العلامة الدكتور بنحمزة يدعو إلى مشروع للعمل المشترك بين أتباع الديانات في كتابه الجديد عن ''التأصيل الشرعي للتعامل مع غير المسلمين'' صدر عن منشورات المجلس العلمي الأعلى كتاب جديد للدكتور مصطفى بنحمزة رئيس المجلس العلمي المحلي لوجدة حول ''التأصيل الشرعي للتعامل مع غير المسلمين'' وذلك ''من منطلق الاحتكام إلى نصوص الكتاب والسنة وأقوال الفقهاء وتمثلات الأمة لقضية التعايش والتساكن مما يرتفع بها عن مستوى إبداء المواقف الشخصية التي لا تستند إلى المعرفة الشرعية التي يجب الاستناد إليها في بلورة الصورة الحقيقية لموقف الإسلام من غير المسلمين'' كما توضح مقدمة المؤلف. ويتناول الكتاب وهو في 109 صفحة ومترجم إلى اللغة الفرنسية عددا من المحاور هي: موقف القرآن الكريم والنبي صلى الله عليه وسلم من غير المسلمين وتمثلات الصحابة لهذا الموقف والتطبيق الفقهي للموقف من غير المسلمين، كما يتناول الانجازات الحضارية المتمثلة للموقف الإسلامي منهم ثم التعامل مع هذه الفئة في المرحلة الراهنة. ينطلق الدكتور مصطفى بنحمزة من حقيقة كونية أكدها القرآن الكريم ومنبثقة عن المشيئة الإلهية تتلخص في أن الله عز وجل اقتضت مشيئته أن يخلق الناس مختلفين في أديانهم، على نحو ما هم مختلفون في مداركهم ولغاتهم وألوانهم، وكثير من الآيات تقرر هذا المعنى وهي في جملتها توطن ذهن الإنسان المسلم على القبول بالتعددية، وتفتح له مع ذلك المجال لأن يعرف بدينه من غير أن يجعل إلغاء الآخرين هدفا من أهدافه، هذا ولقد تحدث النص القرآني عن كل أنواع المخالفين وأبرز معتقداتهم وناقشها، وأبرز ما فيها من تصورات سقيمة عن الإله الذي يجب أن يكون متصفا بكل صفات الكمال من العلم والقدرة وما سواهما من الصفات التي تليق بالإله الذي يخلق الخلق ويرعاهم، وقد خص القرآن الكريم أهل الكتاب بالحيز الأكبر من حديثه ووقف عند محطات أساسية من تاريخهم حديث المنصف العادل. ومن شواهد العناية بأهل الكتاب أن القرآن الكريم تحدث عن كثير من المحن التي تعرضوا لها عبر التاريخ وأشاد بصبرهم وثباتهم على معتقداتهم، ولقد قرر القرآن أن الأصل في التعامل مع المخالفين هو البر بهم والإحسان إليهم، ولا يستثنى من هذا التعامل إلا أولئك الذين اختاروا محاربة المسلمين وظلمهم وعملوا على تشريدهم عن ديارهم. كما تطرق الكتاب إلى موقف الرسول من غير المسلمين، وأشار المؤلف في هذا المحور إلى أن نجاح الرسول صلى الله عليه وسلم في عقد علاقات احترام مع غير المسلمين ناشئ عما وجدوه منه من تعامل كريم ومن إنصاف لهم، ولقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم تصرفات متنوعة مع غير المسلمين تبعا لما تقتضيه المصلحة ، فقد كان من مواقفه عليه السلام في بعض الأحيان الصبر عليهم وكان من مواقفه التحالف معهم. تأطير العلاقة فقهيا أطرت الكثير من الأحكام الفقهية تصرفات المسلمين مع غيرهم، وهذا التأطير يخرج بقضايا التعامل مع غير المسلمين من حيزها النظري إلى أن يجعلها واقعا في التعامل الفعلي الذي يتجاوز احتمالات النصوص وكل ما يمكن أن يرد عليها من الاحتمالات التفسيرية، وقد برز هذه الأحكام - كما يوضح بنحمزة - في موضوعات شتى منها الهوية السياسية لغير المسلمين، والسلوك الاجتماعي ويندرج ضمنه عدد من التعاملات الاجتماعية مثل حكم عيادة المريض غير المسلم وتعزيته والتصدق على الفقراء منهم والإحسان إليهم وجواز وقف الممتلكات على فقراء اليهود والنصارى، كما برزت هذه الأحكام في الحقوق المالية لغير المسلمين وفي حرية التدين. ويؤكد بنحمزة على أن موقف الإسلام من غير المسلمين وهو الموقف الذي يطبعه النزوع نحو التفاهم والحوار، أثمر آثارا إيجابية على سلوك المسلمين مع الغير، وقد استفاد من هذه الثمار والفوائد المسلمون وغير المسلمين معا، فهو قد أتاح لهؤلاء فرص العيش الكريم والتعبير عن مواهبهم وقدراتهم العلمية والفنية بما حققوه من إسهام علمي وأدبي وبما أنجزوه من آثار حضارية كما كان لموقف الإسلام جدواه بالنسبة للمسلمين بما أتاح لهم من فرص إبراز الوجه الحضاري للإسلام وبما مكنهم من الاستفادة من خبرات غير المسلمين ومعارفهم في مجالات العلوم الطبيعية والتجارب البشرية. مشروع للعمل المشترك وحتى يتمكن المسلمون من زحزحة الصورة السيئة التي ارتسمت في أذهان أتباع الأديان عن الإسلام، يتحدث بنحمزة في كتابه عن مشروع للتعاون والعمل المشترك بين أتباع الديانات، ومن ملامح هذا المشروع التعاون العلمي من أجل مواجهة موجة الإلحاد واللاتدين وإقرار أهمية التدين في حياة الإنسان، وضرورة الاستناد إلى الدين من اجل تثبيت الأخلاق ودعم وجودها في المجتمع، ومن الملامح أو المجالات التي يمكن أن تكون مساحات مشتركة للتعاون بين أهل الديانات دفاعهم عن الأخلاق المهددة بموجات الإباحية والتنكر للقيم، ووقوفهم صفا واحدا في وجه كل الاختلالات التي تهدد وجود الإنسان ومستقبله ومنها الإجهاض والاستنساخ وتدمير نواة الأسرة، وإلغاء آدمية الإنسان عن طريق العبث الجيني. ومن المجالات التي يمكن أن تعطي للتدين معناه وقوف أتباع الأديان في وجه الظلم والاستبداد واحتلال الأراضي بالقوة. ويشير بنحمزة إلى أن الذي يعوق تحقق أي تعايش حضاري أو تعاون حقيقي بين الأديان هو أن الغربيين لم يستطيعوا أن يمنعوا المغامرين من مثقفيهم وصحافييهم وسياسييهم وفنانيهم من العبث بقداسة الأديان، ولم يستطيعوا أن يقنعوهم بان احترام الثقافات هو جزء من حقيقة الحرية المتبصرة المتحضرة ، وان الحرية لم تكن أبدا إلا مقيدة بألا تؤدي إلى الإساءة إلى الآخرين، وان ذلك الاحترام هو الشرط الأساس للتعايش والتساكن. وقد كان يسع الغربيين - يتابع بنحمزة- أن يدرجوا احترام الثقافات والأديان ضمن خانة مجموعة من الممنوعات التي أصبحت القوانين الغربية تجرم المساس بها على اعتبار أنها جزء من الذهنية الجمعية، لأن مكانة الإسلام في نفوس المسلمين هي الجزء الأهم من مكونات الذهنية الجمعية لأمة كبيرة هي الأمة الإسلامية. والمطلوب - يؤكد بنحمزة- أن يعي الذين يضيقون ذرعا بوجود الإسلام في ديارهم ويسعون إلى إضعاف انتماء المسلمين إلى الدين أن ذلك خطأ كبير ، وهو لا يفيد في ضبط السلوك وفي تثبيت روح التعايش بين الناس. كما أن الرافضين للوجود الديني الإسلامي مطالبون بأن يعوا جيدا أن من مصلحتهم أن يكون المسلمون مرتبطين بالدين لان الدين هو بالنسبة للإنسان عموما وبالنسبة للمسلم خصوصا هو أهم مصدر ورافد للأخلاق وهو أهم حافز على التمسك والالتزام بها، وعلى الذين يتعاملون مع الوجود الإسلامي على انه وافد غريب عن الساحة الأوربية يجب تقليصه والحد من حركته ونشاطه أن يتأكدوا أنهم يخطئون في حق مواطنيهم حينما يعاملونهم معاملة تمييزية على أساس الدين والعقيدة لأن هؤلاء المواطنين هم مكون بشري أساس من مكونات المجتمع بأوربا، وهم يحسون بالانتماء إلى أوربا التي يعتبرونها وطنهم الذي يشتركون ضمنه مع ثقافات كثيرة ضمن تشكيلة تعدد الثقافي الذي وسم المجتمع الأوربي. وتمسك الرافضين لوجود الإسلام يهدر ولا شك كل قيم الحرية الدينية وكل المفاهيم التي مكنت الأوربيين من موقع زعامة نشر قيم الحداثة والعولمة. ويشدد بنحمزة على أن من أهم عوامل إزالة التوتر بين الأديان والثقافات أن يترك لكل ثقافة صياغة قيمها الاجتماعية ومعاييرها الأخلاقية، و أن يكف البعض عن ادعاء التفرد بالقدرة على إنتاج القيم وتسويقها والمقايضة عليها وإلزام الآخرين بها، لان القيم الأخلاقية في كل ثقافة لا تنفصل عن الرؤية الكونية وعن الفلسفة العامة للأفراد وللثقافات، وسيكون ذلك الاحترام للخصوصيات الثقافية ابرز مظهر للإيمان بالديمقراطية الشاملة.