بين الوراثة والبيئة إنه السمة المسؤولة عن صنع حضارة الإنسان، ولذلك فكلما ارتفع مستوى هذه الحضارة، وزاد تعقيدها، احتاج الفرد لمزيد من الذكاء لتحسين التعامل مع ظروف العصر. ونظرا لأهمية هذه السمة الإنسانية، كانت محط اهتمام العلماء والباحثين والفلاسفة والمفكرين، فتساءلوا ما هي طبيعة الذكاء؟ وما هي جذوره التي يرجع إليها؟ وهل يعد سمة.. وراثية أم مكتسبة. بعبارة أخرى ما هي العوامل التي تؤثر في نموه ؟ وهل هو سمة أم قدرة بسيطة أم معقدة؟ كما تساءلوا عن نوعية العلاقة التي تربطه بغيره من السمات الإنسانية الأخرى، وبعبارة ثالثة هل الذكاء قدرة مستقلة تمام الاستقلال عن غيره من القدرات والسمات؟ وعلى أي نحو يتوزع الذكاء بين أفراد المجتمع؟ هل الغالبية أذكياء أم أغبياء؟ وهل يؤثر ذكاء الفرد في سلوكه، وعلى أي نحو يتم هذا التأثير ؟ وهل يختلف الذكاء باختلاف سن الفرد؟ ومن الأمور التي أثارت الاهتمام حتى الآن مسألة الفروق الجنسية في الذكاء، بمعنى أيهما أكثر ذكاء: الذكر أم الأنثى ؟ وكذلك أثير موضوع الفروق السلالية في الذكاء وأدت إثارة هذا الموضوع إلى نشأة كثير من الجدل نظرا لارتباط هذه المسألة بالتعصب العنصري، واتجاه الرجل الأبيض نحو وصف غيره من السلالات كالزنوج مثلا بانخفاض الذكاء، ليتخذ من ذلك ذريعة لإحكام سيطرته على الزنوج أو الأفارقة وتساءل الباحثون عن مدى تأثير الذكاء في التحصيل الأكاديمي، كما تساءلوا عن السن التي يتوقف عندها نمو الذكاء.. إنه السمة التي يباهي بها من يمتلك حظا وافرا منها، وهي التي تعتمد عليها اعتمادا كبيرا عملية الاستيعاب والتحصيل – والاستذكار الدراسي، ولذلك كان الاهتمام بها لا يعرف الفتور، وأصبح من المستطاع تعريف الذكاء تعريفا دقيقا من ناحية وقياسه قياسا كميا محددا. ومن نتائج تلك المعرفة أنه أصبح في المستطاع التنبؤ بمدى نجاح الطالب في التحصيل الدراسي المستقبلي على ضوء معرفتنا بكم ما يمتلك من ذكاء. ومن التعاريف الشائعة عن الذكاء: ان الذكاء هو ما تقيسه اختبارات الذكاء. ويعرف هذا التعريف بأنه التعريف الإجرائي للذكاء، وهو التعريف العلمي القائم على أساس السمات والقدرات التي تبدو واضحة في سلوك الفرد الذكي. ويختلف مثل هذا التعريف عن التعاريف الفلسفية أو العامة أو الغامضة أو المبهمة، كأن تقول أن الذكاء هبة أو فطرة. ويقودنا هذا التحليل إلى التساؤل – وما الذي تقيسه إذن مقاييس الذكاء؟ ويبتعد مثل هذا التعريف الإجرائي عن الصعوبات التي تواجه هذا المفهوم من حيث كونه فطريا أو وراثيا، أو انه قدرة واحدة أو عدة قدرات متشابكة، وما هي ماهيته أو كنهه ومادته الأولى. تتضمن اختبارات الذكاء بعض الأسئلة أو المواقف أو الأعمال التي نواجه بها الفرد ونطلب منه حلها، كحل بعض المشكلات الرياضية، أو إدراك العلاقات واستخدام الرموز وفهم المواقف. يواجه الفرد بسلسلة من هذه المواقف المقننة التي يحتاج حلها إلى استخدام ذهن الفرد. وتقارن استجابات الفرد على هذه السلسلة باستجابات أشخاص آخرين سبق لهم اداء هذه الأعمال، وبالتالي نتعرف على مستواه بالنسبة لهؤلاء الذين سبق لهم القيام بنفس الأداء وتحت نفس الظروف، والذين يشترط فيهم أن يكونوا على درجة كبيرة من الشبه معه من حيث اتفاق السن والجنس والمستوى التعليمي والثقافي والطبقة الاجتماعية والسلالة. وكثيرا ما تساءل العلماء، هل الذكاء وراثي أم مكتسب ؟ بعبارة أخرى هل يتحدد كم ما يملك الفرد من ذكاء عن طريق العوامل الوراثية التي تنتقل إليه عن طريق المورثات أو ناقلات الوراثة من الآباء والأجداد أم أن التغذية والتربية والمعاملات التي يلقاها الطفل والخبرات التي يمر بها، والأمراض التي تصيبه. إلخ تؤثر في نمو ذكائه ؟ فإذا كان الوضع الوراثي هو المعبر عن الحقيقة في هذا المبحث فإننا نقف مكتوفي الأيدي أمام ما يملك الطفل من ذكاء ولا نستطيع تنميته. وإذا صح الاتجاه البيئوي فإن الآفاق تفتح أمامنا لتحسين حال من حرمتهم الطبيعة من وفرة هذه القدرة الثمينة بل إننا نكون أكثر طموحا ونعمل على زيادة ذكاء مرتفعي الذكاء أيضا تحقيقا لمزيد من سعادة البشرية وانتصاراتها ومنجزاتها ومخترعاتها. وإذا كان الأمر كذلك، فإننا نستطيع أن نضمن تحسين ذكاء الأجيال المقبلة بصورة مطردة جيلا بعد جيل. ويتبع ذلك بالضرورة القضاء على الظروف أو العوامل التي من شأنها أن تقلل من ذكاء الأجيال القادمة. إذا كان الذكاء ناتجا عن العوامل الوراثية، فإننا نتوقع أن نجد تشابها في ذكاء الآباء والأبناء مثلما نجد من تشابه في عوامل مثل طول القامة، ولون العينين وشكل الشعر ولونه. في هذا الصدد وجد كل من كونراد وجون معامل ارتباط قدره 0,49 بين نسبة ذكاء الآباء وأبنائهم، كما وجدا مثل هذا المعامل بين ذكاء الاخوة الأشقاء. وإذا ما قورن هذا المعامل بمثيله بين مجموعة من الكبار ومجموعة أخرى من الأطفال لا توجد صلة دم بينهم، وجد أن معامل الارتباط في هذه الحالة يساوي صفرا، معبرا عن عدم وجود علاقة على الإطلاق. وفي دراسة أخرى على التوائم غير الصنوية أي تلك التوائم التي يتكون كل فرد من أفرادها من بويضة مخصبة مستقلة، وجد أن هناك معامل ارتباط قدره 0,63 كما تدلنا على ذلك دراسة كل من نيومان، فريمان وهولزنجر. ومثل هذا المعامل وجد بين أعضاء الأسرة الواحدة. ويقودنا هذا إلى التساؤل لماذا يزيد التشابه بين التوائم عنه بين الاخوة ؟ ربما يرجع ذلك إلى تشابه الظروف البيئية التي ينشأ فيها التوائم من حيث الظروف الاقتصادية والاجتماعية للأسرة ونتيجة لتشابه المعاملة التي يتلقاها كل فرد من التوائم من قبل الآباء والاخوة والأخوات والأقارب والأصدقاء. ويؤكد هذه الملاحظة أن معامل الارتباط، المعبر عن حجم التشابه يزداد كلما عاش التوأم مع زميله، ولذلك أسفرت بعض الدراسات أن معامل الارتباط بين اخوة بلغوا سن العاشرة من العمر كان 0,62. بينما كان معامل الارتباط بين ذكاء اخوة في الرابعة فقط من عمرهم 0,40. ويرجع ذلك بالطبع إلى تشابه الظروف التي يخضع لها الاخوة وإلى مدى استمرار هذه الظروف. وواضح أن مثل هذه الدراسات تدلنا على وجود تأثير من جانب الوراثة ومن جانب البيئة على نمو الذكاء. ولكن هناك دراسات أكثر دلالة ووضوحا في البرهنة على تأثير العوامل الاقتصادية والاجتماعية على نمو ذكاء الطفل. فلقد وجدت علاقة بين وظيفة الأب وبين ذكاء أبنائه. فلقد وجد أن ذكاء أبناء أرباب المهن الراقية كالمهندسين والمدرسين والمحامين أعلى من ذكاء أبناء العمال غير المهرة. وعلى سبيل المثال كان المتوسط الحسابي لنسبة ذكاء مجموعة من أطفال الطبقات المهنية الفنية 117,5 بينما كان نظيره لدى أبناء عمال اليومية هو 97,6. ولكننا هنا أيضا أمام تداخل العوامل البيئية مع الوراثية، ذلك لأننا نستطيع أن نقول أن الآباء الذين يشغلون الوظائف الفنية التخصصية الراقية يوفرون بيئة تعليمية مثيرة، ومشجعة لأبنائهم، كأن يتوفر للطفل الغذاء الجيد، والكتاب والمجلة، والتلفزيون، وآلات إلكترونية، وحواسب، وهواتف والأحاديث الراقية، ونستطيع أن نقول في نفس الوقت أن الآباء الذين يشغلون مثل هذه الوظائف الراقية ما كان لهم أن يشغلوها لولا تمتعهم أصلا بالذكاء المرتفع، ومن ثم انتقل إلى أبنائهم بحكم الوراثة. وتمدنا الدراسات التي أجريت على التوائم العينية أو الصنوية وهي تلك التي تتكون من انشطار بويضة واحدة مخصبة في الرحم، والتي يمتاز توائمها باتحاد العامل الوراثي – تمدنا بكثير من المعطيات التي تفيد في معرض الحديث عن تأثير العوامل البيئية والوراثية. ولما كانت الوراثة واحدة في هذه الحالات، فإننا إذا نقلنا أحد التوائم ليعيش في بيئة مغايرة للبيئة التي يعيش فيها شقيقه، وإذا لاحظنا بعد مرور بعض الوقت، اختلافا في نسبة ذكائهما لكان مرده الوحيد هو التأثير البيئي، أما إذا لم نلحظ اختلافا لكان مؤدي ذلك أن البيئة لا تؤثر في نمو الذكاء، وانه يحدد بفعل العوامل الوراثية الصرفة. ولقد وجد معامل ارتباط قدره 0,88 بين نسبة ذكاء التوائم ولكن هذا المعامل انخفض إلى 0,77. عندما كانت الحالات منعزلة بعضها عن البعض. ومعنى ذلك أنه كلما زاد تشابه الوراثة والبيئة زاد معامل الارتباط أي زاد تشابه الذكاء. والفرق الملاحظ بين معاملي الارتباط 0,88، 0,77 إنما يرجع إلى الظروف البيئية. وتعطي الدراسات التي أجريت على أطفال التبني ومقارنة مقدار التشابه بين ذكائهم وذكاء آبائهم الطبيعيين ثم ذكاء آبائهم في التبني توضح أن العامل الوراثي قوي في تحديد الذكاء، ولكن أطفال التبني الذين يتربون في أسرة واحدة تكون النتيجة تشابه ذكائهم. ومؤدي هذه الدراسات أن هناك تأثيرا للعوامل البيئية على نمو الذكاء. وهنا نتساءل ما هي تلك العوامل بغية العمل على توفير المزيد منها لأبناء أمتنا العربية؟ لقد وجد أن الطفل الذي يذهب إلى إحدى دور الحضانة يمتلك ذكاء أعلى من زميله الذي لا يذهب إليها، على اعتبار أن دار الحضانة تمثل بيئة أكثر غنى من الناحية التعليمية عن البيئة المنزلية الصرفة للطفل. ولكن هذه النتيجة ليست على إطلاقها فقد ينحدر هؤلاء الأطفال الذين يذهبون إلى دور الحضانة من آباء أكثر ذكاء أصلا، وأكثر تمتعا بالمراكز الاجتماعية والاقتصادية المرتفعة الذي يتحدد أصلا بفعل عوامل وراثية. إننا نحتاج إلى معرفة كم ذكاء هؤلاء الأطفال أنفسهم قبل الالتحاق بالحضانة ثم نقيسه بعد الالتحاق، فإن زاد كانت الزيادة نتيجة لتأثير دار الحضانة. قد لا يهتم الآباء الأقل ذكاء بإيفاد أبنائهم إلى دور الحضانة. لقد دلت إحدى الدراسات التي تتبعت الأطفال قبل وبعد الالتحاق بدور الحضانة ووجدت أن هناك زيادة سنوية في متوسط نسبة الذكاء قدرها 6,6. ولكن تفسير هذه الزيادة قد يرجع إلى تأثير الحضانة في نمو الذكاء فعلا وقد يرجع فقط إلى تدريب الطفل على إتقان الإجابة على الأسئلة وفهمها وفهم التعليمات أي التدريب على مواقف الاختبارات. وهناك دراسات أخرى أوضحت أن البيئة المثبطة عقليا للطفل تؤدي إلى انخفاض نسبة ذكائه. فحرمان الطفل من الاتصال الطبيعي بالأم الطبيعية أو الأم البديلة يخفض معدلات الذكاء. ومن الآثار الإيجابية على نمو ذكاء الطفل مقدار الساعات التي يقضيها معه الأب يوميا وكذلك فرص اللعب البنائي أمام الطفل، وكذلك وفرة عدد من زملاء اللعب في المنزل، وعدد الساعات التي يقضيها الأب في القراءة مع ابنه. وفي ضوء هذا الاستعراض نقول إن العوامل الوراثية تضع الإطار العام أو الحدود العامة التي ينمو خلالها الذكاء، ولا يمكن تخطي هذه الحدود، ولكن هذا لا يمنع من أن العوامل البيئية تؤثر ولو تأثيرا محدودا على نمو الذكاء. وتؤثر بالقطع في كيفية استخدام الذكاء وتحدد الوجهة التي يتخذها ذكاء الفرد، فإما أن يتجه نحو الخلق والإبداع والابتكار في العلم والفن والتحصيل والأعمال الإيجابية النافعة، وإما أن يتجه نحو السرقة والجريمة والانحراف وخاصة تلك الجرائم التي تحتاج إلى قدر كبير من الذكاء كالاختلاس والتزوير والتزييف والنصب والاحتيال. ومعنى ذلك أن الوراثة تعطي البذور الخام، والتربة الصالحة هي التي تحدد إما أن ينمو الذكاء ويزدهر أو يطمس ويندثر وإما أن يرتقي بصاحبه إلى مراتب الخير، وإما أن يتجه إلى الشر والجريمة. ومعنى ذلك أن الإنسان بحق، هو ابن البيئة والوراثة معا، ونتيجة محصلة للتفاعل بين العوامل البيئية والعوامل الوراثية، ذلك لأن البيئة تؤثر في الوراثة وتتأثر بها. ولكننا مهما كان أثر العوامل البيئية صغيرا فإننا لابد وأن نتمسك به ونحرص عليه ونسعى لتحسينه وتطويره، لأنه العامل الوحيد الذي نستطيع أن نعد له ونطوره، أما الوراثة فإن تغييرها أمر صعب نسبيا وإن كان هناك الآن علم تحسين الوراثة. ترى كم نحن في حاجة إلى رعاية أطفال أمتنا العربية وإحاطة ذكائهم بالعناية والرعاية وحسن التوجيه وتوفير الأغذية والتحصينات الطبية والكتب والمجلات والمدارس والرحلات وغير ذلك من الأمور التي تتحدى ذكاءهم وتوسع آفاقهم. *--*---*--* والله الموفق 2015-07-28 محمد الشودري Mohamed CHAUDRI