في فقرة العلاقات المغربية الجزائرية من الخطاب الملكي أي عتاب ولا أية مؤاخذة، وإنما متمنيات بعودة الأمور بين البلدين إلى طبيعتها وفتح الحدود بين الشعبين الجارين الشقيقين، للإشارة إلى أن طاولة الحوار واللقاءات الديبلوماسية هي المكان الطبيعي لتصفية الخلافات وحل المشاكل العالقة والتعبير عن المخاوف وتبديدها، وإبداء العتاب ورفعه، والإدلاء بوجهات النظر مهما كانت متباعدة. فهل نحلم أن يأتي يوم كما تيقن به جلالة الملك، ترفع فيه الجزائر سقف هذا الخلق الحميد والرفيع والنبيل في معاملة يد الأخوة والمحبة المغربية الممدودة بيد أخرى ممدودة إليها، أو بالأحرى بأحضان تبدد في لمح البصر ما نراه من غيوم عابرة في علاقاتنا البينية التي سيظل تمتينها وتقويتها وإصلاحها خير ضمان لاستقرار وأمن ورخاء وعزة شعبينا. نشعر ونحس في نبرة الأمل واليقين في الخطاب الملكي أن الأمر سيكون كذلك في المستقبل القريب، ومن ثمة لم يول هذا الخطاب أهمية تذكر للحديث عن أية إساءة طارئة، اللهم إلا ما كان من التأكيد المتكرر والمتواصل بأن المغرب لن يأتي منه قطعا أي سوء أو شر أو ضرر لأشقائه في الجزائر، وكيف يكون هذا الشر منه وهو الذي كان مصدر يمن وخير على الجزائر، آوى ونصر وضحى قيادة وشعبا لتعيش الجزائر حرة أبية مستقلة، وجعل أرضه وترابه منبتا للأحرار، وملجأ ومنطلقا للثوار.