لقد قدم جلالة الملك نصره الله تشخيصا موضوعيا حول واقع التعليم في المغرب. لكن علينا أن نكون موضوعيين في تقييم خطاب جلالة الملك. فليس من الضروري في شيء أن يكون الانسان مغربي متضلعا في نظم التربية والتعليم، أو خبيرا متمرسا بها، حتى يكون بمقدوره تكوين رأي خاص، أو استخلاص حقائق ثابتة حول ما آل إليه واقع التعليم بالمغرب، بعد عقود جعلت منه كما من المغرب بشرا وحجرا، حقل تجارب بامتياز. هذه الحقائق تثبت لنا جميعا أن إصلاح التعليم بالمغرب هو من سابع المستحيلات، بل بالعكس سيبقى التعليم آلة خارقة لتفريخ الجهلة والبطالة والفشل. وهناك براهين قاطعة على صحة هذا الطرح ولكن أهمها هي كالآتي : البرهان الأول : إن التعليم كان وسيبقى أداة حكامة سياسية، أمنية واجتماعية بامتياز، حيث يتم توظيفه من طرف النظام بكل مستوياته، بغرض خلق تراتبية اجتماعية تعيد انتاج السائد المهيمن، دونما أن يطاول ذلك طبيعة نمط الحكم والسلطة، أو يطعن في نسقيته، أو يفرز من بين ظهرانه وعيا، قد يكون من شأنه إذا لم يكن تقويض ذات النمط، فعلى الأقل المزايدة على مرجعيته الأحادية، وفلسلفته في الفعل الفرداني المطلق. البرهان الثاني : إن الاختيارات الأساسية في أي إصلاح لابد أن تتخذ باستقلال تام عن أي ارتهان كيف ما كان، وأن تستحضر مصلحة البلد ولا شيء آخر، حتى ولو كان ذلك سيمس صناع القرار بهذا البلد الحبيب. البرهان الثالث : إن مضامين التشخيص الذي قدمه جلالة الملك نصره الله حول معضلة التعليم ليست بمسألة جديدة، فالغادي والبادي يعرف هذا الواقع. لقد تم اعتبار قضية التربية والتكوين كثاني أهم قضية بعد قضية الصحراء المغربية. وها قد تم المجيء بالعديد من البرامج الاصلاحية لعل أهمها الميثاق الوطني للتربية والتكوين. فرغم أن البرنامج كان طموحا في أهدافه، فإنه على مستوى التنفيذ والتراكم في التنفيذ والمتابعة للتنفيذ ونجاعة التنفيذ، وتوفير الكلفة المالية له وصرفها في وقتها وبفعالية وللأهداف التي وضعت لها هذه كلها قضايا تجعلنا لا نثق في أي إصلاح مرتقب، ناهيك عن قضية الرؤية السياسية والمسؤولية السياسية التي أشير لها سابقا. البرهان الرابع : هل يمكننا اصلاح نظام التربية والتكوين بأناس مهزومين ماديا ومعنويا؟ كيف يعقل أن يقدر مدرس مشرف على 65 سنة على تدريس أقسام مكتظة؟ كيف يعقل أن يتقدم التعليم المغربي بمدرسين لم تنصفهم الوزارة رغم امتلاكهم الشواهد العليا خاصة الإجهاز على حقهم في الترقية ؟ كيف يمكن إصلاح نظام التربية والتكوين في ظل المعادلة الرياضية : المدرس = رقم تأجير + حارس أمني للتلاميذ كيف يمكن إصلاح التعليم بوسائل وطرق بدائية في عصر السرعة والمعلوميات؟ لكن بالمقابل، العديد من المتتبعين للشأن التعليمي بالمغرب يرون أننا نشخص وننتقد بقساوة واقعنا التعليمي المشلول بدءا بأعلى سلطة بالبلاد جلالة الملك نصره الله مرورا بالمسؤولين الحكوميين، ثم الشغيلة التعليمية والفرقاء الاجتماعيين، وانتهاء بأفراد الشعب المغربي. لكننا في الوقت نفسه لا نقدم حلولا عملية وواقعية لمعضلة التعليم في المغرب. في هذه النقطة بالذات، هناك من يتهم الرؤية السوداوية حول التعليم المغربي باستعمال " الشونطاج" في تحليل واقعنا التعليمي المشلول، من منظور أنه إذا بقي التعليم المغربي على حاله متأزما فإن الغلبة لأصحاب هذه الرؤية السوداوية، أما إذا تقدم فإن ذلك ما يريده الجميع. وحتى نكون محايدين في مسألة إصلاح التعليم خاصة في الشق المتعلق بتقديم مقترحات عملية حول إصلاح المنظومة التربوية، لن ندخر جهدا في إعطاء أهم المقترحات التي يمكن أن تأتي من فم من لهم غيرة على تعليمنا المنكوب. ففي نظري المتواضع جدا، هذه هي المفاتيح العشرة العملية لإصلاح التعليم بالمغرب بعد الإرادة السياسية : أولا : تخفيض ساعات العمل الأسبوعية بثلاث ساعات. ثانيا : الحد من الاكتظاظ ( ما بين 25 و30 تلميذ في الفصل كحد أقصى) ثالثا : النجاح بناء على الاستحقاق ( 20/10) وارجاع الاعتبار لمجالس الأقسام. رابعا : تقليص المقررات الدراسية إلى النصف والاهتمام بالشعب التكنولوجية. الاهتمام بالأنشطة الموازية كالمسرح والموسيقى والمسابقات الثقافية عبر خلق فضاءات داخل المدرسة تعنى بهذه الانشطة. خلق شراكات بين المؤسسة التعليمية والاندية التربوية الموجودة على صعيد النيابة أو الاقليم ( نوادي للشطرنج – نوادي الرياضات خاصة السباحة وكرة القدم وكرة السلة – نوادي البيئة – نوادي علمية – الكشفية الحسنية – … ) خامسا : اعتماد اللغة الفرنسية في تدريس الرياضيات والعلوم بقطاع التعليم المدرسي، مع الاهتمام والانفتاح على اللغة الانجليزية ( لغة العلوم والتكنولوجيا ). سادسا : تجاوز الطرق التقليدية في مجال التدريس(السبورة والطباشير) واستعمال الوسائل الحديثة في التدريس ( السبورة التفاعلية – ايباد – الحواسيب – السبورات البيضاء – البرامج المعلوماتية – DATASHOW… ) الاهتمام بالبنية التحتية للمؤسسات التعليمية ( تشجير – واد حار – ماء شروب مطاعم – مقاعد جيدة – كاميرات المراقبة – أدوات جديدة للمختبرات – …) سابعا : ضمان تكوين فعال للأطر الإدارية وهيئة التدريس والتفتيش، يراعي المتغيرات. كذلك توسيع العرض التربوي خاصة في سلكي التبريز والتفتيش، والسماح للأساتذة بمتابعة دراستهم في مختلف التخصصات، دون قيد أو شرط. وأخيرا إحداث تكوينات عن بعد ( تبريز – إجازة – ماستر – دكتوراه ) وفي شتى التخصصات، تماما كما هو معمول به في كندا و بريطانيا والولايات المتحدةالأمريكية. ثامنا : احداث شعب وتكوينات مهنية يتم من خلالها محاربة الهدر المدرسي وفي نفس الوقت تأهيل التلاميذ للحياة العملية والذين لا يستطيعون مسايرة الإيقاعات المدرسية تاسعا : ارجاع الهيبة للمدرس والاطر الإدارية عن طريق الاهتمام بالأوضاع المادية والمعنوية لجميع الفئات دون استثناء، ومنح صلاحيات واسعة للإدارة المدرسية من أجل اتخاذ الاجراءات اللازمة في حق كل من خولت له نفسه انتهاك حرمة المدرسة أو استعمال العنف أو الشطط في استعمال السلطة، إضافة إلى تزويد المؤسسات التعليمية بالعدد الكافي من عناصر الأمن. عاشرا : تجاوز اشكالية المراقبة المستمرة بسلك البكالوريا ، وضمانا لمبدأ تفاكؤ الفرص بين المترشحين للبكالوريا يمكن تبني المقاربات التالية : أ)- بالنسبة للشعب العلمية والتقنية، يجب حذف المواد التي لن يمتحن فيها المترشح للبكالوريا. فمثلا نجد المؤسسات الخاصة التي تحقق نتائج ممتازة على مستوى البكالوريا لا تقوم في الدورة الثانية بتدريس مواد الاسلاميات والعربية وتقلص من حصص اللغة الفرنسية وتعوض ذلك بالمواد التي سيمتحن فيها المترشح. لذا يجب حذف هذه المواد الثانوية في السنة الختامية لسلك البكالوريا. نفس الأمر بالنسبة للشعب الأدبية، فمثلا يجب حذف الرياضيات لأقسام البكالوريا الأدبية. ب)- تغيير في المناهج التعليمية المعتمدة. فمقررات سلك البكالوريا طويلة جدا ولا تمكن التلميذ من استيعاب الكفايات الضرورية لولوج الدراسات العليا. وكمثال بسيط للتوضيح : في الرياضيات والفيزياء مثلا، هناك مقررات مشتركة بين المغرب وفرنسا على مستوى الأقسام التحضيرية لولوج المدارس العليا للهندسة كالبوليتكنيك ومدارس المعادن والقناطر والمدارس المركزية وكذلك نفس الأمر على مستوى الجامعات نقارن مقرر الرياضيات للسلك الثانوي التأهيلي بالمغرب وبفرنسا نجد أن محتوى مقرر الرياضيات بالمغرب بالثانوي التأهيلي هو ضعف محتوى مقرر الرياضيات بالسلك الثانوي التأهيلي بفرنسا رغم أن الهدف واحد هو بلوغ كبريات مدارس الهندسة وأكبر الجامعات ومؤسسات الاقتصاد. هذا مع العلم أن ذلك يتم وفق نفس الحيز الزمني. ج)- اعتماد نقط الامتحان الوطني والجهوي في البكالوريا لجميع الشعب المعيار الوحيد لاجتياز المباريات ذات الاستقطاب المحدود ( تماما كما هو معمول بمسألة القبول بالأقسام التحضيرية) ك : كليات الطب والصيدلة – ENSA – ENSAM –ENCG – APESA – ENA – ENBA – … ونفس الشيء لبعض التخصصات الجامعية. في هذا السياق، تشير الاحصائيات الرسمية أن من بين 100 تلميذ يلجون المدرسة، فقط 13 تلميذ يحصل على البكالوريا ومع ذلك قد تجد تلميذا حصل على ميزة حسن في شعبة علمية ومع ذلك يكون مصيره غير ما كان يطمح إليه. لهذا، فالطموح له دور فعال في انتاج الرغبة لدى التلميذ. لدى فكل تلميذ حصل على ميزة حسن أو أكثر يجب أن يجد مكانه في إحدى المؤسسات التي يرغب في مواصلة الدراسة بها ثم إجراء مقابلة شفوية لتحديد التخصص المناسب لهذا التلميذ. ختاما، إن الذين خربوا التعليم بالمغرب لم يعمدوا إلى ذلك من تلقاء أنفسهم، بل كانوا أدوات فعل فاعل لم يترتب عن قراراته إلا الفشل في أبشع صوره، والمآسي في أقصى تمظهراتها، لن يستطيع المعاربة الفكاك منها مجتمعة، إلا إذا اجتمعت الانس والجان و … وشتان أن تجتمع. والسلام عليكم ورحته تعالى وبركاته. المفاتيح العشرة العملية لإصلاح التعليم بالمغرب لو توفرت الإرادة السياسية