موازاة مع عبادة الصيام خلال أيام شهر رمضان المعظم ، تعبدنا الله عز وجل بالقرآن في ليالي هذا الشهر. وتوجد علاقة وطيدة بين عبادة الصيام ، والتعبد بالقرآن لأن هذا الأخير هو الذي أكسب شهر الصيام قدسيته وعظمته باعتبار نزول القرآن فيه مصداقا لقوله عز من قائل : (( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان )). ولما كان القرآن الكريم هو أعظم حدث في تاريخ البشرية اكتسب ظرف نزوله قدسية وعظمة. ولما كان القرآن الكريم هو كتاب أو رسالة الله عز وجل للبشرية من أجل هدايتها فإنه أكبر نعمة على الإطلاق أنعم بها الخالق سبحانه على خلقه . وبشكر نعمة القرآن يستطيع البشر شكر باقي النعم التي لا يحصيها عد بله يشكرها شاكر. وبشكر نعمة القرآن يستطيع البشر حسن التصرف في نعم الله عز وجل التي لا تحصى، لأن القرآن الكريم يتضمن التوجيهات الإلهية للبشر من أجل خوض غمار الحياة بنجاح من خلال حسن التصرف في نعم الله عز وجل . ومعلوم أن أفضل طريقة لشكر نعم الله عز وجل هي حسن التصرف فيها كما أراد المنعم جل شأنه . ولا يمكن أن يقتصر الشكر على شكر اللسان مع سوء التصرف في النعم . وشكر نعمة القرآن الكريم هو التخلق بأخلاقه، وتطبيق ما جاء فيه من طاعات سواء تعلق الأمر بالأوامر أم بالنواهي. وفرصة رمضان وهي مجرد أيام معدودات هي أفضل فرصة لاستعراض نعمة القرآن في ليالي رمضان ، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعرضها حين يعارضه جبريل عليه السلام هذه النعمة. واستعراض القرآن في رمضان لا يعني مجرد استظهاره أو الاستماع لاستظهاره ،بل يعني عرض الناس أنفسهم عليه لقياس المسافات التي تفصلهم عن الأخلاق التي ينشدها القرآن الكريم ،الذي كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم بشهادة رب العزة جل جلاله في قوله : (( وإنك لعلى خلق عظيم )) ، وهو الخلق الذي سأل عنه الصحابة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فقالت : ” كان خلقه القرآن ” فالغاية إذن من استعراض القرآن في ليالي الشهر الذي أنزل فيه هو التخلق بأخلاقه . والتخلق بأخلاق القرآن الكريم هو أفضل طريقة لشكر هذه النعمة التي لا تضاهيها نعمة كما جاء في حديث شريف : ” فضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله عز وجل على خلقه ” . والقرآن الكريم كتاب أو رسالة الله عز وجل لخلقه . وهذا الكتاب أو هذه الرسالة عبارة عن كلام أو رسالة شفوية أنزلها الله على قلب رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بواسطة الملك الكريم جبريل عليه السلام أمين الوحي. وهذه الرسالة تلقاها الناس كما نزلت منطوقة ثم استوعبوها سماعا ونطقا وكتابة بعد ذلك . وهذه الرسالة الإلهية تختلف عن باقي الرسائل البشرية في مضمونها وفي شكلها . فرسالة الله عز وجل للبشر لا يعتريها ما يعتري الرسائل والكتب البشرية ذلك أنها لا يلابسها ريب لقوله عز من قائل : (( ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين )) والريب هو الشك الذي يقتضي الاتهام ، وهو الظن الذي لا يبلغ درجة اليقين. وكل الكتب والرسائل البشرية محل ريب إلا كتاب الله عز وجل، لأنه لا يأتيه باطل من بين يديه ولا من خلفه ، بينما بين يدي غيره من الكتب البشرية ومن خلفها أنواع كثيرة من الباطل المقتضي للريب ، لأن وراء دوافع الكتابة البشرية الأهواء ، وهذه الأخيرة عبارة عن مراكب الباطل. ويختلف إقبال الناس على الكتب أو الرسائل البشرية عن الإقبال على رسالة أو كتاب الله عز وجل . ففي حين يتعاطى الناس الكتب والرسائل البشرية لأغراض كالفوائد المادية في حياتهم الدنيا ، أوالتسلية أو تزجية الوقت ، أو لمجرد العبث ، فإن تعاطيهم لرسالة الله عز وجل تعني البحث عن الهداية لتلافي الضلال والضياع ولتحصيل الفوائد في العاجل والآجل على حد سواء. ولهذا كان الاشتغال برسالة أو كتاب الله عز وجل هو أشرف ما يوجد في الحياة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” خيركم وأفضلكم من تعلم القرآن وعلمه ” فإذا ما كان الناس يتفاضلون في دنياهم بالألقاب والأنساب والأموال ، فإن الله عز وجل إنما يفاضل بينهم بقدر تعلمهم لكتابه وتعليمه للغير لما في هذا الكتاب من إرشاد للناس من أجل خوض غمار الحياة بشكل صحيح وموفق . وتعلم رسالة الله وتعليمها يكون بطرق شتى تبدأ بقراءتها وحفظها واستظهارها ، وفهمها ، وتدبرها ، وينتهي بتطبيقها . ومع شديد الأسف نجد الأمة الإسلامية اليوم تجعل من يتعلم ويعلم رسالة الله عز وجل في أدنى درجات السلم الاجتماعي خلافا لإرادة الله عز وجل . ولما كانت الخيرية والأفضلية في تعلم وتعليم رسالة الله عز وجل ، كان التعاطي معها غير التعاطي مع غيرها من الكتب والرسائل البشرية، بحيث يعتبر التعاطي معها عبادة وراءها أجر عظيم بناسب عظمة هذه الرسالة. فالناس قد يقرءون الرسائل والكتب البشرية دون أن يحصلوا فائدة تذكر ، بل قد يأثمون بقراءة بعضها ، ويندمون على ذلك شديد الندم، بينما مجرد قراءة رسالة الله عز وجل تكسبهم الأجر العظيم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها ، لا أقول : ألم حرف ، ولكن ألف حرف ، ولام حرف ، وميم حرف ” . فلا يوجد كتاب بهذه الخاصية حيث تكون مجرد قراءته ذات نفع بهذا الشكل. وأكثر من ذلك يرتفع قارىء القرآن إلى درجة الملائكية حين يقرؤه بمهارة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة ، والذي يقرؤه وهو عليه شديد أو شاق فله أجران ” فمن المعلوم أن السفرة الكرام البررة هم الملائكة الكتبة ، وهذا المقام الذي يدركه القارىء الماهر بالقرآن لا يدركه غيره ممن يقرأ الكتب والرسائل البشرية . وأكثر من ذلك قد يعاب على الذي يقرأ الكتب والرسائل البشرية إذا ما واجه صعوبة في قراءتها ، بينما الأمر يختلف في قراءة القرآن حيث يضاعف الأجر لمن يقرؤه ويجد صعوبة في قرأته .والاشتغال برسالة أو كتاب الله عز وجل تجعل المشتغل بها في عقدة مع الخالق سبحانه لقول رسوله صلى الله عليه وسلم : ” يقول الرب عز وجل : من شغله القرآن وذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين ” فالمشغول بكتاب الله عز وجل والمنصرف له أجره على الله الذي تكفل بأن يعطيه أفضل ما يعطي السائلين . فلو انصرف الناس جميعا لسؤال الله عز وجل ما يريدون ، وانصرف أحدهم لكتاب الله عز وجل لأعطاه الله أفضل ما يعطي كل السائلين لأن كتاب الله عز وجل شغله عن السؤال ، والله تكفل بإعطائه ما شغل عنه بكتابه . وخلاف المهتم بالقرآن نجد الذي لا يتعاطاه بدون قيمة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” إن الذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخرب ” ومعلوم أن البيت الخرب لا فائدة فيها لأنه لا يسكن ، ولا يستفاد منه ، بل قد يصير مكانا يختلي فيه الناس ، أو يستعمله شرار الناس ، أو يصير مكان قمامتهم . وإذا كان هذا هو شأن المتعاطي للقرآن في الحياة الدنيا ، وهي دار عمل ، فشأنه في الآخرة وهي دار جزاء أعظم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” يقال لصاحب القرآن اقرأ وارتق ، ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقرأ بها ” وحسبه أن ينتهي في قراءته يومئذ عند قوله تعالى : (( اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم )) لتكون منزلته مع الذين أنعم الله عليهم من النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا . وأكثر من ذلك يدافع القرآن الكريم عن صاحبه يوم القيامة كما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله : ” يجيء القرآن يوم القيامة فيقول : يا رب حله فيلبس تاج الكرامة ، ثم يقول : يا رب زده فيلبس حلة الكرامة ، فيقول : يا رب ارض عنه ، فيرضى عنه ، فيقال له اقرأ وارق تزاد بكل آية حسنة ” فهذه مكانة لا يدركها أحد إلا صاحب القرآن . وإذا ما انشغل الناس يوم القيامة بما قدمت أيديهم لأنهم يسألون عن ذلك ، ويحاسبون ، فإن صاحب القرآن يكون في حالة أمن وجزاء ورضوان ، ولمثل هذا فليعمل العاملون ، في حين يكون غيره في حالة رعب وترقب لنتيجة الحساب المجهولة . وإذا كان هذا هو فضل كتاب الله عز وجل على المهتمين به في العاجل والآجل ، فإن غيابه من حياة الناس يكون فتنة كبرى لقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ” ألا إنها ستكون فتنة ” ، فقلت : ما المخرج منها يا رسول الله ؟ فقال : ” كتاب الله ....” فعلي رضي الله عنه وهو باب مدينة العلم كما جاء في الحديث لم يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سبب الفتنة ، وإنما سأله عن المخرج منها. وفي جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يدل على سبب الفتنة ، فقوله عليه السلام في ذكر المخرج من الفتنة :” كتاب الله ” يدل على أن غياب كتاب الله عز وجل عبارة عن فتنة . وبعد ذكر المخرج من الفتنة فصل رسول الله صلى الله عليه وسلم في وصف المخرج منها فقال : ” كتاب الله فيه نبأ ما كان قبلكم ، وخبر ما بعدكم ، وحكم ما بينكم ، وهو الفصل ليس بالهزل ، من تركه من جبار قصمه الله ، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله ، وهو حبل الله المتين ، وهو الذكر الحكيم ، وهو الصراط المستقيم ، هو الذي لا تزيغ به الأهواء ، ولا تلتبس به الألسنة ، ولا يشبع منه العلماء ، ولا يخلق على كثرة الرد ، ولا تنقضي عجائبه ، هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد ، من قال به صدق ، ومن عمل به أجر ، ومن حكم به عدل ، ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم ” فهذه الأوصاف هي التي تمنع الفتنة التي تحصل بسبب غياب القرآن من حياة الناس. وأول الأوصاف التي لا توجد في كتب ورسائل البشرية وتوجد في رسالة الله للبشرهو تغطية كتاب الله عز وجل للزمن في ماضيه وحاضره ، ومستقبله ، وهو ما لا تستطيعه الكتب والرسائل البشرية ، ذلك أن القرآن الكريم يحدث الناس عن الماضي السحيق ، ولكن حديثه عن هذا الماضي لا تلابسه الخرافة كما هو حال كتب الأساطير البشرية ، ولا التزوير والمبالغة كما هو حال كتب التاريخ ، وإنما يقص أخبار الماضي بلا ريب. وهو يتناول واقع الناس مهما اختلفت أزمنتهم ، وهو ينفرد بالحديث عن المستقبل في زمن ما بعد نهاية الحياة ، وهو زمن لم يحصل بعد ، وهذه خاصية غائبة في كتب ورسائل البشر . وهو القضاء بين الحق والباطل ، لهذا لا يوجد فيه هزل مما يوجد في كلام البشر. وهو الذي لا يمكن أن يستعلي عليه جبار من جبابرة البشر ، ومن فعل ذلك أهلكه الله . وهو الذي يضمن الهداية للناس ، ومن طلب الهداية في غيره كان ضحية الضلال ، كما هو حال بعض الذين يلتمسون الحلول في رسائل وكتب البشر لمشاكلهم. وهو حبل الله المتين المقابل لحبال وأسباب البشر الواهية لأنه يتضمن الهداية الحقة المعول عليها . وهو كتاب الحكمة الظاهرة أو الباطنة التي استأثر الله عز و جل بعلمها . وهو الصراط المستقيم المقابل لسبل البشرية المتفرقة والمفضية إلى الهلاك . وهو كتاب بعيد عن الزيغ الذي مرده الأهواء ما دام كتاب حق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه . وهو كتاب لا تلتبس به الألسنة لأنه لا تناقض فيه ، وأوله يصدق آخره ، خلاف كلام البشر الذي قد ينقض بعضه بعضا . وهو كتاب لا يشبع منه العلماء ، وكيف يشبع العلماء من كتاب لو كان البحر مدادا لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات هذا الكتاب ؟ وهو كتاب لا يبلى مع كثرة قراءته ،كما يمل الناس من قراءة رسائلهم وكتبهم التي سرعان من ينتهي الشغف بقراءتها وتمل . وهو كتاب عجائب لأنه يتناول كل ما له علاقة بحياة الناس ، وتمتد معرفته بما يخفيه المستقبل للناس ، وهو مصدر عجائب يوم يكشف سره الخفي للناس. وهو الكتاب الذي تعجبت منه المخلوقات العجيبة كالجن بالرغم من طبيعتها العجيبة ، وقدرتها على سرعة الظهور والاختفاء ، وإتيان العجائب من الأمور. وهي أكثر من ذلك مؤهلة بحكم طبيعتها النارية للطغيان كما كان حال إبليس اللعين ، ومع ذلك اعترفت برشد القرآن . فإذا كان هذا هو حال الجن المخلوقات العجيبة المتعجبة من عجائب القرآن الكريم فماذا يكون موقف الإنسان الضعيف من هذا القرآن ؟ وهو الكلام الذي لا يحتمل إلا الصدق خلاف كلام البشر المحتمل للصدق والكذب حسب تعريف أهل البلاغة . وهو الكتاب الذي إذا عمل به الإنسان كان مأجورا خلاف ما يحدث لمن يعمل بغيره من ندم وخيبة أمل ، وحسب القرآن أن الحرف الواحد منه بعشر حسنات . وهو الكتاب الذي إذا حكم به الإنسان أصاب العدل ، وتنزه عن الظلم . وهو الكتاب الذي إذا ما دعا إليه الإنسان هدى إلى صراط مستقيم خلاف الدعوات إلى غيره من آراء البشر، التي تفضي إلى السبل المتفرقة عن سبيل الله ،والمؤدية إلى الهلاك . فهذه هي نعمة القرآن الكريم العظمى، ولا بد أن يكون شكرها في مستواها ، وهو التخلق بأخلاق القرآن إسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم .