منذ الخطاب الملكي تناسلت المقالات والتعليقات حول التعليم ومشاكله المزمنة ودور الحكومة الحالية في الحل والتأزيم. فليس مفاجئا أن نصف وضع التعليم المغربي بالمأزوم، وليس جديدا أن نعلق فشلنا التنموي على فشل المنظومة التربوية، لكن الإشكال يطرح حين نفشل في تشخيص الوضع ونبحث دوما عن الحلول العرضية التي تنتج دوما استنساخا لنماذج متغيرة في أصلها ونشخصن الأزمة ضمن حسابات السياسة والمصلحة الظرفية. عرفت سنة 1983 حدثا بارزا في تاريخ العملية التعليمية بالولاياتالمتحدةالأمريكية. فقد دق تقرير الرئيس الأمريكي رونالد ريغان "الأُمة في خطر: أمر إلزامي لإصلاح التعليم" ناقوس الخطر حول واقع التميز التربوي ومرتبة التعليم الأمريكي في التصنيف العالمي، حيث أشار في دراسات متعددة "وليست سرية" إلى تدني التحصيل الأكاديمي على الصعيدين الوطني والدولي في الشعب المختلفة: في قواعد اللغة والرياضيات والمواد المكتوبة وتوقف كذلك عند المقارنة مع التعليم خارج الولاياتالمتحدة حيث احتل الطلاب الأمريكيون صفوفا متأخرة. كل هذا استفز القيادة الأمريكية لإحداث النقلة النوعية في النظام التعليمي المشهود بها لحد الآن. وكان التوصيف على العديد من المستويات: المحتوى والمعايير والتوقعات والوقت والتعليم والقيادة والدعم المالي. ولأن الأمر أكبر من الاختلاف الحزبي فقد ظﻠﺖ اﻟﻠﺠﻨﺔ اﻟﺘﻲ أﺻﺪرت التقرير منعقدة حتى نهاية القرن العشرين ومهدت لخطوة بوش في 1990 المعنونة "أمريكا سنة 2000 استراتيجية للتعليم" والتي تضمنت الكثير من توصيات سلفه. قد يفيدنا الاستئناس بالتجربة الأمريكية في فهم ظروف الإصلاح وسياقاته وضرورته. فقد أبرزت التلازم الضروري بين التعليم والتطور المجتمعي، فحين اكتشفت الولاياتالمتحدة أن نظام التعليم في اليابان وكوريا الجنوبية يتفوق على نظام التعليم عندها؛ أقامت مؤتمرًا دُعي إليه كبار رجال الدولة والمؤثرون في المجتمع بنفس عنوان التقرير: (أمة في خطر)؛ وذلك لأنه إذا كان خريجو الجامعات من هذين البلدين سيتفوقون على خريجي الجامعات في أمريكا؛ فإنها ستكون في خطر بعد عشر سنوات أو عشرين سنة، وعزته إلى قصور نسبي في نظامها التعليمي، فأجرت الإصلاحات اللازمة. فمن البديهي أن التعليم هو بوابة التقدم أوالتأخر، وإذا كانت حكومات الإصلاحات الهيكلية قد اعتبرت التربية من القطاعات الاجتماعية المكلفة، فقد انطلقت من فهم قاصر للتنمية وسبل الاستثمار في الكائن البشري. لذا ليس مفاجئا أن نوضع في ذيل قائمة الدول من حيث التنمية مادام فهمنا للعملية التعليمية لم يتجاوز النظرة النفعية الظرفية التي رأت وترى في مواد معينة مضيعة للوقت، واستعمال لغات محددة استفراغ للجهد فيما لا طائل فيه، وتنظر إلى الميدان برمته بمعيار التكاليف لا النتائج. فقد شهد المغرب منذ الاستقلال إلى يومنا هذا العديد من الإصلاحات التربوية والتعليمية، إلا أن جل هذه الإصلاحات كانت فاشلة بسبب ليس قلة الموارد المالية والبشرية، وإنما غياب الرؤية الاستراتيجية والفلسفة المؤطرة للقطاع. فالأصل الانطلاق من أمرين اثنين: إرادة سياسية حقيقية غير مرتبطة بحل الأزمات وتحديد الإطار المفاهيمي للمراد من العملية بأكملها. فدور القيادة كما يبرز في النموذج الأمريكي في القضايا المهددة لوجود الأمة هو التفكير الاستراتيجي والقدرة على الارتفاع على الخلافات السياسية والإيديولوجية التي تملأ ساحات الفرقاء المجتمعيين والحسم في القضايا الخلافية. لكن الدور الأسمى هو الحفاظ على الثوابت والتراكمات التاريخية التي صنعت وجود الأمة وبدونها لن يكون لها وجود. فما عاشه التعليم ويعيشه، بعيدا عن النقاشات الحزبية هو تراكم أزمات هيكلية تتعلق بالمناهج الدراسية والموارد البشرية والتخطيط لكن الأكثر من ذلك هو غياب الجرأة لدى سادة القرار السياسي في الحسم في كل القضايا المتعلقة بالمسائل الهوياتية واتباع منطق التوازنات الاجتماعية. وفي هذا الإطار يمكننا مساءلة التجربة الماضية: هل كنا في حاجة لمخطط استعجالي أصلا كلف ميزانية الدولة أموالا باهظة ودون استشارة الفعاليات المعنية التي وجدت نفسها مدعوة لتطبيق برنامج فوقي؟ وهل استطاعت القيادة السياسية تنزيل وأجرأة ميثاق التربية والتكوين؟ . فمن المعلوم أن سياق وضع المخطط الاستعجالي هو سياق الفشل المتتالي في البرامج المختلفة بدءا بتعميم التمدرس، والدعوة إلى مجانية المدرسة، وتوحيد المدرسة المغربية، ونظرية الأهداف، والأخذ بالنظرية التداولية، ونظرية الشراكة، واستلهام نظرية مشروع المؤسسة، واستنبات نظرية الكفايات، وتمثل نظرية الإدماج... وصولا إلى الفشل في تطبيق بنود الميثاق الوطني للتربية والتكوين، والتي أصبحت مقرراته مرفوضة على الرغم من طموحها الكبير، ولم يتم تنفيذ معظم تعهداتها بالرغم مما كلفته للدولة من جهود وأموال. الهدف الأساسي للعملية التعليمية هو التنشئةُ على نفس القيم دفعاً للتناشز الفئوي المفضي إلى تفكيك الجماعة، وضبطاً للإيقاع الفردي الضامن لتماسك مكونات المجتمع. وعلى قدر نجاح النظام التربوي في التنشئة على نفس القيم الاجتماعية يضعف التناشز الطائفي المرخِّصِ للاستقواء بالأجنبي على الوطني، ويشتدُّ التناغمُ المجتمعي المانعِ من تسلُّل القيم النواشز التي تبثُّ الوهنَ في جسم الأمَّة ابتغاءَ تَفكيكِها. وما نعيشه في تعليمنا من خلال مداخله المتعددة والمتصارعة ينتج قيما متناقضة وغياب الرؤية النقدية للكفاءات المنظرة. ولو عدنا للنموذج الأمريكي لوجدنا أن وزير التعليم آنئذ صارع لترأس لجنة التقرير لكن الرئيس منحها لشخصية مستقلة، لأن الأمر أكبر من الولاءات الحزبية أو الإيديولوجية. والوعي وإن جاء متأخرا بأهمية التعليم ودوره المحوري في النهوض بالمجتمع وبتقدمه أمر أساسي وتقدم حقيقي في النقاش العمومي، لكن التوصيف والتقييم ينبغي أن ينطلق من معطيات حقيقية وواقعية بحثا عن الحلول الناجعة التي ينبغي أن تنفذ بجرأة وباستشراف لمستقبل الأمة. لكن الأهم من ذاك وذاك أن يكون الإصلاح المقترح وطنيا وتشاركيا وليس عبر قرارات فوقية.