حظيت اللغة والثقافة الأمازيغيتان باهتمام كبير بفضل توجيهات صاحب الجلالة الملك محمد السادس الرامية إلى النهوض بهما وإدماجهما في التعليم والإعلام والإدارة. واليوم الجميع مطالب ببذل مزيد من الجهد للارتقاء بالثقافة الأمازيغية إلى مستوى رفيع يشرف المغاربة والاعتراف بالأمازيغية دستوريا سيعطيها دفعة نوعية جديدة عبر التراب الوطني. في نظري النقاش الدائر الآن صحي، ويدل على أن المغاربة بلغوا درجة مشرفة من النضج السياسي، فهذه اللغة يتكلمها ما يقارب 15 مليون مغربي ومغربية، وتعتبر لغة أما إلى جانب العربية الدارجة. في بلدان مثل الهند هناك 24 لغة رسمية معترفا بها في الدستور، وهذا لم يمنع هذا البلد الكبير من السير إلى الأمام نحو مزيد من التقدم والنمو، بل ساهم هذا الاعتراف في توطيد الديمقراطية والتنمية الاقتصادية والبشرية. في المغرب، أعطيت فرصة ثمينة للغة والثقافة الأمازيغيتين ربما لأول مرة في التاريخ بفضل توجيهات صاحب الجلالة من أجل النهوض بهما وإدماجهما في التعليم والإعلام والإدارة، فنحن مطالبون بأن نبذل ما في جهدنا للارتقاء بالثقافة الأمازيغية إلى مستوى رفيع يشرف المغاربة، لأن الأمازيغية ملك لنا جميعا. فما هو أساسي هو الاجتهاد والسير بخطى حثيثة، إذ ينبغي أولا تقعيد وتوحيد اللغة الأمازيغية ليتم إدماجها بصفة ناجعة في المنظومة التعليمية وفي الإعلام. كما ينبغي تنشيط الحقل الثقافي والفني الأمازيغي وإعطاء دفعة إلى البحث والإنتاج الأدبي والفني كأداة لتفعيل اللغة والثقافة الأمازيغيتين. لكن لكي تعطى المشروعية الضرورية لهذا الإدماج والانبعاث ينبغي في نظري دسترة اللغة الأمازيغية والاعتراف بها لغة رسمية إلى جانب اللغة العربية، أو الاعتراف بها لغة وطنية وذلك أضعف الإيمان. يمكن أن يسأل سائل إلى أي حد يمكن أن تخدم هذه الدسترة الثقافة الأمازيغية؟ ستخدم هذه الدسترة الثقافة المغربية عموما واللغة والثقافة الأمازيغيتين، خصوصا أن الاعتراف بالأمازيغية دستوريا سيعطيها دفعة نوعية جديدة وسيجعل أصحاب القرار في الوزارات والدوائر الحكومية كما في القطاع الخاص يخطون خطوات هامة لصالح الأمازيغية. وستساهم الدسترة في الحوار الثقافي وفي التعريف بالثقافة المغربية في جميع مكوناتها ومظاهرها. كما ستبرز أهمية التراث الأمازيغي كمكون أساسي لثقافتنا المغربية الأصيلة من خلال ما تزخر به من أدب شفهي وفنون ومعمار وصناعة تقليدية وتقاليد وأعراف. كما ستساهم هذه الدسترة في النهوض بالثقافة الأمازيغية بكل أنواعها عبر التراب الوطني وفي تشجيع الاهتمام بالإنتاج الفني والأدبي المغربي على العموم وبالثقافة والفنون الأمازيغية على الخصوص. ومن جهة أخرى، ستساهم الدسترة مساهمة كبيرة في إظهار عمق الشخصية المغربية وثقافة المغرب في بعديها التاريخي والحضاري وفي الجهود المبذولة على الصعيد الجمعوي والرسمي من أجل الحفاظ على هويتنا الثقافية وشخصيتنا الأصيلة دون إغفال الانفتاح على الثقافات والحضارات الأخرى، فلا يمكن للإنسان أن ينفتح على الآخر إلا إذا كان متشبعا بثقافته وقيمه. كما أن الدسترة ستساهم في توطيد التواصل بين كل شرائح المجتمع المغربي وستساعد على إدماج السكان الناطقين بالأمازيغية في المسيرة التنموية التي تشهدها بلادنا وعلى النهوض بالعالم القروي. كما ستساهم دسترة الأمازيغية في تقوية الوحدة الوطنية وحمايتها من كل المخاطر الخارجية وتحصينها ضد كل أشكال الانزلاقات. فلا تنمية بدون ديمقراطية، ولا ديمقراطية بدون الاعتراف الرسمي بالأمازيغية كمكون أساسي للهوية المغربية، ولا ديمقراطية بدون احترام الحقوق اللغوية والثقافية لنصف سكان المغرب. أظن أن كل القوى الوطنية تهتم بالثقافة الأمازيغية، وتساند الجهود المبذولة لإعادة الاعتبار إلى هذه الثقافة التي هي فعلا جزء لا يتجزأ من الثقافة المغربية، ولا يختلف اثنان حول أن النهوض بها واجب وطني. هناك جدل لأن بعض الجهات المتطرفة حاولت تسييس القضية الأمازيغية من أجل إفشال إدماجها في المؤسسات، فالكل يتذكر الجدل حول الحرف الذي حسم بالتحكيم الملكي لصالح حرف تيفيناغ. وفي نظري لا خير في تسييس القضية أو خلق مشكل عرقي منها لا قدر الله، باعتبار أن هذا التسييس قد يثير مغالطات وصراعات نحن في غنى عنها. لذا لا ينبغي تسييس الأمازيغية، لأن أكثر من 90 في المائة من المغاربة أصلهم أمازيغي على كل حال، وتسييس الأمازيغية لن يفيد الثقافة الأمازيغية في شيء بل سيزيد تهميشها والتخوف منها. إن ما تحتاجه الأمازيغية هو الإدماج في التعليم والإدارة والإعلام كما تحتاج إلى الأطر والباحثين الذين يمكنهم الارتقاء بها من خلال معيرتها والبحث في التاريخ والتراث والأدب والفن وتشجيع الإنتاج الفني الأمازيغي. وينبغي التذكير هنا أن علاقة الثقافتين العربية والأمازيغية عميقة بشهادة التاريخ، وقد اتسمت هذه العلاقة دائما بالأخوة والتضامن والوئام والانسجام، فالمغاربة كلهم سواسية أمام القانون وجلهم مسلمون سواء منهم الناطقون بالأمازيغية أو الناطقون بالعربية. ويشكل هذا الانسجام الحاصل بين الثقافتين مصدر افتخار وطني لأن أهم ما يميز الهوية الوطنية هو تنوعها وتعدديتها، والتلاقح الموجود بين الثقافتين العربية والأمازيغية يوطد الوحدة الوطنية كما أسلفت. تدريس اللغة الأمازيغية له أهمية كبرى، لأنه الكفيل بضمان استمراريتها وضمان الاهتمام بها على المستويين المؤسساتي والمجتمعي، لكن التدريس في حد ذاته غير كاف في نظري إذا لم يكن مصحوبا بالإرادة السياسية، فمثلا ينبغي على وزارة التربية الوطنية أن تضاعف الجهود لتفعيل هذا التدريس وإنجاحه وطنيا وليس محليا فقط. الإرادة نفسها ينبغي أن تتجسد في الوزارات الأخرى كوزارة الإعلام. وبادرة القناة الأمازيغية خطوة إلى الأمام للنهوض باللغة والثقافة الأمازيغيتين في ميدان الإعلام. كما ينبغي على المجتمع المدني أن يقوم بمبادرات للنهوض بالثقافة الأمازيغية على جميع المستويات. إن اللغة الأمازيغية كما أوردت سابقا رافد أساسي من روافد الشخصية الثقافية المغربية، وهي أيضا لغة غنية بتراكيبها ومعجمها ودلالتها وأدبها الشفهي وأغنيتها الأصيلة، لهذا ينبغي علينا جميعا بصيانتها وتدعيمها في أفق توحيدها ومأسستها من أجل أن تتبوأ المكانة اللائقة بها في المجتمع في إطار دولة الحق والمؤسسات. وأكد جلالة الملك محمد السادس غير ما مرة، أن الأمازيغية مسؤولية وطنية وملك لجميع المغاربة، يجب المحافظة عليها وتعزيز مكانتها في المجتمع، وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على أن الإرادة السياسية متوفرة وأن اللغة الأمازيغية معترف بها على أعلى مستوى في الهرم السياسي. ولا يبقى لنا سوى توفير الشروط المؤسساتية للنهوض بها من أجل إدماجها في المنظومة التربوية والإعلام وفي الحياة العامة. التدريس مهم، لأنه يضمن الاستمرارية لهذه اللغة ويضمن تنميطها وحيويتها. ومستقبل تدريس اللغة الأمازيغية بين أيدي المغاربة جميعا الآن، وهو رهين بمدى تشبثهم بأصالتهم وهويتهم الغنية والمتنوعة، وهو رهين كذلك بمدى وعيهم بأهمية اللغة الأمازيغية في تقوية الجبهة الداخلية وفي تدعيم التنوع الثقافي في المغرب وفي إرساء دولة الحق والقانون. وأمام الزحف الكبير للعولمة التي ترمي إلى تقليص الهويات الثقافية للشعوب وإلى تهميش التراث الشفهي للأقليات عبر العالم فلابد من الارتكاز على مقوماتنا الوطنية وهويتنا المغربية وتعددية ثقافتنا. ولهذا وجب علينا أخذ مأسسة الأمازيغية بجدية بإدماجها بصفة رسمية ودائمة في المنظومة التعليمية. ومن سار على الدرب وصل. وإذا نحن قمنا بتقييم موضوعي لما تقوم به الدولة والمجتمع المدني من أجل النهوض باللغة الأمازيغية، فلا يمكن للمرء إلا أن يكون متفائلا بالمستقبل. لابد من التذكير بأن المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية تمكن في وقت وجيز من تحقيق منجزات مهمة نذكر منها: تنميط حروف تيفيناغ وتقعيد الإملائية وإدخال الحرف الأمازيغي في المنظومة المعلوماتية الحديثة، وإعداد البرامج والمناهج والكتب المدرسية الكفيلة بإدماج الأمازيغية في التعليم وتكوين المؤطرين والمدرسين عبر التراب الوطني. وقد صدر عن هذا المعهد أكثر من مائة كتاب في مجالات اللغة والأدب والتربية والتاريخ والجغرافية والسوسيولوجيا والفنون والترجمة، إلخ. ويساهم المعهد كذلك في تعزيز وتقوية حضور الأمازيغية في وسائل الإعلام العمومية. وفي هذا النطاق، يلاحظ المتتبعون أن الثقافة الأمازيغية أصبح لها حضور لا يستهان به في وسائل الإعلام السمعية البصرية. الدكتور موحى الناجي : كاتب وباحث مغربي