حاولت في المقال الماضي الخروج الشعبي تصحيح لمسار التاريخ( نشر في31 أكتوبر2013) أن أحلل ظاهرة خلتها جديدة تماما علي الساحة السياسية في مختلف أنحاء العالم. وهذه الظاهرة تتمثل في التأليف الخلاق بين مفهوم الثورة والانقلاب!. ونحن نعرف من تراث العلوم الاجتماعية أن الثورة التي تقوم بها بشكل تلقائي الجماهير هي بحسب التعريف نقيض الانقلاب العسكري الذي تقوم به بسبب أو لآخر القوات المسلحة في بلد ما.غير أن ما حدث في30 يونيو من الخروج الشعبي بالملايين لإسقاط الحكم الإخواني الاستبدادي اقترن في هذه الحالة بتدخل حاسم من القوات المسلحة المصرية لتدعيم الإرادة الشعبية. وهذه الواقعة المثيرة التي بدت غير مسبوقة أثارت العديد من الجدل داخليا وخارجيا حول توصيف ما حدث في30 يونيو و3 يوليو, ثورة أم انقلاب؟ وحين تعرضت للموضوع في مقالي السابق أطلقت علي ما حدث الانقلاب الشعبي, بمعني أنه كان خليطا من ثورة شعبية وانقلاب عسكري في الوقت نفسه, لو طبقنا التعريفات الشكلية للانقلابات العسكرية. وقد تنوعت استجابات قرائي الكرام علي اجتهادي في هذا الصدد, فتقبله بعضهم تماما, وتحفظ عليه البعض الآخر, ورفضه فريق ثالث. وربما كان التعليق الرافض الذي لفت انتباهي بشدة تعليق إحدي قارئاتي الفضليات وهي تطلق علي نفسها اسم اسكندرانية, وهي حقوقية تعمل محامية. وقد تعودت علي نقد أطروحاتي الفكرية بانتظام. وقد جعلت عنوان تعليقها الانقلاب الشعبي, وقالت بنص عباراتها هذا المصطلح الانقلاب الشعبي الذي أطلقته علي يوم30-6, الخطاب هنا موجه لكاتب المقال, لا يعدو أن يكون محض خيال, لأنه لا توجد في كتب النظم السياسية ما يسمي الانقلاب الشعبي, لأن الانقلاب يكون عسكريا والثورة تكون شعبية, أما انقلاب شعبي فلم نسمع عنه من قبل. مصطلح انقلاب شعبي ينطلي علي العامة أما علينا فلا يمكن أن يمر مرور الكرام. الزمن سيكشف من هم الأبواق يا دكتور. والقارئة الكريمة محقة تماما في نقدها بغض النظر عن اتهاماتها المكررة لعدم موضوعية الكاتب- وذلك لأن كتب النظم السياسية تفرق تفرقة حاسمة بين الثورة, لأنها كما قالت تماما عادة ما تكون شعبية, أما الانقلاب فعادة ما يكون عسكريا. غير أنه فاتها أن كتب النظم السياسية التي رجعت لها لم تعالج سوي النموذج المعرفي التقليدي الذي يميز تمييزا قاطعا بين الثورة والانقلاب. غير أنه تبين لي- بعد نشر مقالي الماضي- أن الأبحاث الحديثة في علم السياسة التي لم أكن اطلعت عليها- تجاوزت هذا النموذج المعرفي التقليدي, ونحتت مصطلحا جديدا قد يصدم عامة القراء وهو الانقلاب العسكري الديمقراطي. وحتي يكون حديثي موثقا بصورة علمية أقرر أنني رجعت في هذا الموضوع أساسا إلي بحث مطول نشره علي شبكة الإنترنت الدكتور أوزان فارولOzanO.Varol أستاذ القانون بجامعة هارفارد الأمريكية العريقة, وقد نشره أساسا في مجلة هارفارد للقانون الدولي مجلد رقم53( عام2012). وقد قدم في هذه الدراسة الفريدة نظرية متكاملة عن الانقلاب العسكري الديمقراطي, بناها علي أساس دراسة ثلاث حالاتCaseStudies, هي الانقلاب العسكري في تركيا عام1960, والانقلاب العسكري في البرتغال عام1974, وما تطلق عليه الدراسة الانقلاب العسكري الذي وقع في مصر عام2011, ويعني به المؤلف تسلم القوات المسلحة المصرية السلطة من الرئيس السابق مبارك بعد إجباره علي التنحي. وأعترف بأنني دهشت للغاية بعد قراءتي هذه الدراسة العلمية الرصينة, لأنني حين اجتهدت وصككت مصطلح الانقلاب الشعبي لم أكن أعرف شيئا عن هذه النظرية التي تحتاج في الواقع إلي تأمل وتحليل عميق, نظرا لما تقدمه من إبداعات نظرية غير مسبوقة. والسؤال هنا كيف قدم الدكتور أوزان فارول أستاذ القانون بجامعة هارفارد لدراسته المثيرة التي تتضمن تجديدا معرفيا عميقا؟. يقول في مقدمة الدراسة وأنا أقتبس بالنص في11 فبراير من عام2011 أمسكت القوات المسلحة المصرية زمام السلطة بعد أن أخذتها من الرئيس حسني مبارك في انقلاب عسكري. وقد تم الانقلاب استجابة لموجات الاحتجاجات العنيفة التي استمرت حوالي ثمانية عشر يوما, وقام بها مئات الألوف من المواطنين المصريين طالبين القضاء علي نظام مبارك المستبد والفاسد واستبدال نظام ديمقراطي به. وكانت المظاهرات إلي حد كبير للغاية غير إيديولوجية, وقد ضمت صفوف المتظاهرين كل أطياف المجتمع المصري نساء ورجالا, مسلمين وأقباطا, علمانيين وإسلاميين, الفقراء والأغنياء, كلهم تشابكت أياديهم في ميدان التحرير في صيحة عارمة من أجل الحرية والديمقراطية بعد عقود من الحكم الديكتاتوري. وهذه الصيحات استجابت لها ليست قوي أجنبية ولكن القوات المسلحة المصرية التي أمسكت بمقاليد السلطة من مبارك وسيطرت علي الحكومة. وقد أدي سقوط مبارك إلي موجات من الترحيب حول العالم. لأن حجر زاوية التغيير في العالم العربي وهي مصر أعطت أملا للشعوب العربية المقهورة في ليبيا وسوريا واليمن وغيرها للثورة ضد قاهريها. وقد لقيت القوات المسلحة المصرية الثناء المستحق لأن قادتها رفضوا إطلاق النار علي المتظاهرين في أثناء المظاهرات, وتقدموا وسيطروا علي الحكومة حين رفض مبارك التنحي. ويواصل الدكتور فارول الحديث فيقول إن الرئيس أوباما أثني علي القوات المسلحة المصرية لأنها تصرفت بوطنية وبمسئولية محافظة علي كيان الدولة, وأبدي ثقته في أن القوات المسلحة ستضمن انتقالا للسلطة ستكون له مصداقية في عيون الشعب المصري( انتهي الاقتباس المباشر من دراسة الدكتور فارول). وهو- بعد هذه المقدمات يقرر أن الانقلاب العسكري المصري الذي تم عام2011 يكسر في الواقع سلسلة الانقلابات العسكرية التقليدية. وذلك أنه تاريخيا فإن الضباط الذين كانوا يقومون بانقلاب كانوا متعطشين بشدة للسلطة والحكم, وخصوصا في أمريكا اللاتينية وأفريقيا, حيث سعوا إلي قلب النظم الموجودة حتي يحكموا بلادهم إلي ما لانهاية!. وهو يقرر أن مصطلح الانقلاب المشتق من كلمة فرنسية هيCoupDtat ساد الإجماع في كل الدراسات السياسية السابقة أنه بحسب التعريف مضاد للديمقراطية. ومن هنا يقرر الدكتور أوفال صاحب هذه الدراسة المثيرة أن تعبير انقلاب عسكري ديمقراطي يبدو لأول وهلة بالغ الغرابة, إن لم يكن يتضمن تناقضا رئيسيا! غير أن النظرية الجديدة التي يقدمها هي أنه ليست كل الانقلابات العسكرية مضادة للديمقراطية, لأن هناك انقلابات قامت بها جيوش وطنية استجابة لمطالبات شعبية بالقضاء علي نظام شمولي أو سلطوي, حتي تفتح الطريق- بعد مرحلة انتقالية قصيرة- أمام الديمقراطية الحقيقية. هذه النظرية تستحق أن نتابع مقدماتها المثيرة ونتائجها البالغة الأهمية!. "الأهرام"