بقلم ذ.هشام الحداد إن الفعل السياسي على أهميته البالغة يبقى اجتهادا بشريا له خصوصياته وإشكالاته ونجاحاته وإخفاقاته، صحيح أنه يحتاج في سياق تشكّل فكر سياسي معين إلى مرحلة انتقالية يحظى فيها بالدعم والاحتضان والمؤازرة، ولكن استثناءً وليس بكيفية مطردة ودائمة لاعتبارات، من أبرزها: أنه ليس معيار النجاح الأساس للمشروع الإصلاحي الأصل والقول بذلك يقتضي الاعتراف بفكرة حاجة السياسي للأجنحة الموازية على رأسها الجناح الدعوي، وأيضا من بين الاعتبارات أن الانشغال البؤري بإشكالاته في مرحلة الولادة كان مبررا إلى حد ما، نظرا للوحدة الفكرية والمرجعية التي من خلالها يتم النظر في تحديات إنسانية قيمية وتربوية وسياسية تحتاج إلى استجابة أكبر وانخراط أكثر احترافية. والنقاش الذي واكب المشاركة السياسية للتيار الإسلامي لم يخرج عن إطار إشكالات مركزية مرتبطة بسؤال النهضة والإصلاح في علاقته بتبني الفرد والمجتمع لقيمه الأصيلة، من باب تنويع الوسائل الممكنة ولكن دائما من مدخل تلبية الحاجة الإنسانية المباشرة للقيم الدينية والمفاهيم الصحيحة المستلهمة من الوحي. وهكذا استطاع المشتغل بقضايا الفكر والدعوة والتربية أن يُظهر إمكانات مقدرة كي ينجز المهمة السياسية وأن ينخرط في مجالات عمل مختلفة، ولكن ذلك كانت تحكمه سياقات التأسيس الذي يحاول تنزيل مقاربة شمولية للحل تأصيلا وتنظيما وما يستدعيه الأمر من دعم واحتضان. ومع مرور الوقت أصبحت خاصية الشمولية لا يجيب عنها الارتباط العضوي لمجالات العمل المختلفة وغدت حلقة الدعوة والتربية هي الأكثر تخلفا عن مسايرة التغيرات المتلاحقة بسبب عدم استيعاب إمكانية التخلص من الارتباط العضوي التنظيمي بين التخصصات وتعويض ذلك بمنهجية أقوى تجعل تخصص الدعوة والتربية ذا جودة عالية تتجاوز حاجة التخصصات إليه إلى حاجة المجتمع والمؤسسات المعنية، أي القيام بمهمة البناء الواعي والعميق للالتزام بالقيم بدل مهمة التجميع والتأطير، باعتبار أن مهمة الدعوة والتربية لها جمهور أوسع ومقاصد أبعد في حفظ إنسانية الإنسانية والتأثير الإيجابي في حركة التاريخ الاجتماعي من خلال إعلاء المنظور القيمي الذي يقرره النسق الأسمى المتمثل في الوحي توسلا بالفعل والإبداع والتواصل الفعال وليس بالمدافعة القاصرة التي لم يعد يفهم البعض منها سوى تسجيل المواقف وبعض الأعمال المغلقة وَرُدود الأفعال الجزئية. وباعتبار السياق وأدوات العمل وطبيعة الخطاب فالموقف الدعوي يختلف كثيرا عن الموقف السياسي. فالمنشغل بالدعوة والتربية مثلا لا يمنعه استثمار خصومه لخطأ أو سوء تقدير من أن يوضح الموقف القانوني ولا يستحيي من ذكر النقاش الفقهي في الموضوع، وإذا كان البعض سيعتبر تعامل الفقيه مع بعض المستجدات والوقائع تعاملا مضطربا أو حتى متخلفا عن مواكبة المقاصد والمآلات فهي فرصة لتوجيه السؤال إلى ذوي الاختصاص من العلماء والفقهاء وللمؤسسة المعنية بالفتوى، لأن الإشكالات في فقهنا وتراثنا أكثر من أن تخفيها الردود السريعة. والمنشغل بالدعوة والتربية عندما يبث في خطأ ما ثم نجده لا يتحرك للمعالجة عندما يتعلق الأمر بفعل أشنع منه -يدينه الشرع ويجرمه القانون- يوقع في انتقائية تهدد قيمتين شرعيتين عظيمتين معنيّ بهما أهل الدعوة والتربية قبل غيرهما وهما قيمة العدل من خلال إنصاف المظلوم وقيمة النصح من خلال مساعدة المعتدي على الاعتذار والتحلل من المظلمة إتماما لشروط التوبة من الزلة وتثبيتا للمنهج السليم المتوازن في المعالجة. وهذه الانتقائية التي تخرق مبدأ الموضوعية من وجهة نظر تربوية لا نعتبرها مقصودة بل نعتبرها نتاجا لمنهجية معينة لم تحسم في الأولويات ولم تتجدد بالشكل اللازم الذي يضمن حيويتها المرجعية، وهو ما يدفعنا للبحث عن تفسير أدق قد يتجاوز ما هو تنظيمي أو ما هو تربوي إلى ما هو منهجي تصوري تجده يسمي أولويات العمل (الدعوة والتربية) ويستبطن أولوية أخرى هي الصورة السياسية، وذلك بسبب عدم تعميق النظر في الرؤية العامة للعمل بعد التغيرات المتلاحقة التي عرفها الواقع، أو بسبب عدم وضوح الرؤية السياسية وخصوصياتها عند من يعتبر الدعوة مهمته الأولى. إن المهتم بالدعوة والتربية واستراتيجياتها عندما يستجيب لتحد ما حالما يتعلق الأمر بما له آثار سياسية ويتغاضى عن الاستجابة عندما يتعلق الأمر بما له آثار اجتماعية وتربوية خطيرة ينبغي أن يجيب عن سؤال البوصلة التصورية، وأن يقوم بتحيين الإشكالات التي لم تعد نفسها التي كانت في السابق ويقاربها مقاربة جديدة. فالجواب عن سؤال النهضة والإصلاح لا ينبغي أن يبقى حبيس منطق سياق التأسيس الذي يحاول أن يجد حلا للمشكل النهضوي الإسلامي بالمقاربة المركزية الشاملة لمجالات العمل والذي تحكمه تحديات خاصة بظروف الولادة من تأصيل وتنظير واحتضان ودعم ورعاية. ذلك أن الاعتقاد الذي لا زال سائدا عند الكثيرين حتى اليوم أن التصور السليم للعمل الدعوي والتربوي هو الذي يدعو إلى التهمم والانشغال بكل شيء على كل المستويات بما فيها المستوى التنظيمي بدعوى خاصية الشمولية. فهل الشمولية تعني أن عليّ أن أتكلم في كل التخصصات وأن أعد أوراقا في كل المجالات وأن أشغل فكري بكل القضايا والإشكالات وأن أواجه كل الخصوم؟ ثم بعد ذلك أجد نفسي في محك الواقع محاصرا بضرورة تبني المقاربة الجزئية لحل مشكلة معينة، فأين الشمولية على مستوى المعالجة التخصصية؟ ما الأسلم تخصص يطور نفسه إلى أبعد الحدود؟ أم شمولية تعالج كل شيء ولكن بقصور حتى لا نقول بسطحية؟ لماذا المغامرة بحصر جمهور الدعوة والتربية على حساب تعميم الخدمة التربوية؟ أليس النجاح في الاهتمام بالخدمة التربوية الصرفة تجويدا وتجديدا هو السبيل إلى تلبية حاجة المجتمع إلى القيم والاستجابة لتحديات التربية في الأسرة والمدرسة والإعلام؟ ألا يبدو حجم التشويش على الوظيفة الدعوية والتربوية كبيرا من خلال الإصرار على الدفاع عن اجتهاد سياسي وبدون أي ضمانات لتبني اختيارات قيمية واضحة؟ أليس تطوير المنهجية التربوية وإبداع طرائق تعميمها وأساليب تأثيرها والتقاطع مع أهداف مؤسسات أخرى رسمية وغير رسمية ذات الاهتمام المشترك أولى من تكرار بعض مهام مؤسسة سياسية لها هيئاتها وكوادرها؟ ألا يشكل ذلك من جهة أخرى عبئا على هاته المؤسسة التي لها أسئلتها المحرجة؟ وعبئا أيضا على المؤسسة الدعوية التربوية والتي ستجد نفسها في معترك إشكالات هي غير معنية بالضرورة كي تخوض فيها؟ هل قضايا الدعوة والتربية هي أهون من أن يتخصص فيها تنظيم مدني يطور أساليب التعامل مع الانحرافات العقدية والسلوكية الخطيرة التي يعرفها المجتمع وفق تصور تقدمي يجمع بين حقائق الدين واستثمار نتائج العلوم الإنسانية الطبية والنفسية والاجتماعية والتاريخية ووسائل التربية الذوقية والفنية والجمالية وغيرها؟ ألا تستحق هذه القضايا مع الإشكالات العلمية والفكرية الوقت الكافي الذي يُفرغ فيه الوسع لإنتاج مشروع تربوي متقدم يعالج بعمق ونجاعة الآفات المرصودة ويسهم في الاستجابة للحاجيات التربوية الأساسية للفرد والمجتمع؟ إن الجمهور المتفاعل مع قضايا الدعوة والتربية في الغالب لا يهمه بالأساس الموقف السياسي ولكن الذي يهمه بشكل أعمق ما يلبي حاجياته الدينية ويجيب عن سؤال حقيقة أمر ما ومفهومه وما يجوز وما لا يجوز فيه وما له وما عليه، وأن يعرف المقاصد والمآلات والضوابط والآداب والقيم وطرق التفاعل الإيجابية معه، وبحدود الخوض فيه والبدائل الممكنة في ممارسته... لأن الموقف السياسي وكفى ليس من أولويات التربية والحقيقة العلمية، ولا يفيد كثيرا في تعريف الناس بدينهم وقيمهم وحقيقة مآلات سلوكياتهم، فهو في كثير من الأحيان يكون على طرفي نقيض مع المنهجية الدعوية التربوية حيث يغدو موقفا تكتيكيا براغماتيا مؤقتا يختار أبسط الوسائل وليس أتمّها وأنجعها المؤدية إلى تقليل الضرر في مستواه السياسي. فما الجمهور الذي يود المنشغل بالدعوي التربوي أن يخاطبه بالأساس؟ الجمهور الكبير للدعوة أم الجمهور الصغير للسياسيين؟ الجمهور الصغير مؤثر، ولكنه نفسه معني أيضا بالمنهجية التربوية والدعوية التي قد تكون سببا في إنقاذ علاقة هذا الإنسان بربه والتشبت بقيم شرعه العليا أو على الأقل بشغل وعيه بالقيم الربانية واحترامه للقيم الإيجابية المشتركة داخل المجتمع. إن التمايز بين الدعوي والسياسي ينبغي أن يكون في أبعد الحدود الممكنة، وبضوابط أكثر وضوحا وبتصور يبحث عن قنوات جديدة للتواصل والتحاور والتناصح، وبدون أن يضر ذلك بالمساحة التي يجب أن يتحرك فيها المشتغل بالدعوة والتربية ممارسة وخطابا وتنظيما. فالأولوية في العمل الدعوي للإنسان بغض النظر عن انتمائه أو اختياراته.