من منظور إسلامي الحزن ليس من صفات الجسد بل هو من أحوال النفس والروح، ومن المشاعر التي ركبها الله في الإنسان وتعرض للقلب مثل الفرح و الحب و البغض و الرضى و السخط و الشهوة و النفرة، فالحزن من الأمور التي تحصل بغير اختيار، والإنسان في الحياة الدنيا معرض له كما هو معرض لسائر المصائب التي تجري عليه بغير اختياره. فما هو مفهوم الحزن إذن؟ وكيف نظرت إليه الشريعة، بمعنى ما هو حكمه الشرعي؟ ومتى يكون مذموما ومتى يكون ممدوحا؟ وما هي أسبابه وآثاره على صحة الإنسان؟. مفهوم الحزن: الحاء والزاء والنون أصلٌ واحد، وهو خشونة الشيء وشِدّةٌ فيه. فمن ذلكَ الحَزْن، وهو ما غلُظ من الأرض[1]. وفي « الحَزَن » لغتان؛ الفتح، والضم، والحَزَنُ سُمِّي حَزَناً لُحزُونةِ الوقتِ على صاحبه، أي خشونته وغلظه عليه[2]. والحزن غلظ الهم لفوت المرغوب في الماضي والحال، وضده السرور والفرح، أوغمّ يصيب النفس لرؤية أو سماع ما يسوءه ويكرهه. جاء في كتاب الكليات: "وأما الحزن فهو غم يلحق من فوات نافع أوحصول ضار، وفي " أنوار التنزيل " : الخوف علة المتوقع، والحزن علة الواقع"[3]. وقيل: "هو شدة الأسف البالغة حد الكآبة والانكسار. والوهن والحزن حالتان للنفس تنشآن عن اعتقاد الخيبة والرزء فيترتب عليهما الاستسلام وترك المقاومة"[4]. وقيل أيضا: "هو ألم نفسى يصيب الإنسان عند فقد ما يحب أو عدم إدراكه، أو عند نزول أمر يجعل النفس فى هم وقلق"[5]. ويرتبط الحزن ارتباط وثيقا بين المشاعر السلبية الأخرى فيتقاطع معها ويتداخل، أو يكون هو سببا فيها أو ناتجا عنها، من الخوف والكآبة والكمد والبث والأسف والكربة والوجد والجزع والأسى واللهف. فالكآبة: هي سوء الحال والانكسار من الحزن، والكمد: هو الحزن المكتوم، والكربة: هي أشد من الحزن والغم، ويقال : هوالحزن الذي يذيب القلب أي: يحيره ويخرجه عن أعمال الأعضاء، وربما أهلك النفس، والوجد: الحب الذي يتبعه الحزن، وأكثر ما يستعمل في الحزن، والجزع ، بفتحتين : حزن يصرف الإنسان عما هو بصدده ويقطعه عنه؛ وهو أبلغ من الحزن لأن الحزن عام، والأسف: حزن مع غضب لقوله تعالى: ( ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا(، سئل ابن عباس عن الحزن والغضب فقال :مخرجهما واحد واللفظ مختلف، فمن نازع من يقوى عليه أظهر غيظا وغضبا، ومن نازع من لا يقوى عليه أظهر حزنا وجزعا، والأسى واللهف: حزن على الشيء الذي يفوت، والكمد: حزن لا يستطاع إمضاؤه، والبث: أشد الحزن، الوله ، محركة الحزن، أو ذهاب العقل حزناً.[6] الحزن بين المدح والذم: الحزن ليس من الأمور المطلوبة شرعا، وإن كان يقع بالإنسان من غير اختياره، فهو مطالب بدفعه ومقاومته، قال ابن القيم رحمه الله: " منزلة الحزن ليست من المنازل المطلوبة ولا المأمور بنزولها، وإن كان لا بد للسالك من نزولها، ولم يأت الحزن في القرآن إلا منهيا عنه أو منفيا فالمنهي عنه: كقوله تعالى: {ولا تهنوا ولا تحزنوا} [آل عمران : 139]، وقوله: {ولا تحزن عليهم}[النحل: 127] فى غير موضع، وقوله: {لا تحزن إن الله معنا} [التوبه:40]، والمنفي كقوله:{فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون} [البقرة: 38]،...وقد استعاذ منه النبي فقال: (اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن...)"[7]. وإن كان الحزن مصيبة من الله يصيب بها العبد يكفر بها من سيئاته، فلا يدل ذلك على أنه مقام ينبغي طلبه واستيطانه. ونهي القرآن الكريم عن الحزن، ليس نهيا عنه لذاته، وإنما هو نهي في الحقيقة عن التلبس بالأسباب الموصلة إليه، فترك الحزن باجتناب أسبابه ومثيراته مطلوب شرعا، قال الإمام الزمخشري رحمه الله: "فإن قلت : فلا أحد يملك نفسه عند مضرة تنزل به، ولا عند منفعة ينالها أن لا يحزن ولا يفرح. قلت: المراد: الحزن المخرج إلى ما يذهل صاحبه عن الصبر، والتسليم لأمر الله تعالى، ورجاء ثواب الصابرين، والفرح المطغي الملهي عن الشكر. فأما الحزن الذي لا يكاد الإنسان يخلو منه مع الاستسلام والسرور بنعمة الله والاعتداد بها مع الشكر، فلا بأس به"[8]. إذن فلما كان الحزن من الأمر المكدر وهو ليس باختياري، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فلا تلمني فيما لا أملك"، كان النهي منصبا على سببه من مثل توقع المكروه والتفكر في وحشة الفراق. جاء في كتاب المفردات في غريب القرآن: " فالحزن ليس يحصل بالاختيار ولكن النهي في الحقيقة إنما هو عن تعاطي ما يورث الحزن واكتسابه وإلى معنى ذلك أشار الشاعر بقوله : من سره أن لا يرى ما يسوءه ** فلا يتخذ شيئا يبالي له فقدا وأيضا يجب للإنسان أن يتصور ما عليه جبلت الدنيا حتى إذا ما بغتته نائبة لم يكترث بها لمعرفته إياها، ويجب عليه أن يروض نفسه على تحمل صغار النوب حتى يتوصل بها إلى تحمل كبارها"[9]. والقصد من هذا النهي: "تعليم المسلمين الصبر على ما يغلبهم من مصائب الحوادث لكيلا تفل عزائمهم ولا يهنوا ولا يلهيهم الحزن عن مهمات أمورهم وتدبير شؤونهم، كما قال تعالى في [سورة الحديد:23] {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} [10]. فالحزن مع الجزع وعدم الرضا مذموم شرعا، أما الحزن مع الإيمان والتسليم والرضا بالقضاء والقدر ممدوح ومستحب شرعا، "ولذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الدقة حينما قال: (إن العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنّا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون)، انظر إلى الإيمان وهو يستقبل الأحداث... العين تدمع، ولا يكون القلب قاسيا مثل الحجر، لكن فيه حنان، والقلب يخشع لله، مقدرا حكمته وإرادته... والله سبحانه وتعالى لا يريدنا أن نستقبل الأحداث بالحزن وحده، ولكن بالحزن مع الإيمان، فالله لا يمنعك أن تحزن، ولكن عليك ألا تفصل الحدث عن مجريه وحكمته فيه... ولذلك حين تذهب إلى طبيب العظام... فيكسر لك عظامك لكي يصلحها، هل يفعل لك خيرا أو شرا؟ طبعا يفعل لك خيرا، وإن كان ذلك يؤلمك..."[11] . وقد نهى الله عز وجل رسوله عن الحزن في مواضع كثيرة من القرآن الكريم، معلمّا ومسليّا له، ومخاطبا بذلك المؤمنين أيضا، إذ خطاب النبي صلى الله عليه وسلم خطاب لأمته، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} [المائدة:41] ،{و لا تحزنْ عليهم ولا تكُ في ضَيْقٍ مما يمكُرون } [النحل:127]، {و لا تحزنْ عليهم ولا تكنْ في ضَيْقٍ ممّا يمكُرون} [النمل:70]،{و لا يحْزُنْكَ قولُهُم إنَّ العزّةَ للهِ جميعا} [يونس:65]{ومنْ كفَرَ فلا يَحْزُنكَ كُفْرُهُ}[لقمان:23]،{فلا يَحْزُنكَ قولُهُم إنّا نعلَمُ ما يُسِرّون وما يُعلِنون} [يس:76]. فتضمنت الآيات الكريمات: استحباب ترك الحزن باجتناب أسبابه ومثيراته، وحرمة الحزن والتأسف على الفاسقين والظالمين إذا حلت بهم العقوبة الإِلهية جزاء فسقهم[12]. وقال تعالى: {فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ} [الأعراف: 93]،"أي فكيف أحزن على من لا يستحق أن يحزن عليه، ونبّه على العلة التي لا تبعث على الحزن وهي الكفر، إذ هو أعظم ما يعادى به المؤمن"[13]. ومع النهي عن الإسترسال في الحزن، وذمّ الحزن الذي يؤدي إلى الجزع المنافي للصبر، لما يؤدي إليه من تأثيرات على نفسية الإنسان وصحته، فمتى يكون هذا الحزن ممدوحا ومطلوبا إذن ؟. إن الحزن الممدوحَ شرعا هو الحزن على ما فات من طاعة الله، والفرح بنعمه، والشكر عليها والتواضع، فهذا المندوب إليه، قال ابن عباس رضي الله عنه: ليس أحد إلا يحزن ويفرح، ولكن من أصابته مصيبة فجعلها صبراً، ومن أصاب خيراً جعله شكراً، فهذا هو المحمود[14]. فمن الحزن على فوات الطاعات، ما ذكره القرآن الكريم عن المؤمنين الذين رجعوا إلى ديارهم وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون من أجل تجهيز جيش العسرة في غزوة تبوك، أو لا يجدون ما يركبون عليه، قال تعالى: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة: 91، 92]، فالحزن في هذه المواقف آكد، ويجازي الله عنه بأن يكتب للمحزون على فوات الطاعة بسسب الحرج أجر تلك الطاعة، ومن ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في هؤلاء المؤمنين: "إن بالمدينة أقواما ما قطعتم واديا، ولا سرتم مسيرًا إلا وهم معكم" . قالوا: وهم بالمدينة؟ قال: "نعم، حبسهم العذر"[15]. ومما ذكره القرآن أيضا من الحزن الممدوح، حزن أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين كان في الغار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، خوفا عليه من أن يراه الأعداء، قال تعالى: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [التوبة: 40] وليس حزنه ؛ أي أبا بكر الصديق رضي الله عنه، من جهة الشدة والحيرة، بل لتجويزه وصول الضرر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإليه، وما كان الخبر أتاه بأن الرسول كان معصوماً من القوم محروساً منهم، حتى قال له الرسول لا تحزن، فسكن إلى ذلك،... وفي ذلك جواز الحزن والخوف عليه[16]. ومن المقامات التي يمدح فيها الحزن والبكاء، مقام قراءة القرآن الكريم، إذ من آداب التّالي، أن يلتزم الخشوع عند تلاوته، وأن يظهر الحزن، وأن يبكي أو يتباكي إن لم يستطيع البكاء"، وورد في الحديث: "إن القرآن نزل بحزن فإذا قرأتموه فتحازنوا "[17]، وفي رواية فتباكوا. والحزن سبب البكاء الكثير ؛ على أن البكاء من الحزن أمر جبلي، وقد ذكر النووي رحمه الله في "التبيان" فصلا في: البكاء عند قراءة القرآن، وبين السبيل الموصلة إلى هذه الفضيلة العظيمة، فقال: "البكاء في حال القراءة هو صفة العارفين وشعار عباد الله الصالحين، قال الله تعالى:{وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 109]، وقد وردت فيه أحاديث كثيرة وآثار السلف، فمن ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم: (اقرؤوا القرآن وابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا)، وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنه صلى بالجماعة الصبح فقرأ سورة يوسف فبكى حتى سالت دموعه على ترقوته، وفي رواية: أنه كان في صلاة العشاء، فدل على تكرره منه، وفي رواية: أنه بكى حتى سمعوا بكاءه من وراء الصفوف"[18]. ومن مقامات الحزن أيضا، الحزن عند محاسبة النفس، برؤية من هم أفضل منها حالا في العبادة والتقرب إلى الله عز وجل، يقول "عبد الله بن المبارك" وهو من العلماء:"إذا نظرت إلى "الفضيل بن عياض" جدّد لي الحزن، ومقتُّ نفسي ثم بكى"[19]. ومن الحزن أيضا الحزن على فوات أناس صالحين كالعلماء والزهاد والمجاهدين، فعن عائشة قالت: "لما قتل زيد بن حارثة، وجعفر، وعبد الله بن رواحة، جلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فى المسجد يعرف فى وجهه الحزن..."[20]. أسباب الحزن وآثاره: ذكر القرآن الكريم الكثير من أسباب الحزن التي تعرف ضمنا - بالمعنى العكسي- أو بمفهوم المخالفة، من الآيات التي نفى الله فيها الحزن عن المؤمنين، من ذلك: وسوسة الشيطان، واقتراف الذنوب والمعاصي، وفراق الأحباب وموتهم، والخوف من يوم القيامة والحساب، وكلام الناس وأحاديثهم، والاحساس بالاهانة والذل، وسوء الظن، وضعف الايمان، وكثرة الشكوى، والبعد عن الله وعدم الاستقرار، والشعور بالهزيمة والانكسار والعجز، وفوات الفرص والندم علي الماضي وعدم الرضا عن حالك في الحاضر، والاضطراب وعدم الاستقرار في الحياة، والطرد من الوطن أو المسكن أو العمل والتهديد وتوقع حدوث الشر، والوحدة والانفراد بالنفس، والفقر والقلق علي الرزق...وغيرها من الأسباب، والتي تجتمع في الابتعاد عن هدى الله عز وجل، قال تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 38]. قال العز ابن عبد السلام رحمه الله في ذكر بعض أسباب الحزن: "...خوف النار، أو حزن الموت، أو تعب الدنيا وهمومها، أو حزن الخبز ، أو حزن الظالم يوم القيامة لما يشاهد من سوء حاله، أو الجوع، أو خوف السلطان، أو طلب المعاش، أو حزن الطعام مأثور"[21]. وللحزن آثار على نفسية الإنسان وصحته، ألا ترى أن سيدنا يعقوب عليه السلام ابيضت عيناه من الحزن بكاء على ابنه يوسف عليه السلام، قال تعالى: {وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} [يوسف: 84]، قال الطاهر بن عاشور رحمه الله في تفسير الآية: "...والحزن سبب البكاء الكثير الذي هو سبب ابيضاض العينين. وعندي أن ابيضاض العينين كناية عن عدم الإبصار، كما قال الحارث بن حلزة: قبل ما اليوم بيضت بعيون *** الناس فيها تغيض وإباء وأن الحزن هو السبب لعدم الإبصار كما هو الظاهر، فإن توالي إحساس الحزن على الدماغ قد أفضى إلى تعطيل عمل عصب الإبصار..."[22]. كيف يدفع فضول الحزن؟ قال الإمام القشيري في الرسالة: "...والنجاة من بحر الحزن في ركوب سفينة الرضا"[23] ، فالرضا بقدر الله وقضائه والتسليم لأمره فيما يصيب الإنسان من هم أو غم أو نصب أو وصب، أو فوات أمر مرغوب أو فقد شخص محبوب، هو عنوان الإيمان الذي جعله الله عز وجل سبيل الفوز بالنفس المطمئنة، والدخول إلى الجنة. ولدفع فضول الحزن يقول الإمام ابن الجوزي في كتابه "الطب الروحاني":" فإن كان المحزن عليه لا يمكن استدراكه لم ينفع الحزن، وإن كان دينا فينبغي أن يقاومه برجاء الفضل والرحمن ليعتدل الحال، فأما إذا كان الحزن لأجل الدنيا وما فات منها فذلك الخسران المبين، فليدفعه العاقل عن نفسه، وأقوى علاجه أن يعلم أنه لا يرد فائتا وإنما يضم إلى المصيبة فتصير اثنتين، والمصيبة ينبغي أن تخفف عن القلب وتدفع، فإذا استعمل الحزن والجزع زادت ثقلا، قال ابن عمرو: إذا استأثر الله بشيء فالهَ عنه ثم في الخلف عن الفائت ما يسلي، فإن عدم ما يسلي، اجتهدَ في صرف ذلك عن قلبه، وليعلم أن الداعي إلى الحزن الهوى، لا العقل، لأن العقل لا يدعو إلى ما لا ينفع، وليعلم أنه سيسلو بعد حين، فليجتهد في تقديم المؤخر، وليرتح ما بين الزمانين، ومما يمحق الحزن العلم بأنه لا يفيد، والإيمان بالثواب، ويذكر من أصابه أكثر من مصيبته"[24]. وقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نلتجأ إلى الله بالدعاء برفع الهم والحزن ففي الحديث الصحيح قال صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أعوذُ بكَ من الهمِّ والحزنِ والعجزِ والكسلِ، والبخلِ والجبنِ وضلعِ الدَّين، وغلبةِ الرجالِ)[25]. وقد كان عليه السلام يكثر من هذا الدعاء ولا يدعه ويعلمه أصحابه، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:" أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي طلحة التمس غلاما من غلمانكم يخدمني حتى أخرج إلى خيبر فخرج بي أبو طلحة مردفي وأنا غلام راهقت الحلم فكنت أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل فكنت أسمعه كثيرا يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل والبخل والجبن وضلع الدين وغلبة الرجال"[26] "والإنسان إذا كان حزينا فيما مضى، مهتما لما يستقبل، فإنه يتنكد عيشه، لكن إذا كان لا يهتم إلا بحاضره، ويستعد لمستقبله على الوجه الذي أمر به، كان ذلك من طمأنينته فكان الرسول صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من الهم والحزن"[27] ، ويعلمه الصحابة رضوان الله عليهم، ويأمرهم بملازمته. فنسأل الله عز وجل أن يعيذنا من الهم والحزن، ويرزقنا النفس المطمئنة الآمنة من الخوف و الحزن فى الدنيا ويوم القيامة. الهوامش: 1. معجم مقاييس اللغة لابن فارس (2/ 54) 2. تفسير القشيري (6/ 345) 3. كتاب الكليات (ص: 428) 4. التحرير والتنوير (3/ 228) 5. الوسيط لسيد طنطاوي (ص: 748) 6. انظر معاني هذه المفردات في كتاب "الكليات". 7. مدارج السالكين (1/ 506) 8. المفردات في غريب القرآن (ص: 116) 1. البحر المحيط (10/ 239) 10. التحرير والتنوير (28/ 251) 11. تفسير الشعراوي (ص: 149) 12. أيسر التفاسير للجزائري (1/ 343) 13. البحر المحيط (5/ 412) 14. البحر المحيط (10/ 239) 15. صحيح البخاري برقم (2839) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه وصحيح مسلم برقم (1911) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه. 16. أحكام القرآن للكيا الهراسى (3/ 67). 1. أخرجه أبو يعلى وأبو نعيم في الحلية من حديث ابن عمر بسند ضعيف، تخريج أحاديث الإحياء (1/ 226). 18. التبيان في آداب حملة القرآن (ص: 86). 19. نزهة الفضلاء (ص:778). 20. سنن أبى داود (3/ 160). 21. تفسير ابن عبد السلام (5/ 125) 1. التحرير والتنوير (12/ 108) 23. تفسير القشيري (4/ 126) 24. الطب الروحاني لابن الجوزي، (ص:40-41) 25. أخرجه البخاري ومسلم والنسائي وأبو داوود والترمذي وأحمد. 26. صحيح البخاري (10/ 21) 27. شرح رياض الصالحين (ص: 1693) الدكتور يوسف الحزيمري