11- العمل الجمعوي بين إدارة التنمية وتنمية الإدارة 1 – إدارة التنمية: إن العمل الجمعوي كأي عمل تنموي في حاجة إلى إدارة فاعلة قوية ووازنة، فاعلة يعني تحقق أهدافها المرسومة مع مرور الزمن بل في زمن قياسي مناسب، قوية بمعنى تتسع رقعة تحقيق هذه الأهداف بما يلبي حاجيات أكبر الشرائح الاجتماعية الممكنة، فالخير ما عم وانتشر لا ما خص وانحصر. ووازنة يعني يسهر عليها أشخاص وازنون وليس ما فضل من الناس عن جلائل الأعمال أو ما يعتقد أنها كذلك، فالأشخاص الوازنون بنضجهم و توازنهم و سعة ثقافتهم و أصالة تجربتهم هم الضمانة و الرهان لقيادة العمل الثقافي نحو النمو الراشد و العطاء الواعد و بعيدا عن الاضطراب والانزلاق أو الاغتراب و الانحصار وبالطبع الضحالة والتآكل والاندثار. وإن إدارة جمعوية بهذه المواصفات، وهي ترسم لها أهدافا وتضع لها خططا وبرامج و تبحث لها عن وسائل وإمكانيات…، لابد لها من بعض المنطلقات الأساسية و الأبعاد والمرامي الثقافية التي ينبغي أن تؤطر مجهوداتها في مختلف المجالات حتى تؤتي أكلها وتحقق أفضل مردودية ممكنة، وعلى رأس هذه الأبعاد والمنطلقات: 1 – تنمية الأفكار وتشجيع المبادرات: فالأفكار البناءة والجادة والمتجددة هي رهان العمل الجمعوي وكل جمعية تقمع الأفكار في مهدها، لا شك ستقبر المبادرات في عقول أصحابها، لتجد نفسها في الأخير في متاهة الاجترار والضحالة والتجاوز والإحباط والعجز عن إبداع الأفكار التي من شأنها إخراج الجمعية من دوامة القصور والدوران الفارغ، مما يجعل بعد ذلك الجمعية تنتقل من وسيلة للرقي والمساهمة في حل الأزمة إلى أزمة في حد ذاتها يتيه أصحابها في دواليب مشاكلها المعقدة والمتراكمة والدائمة. 2 – إدارة متخصصة في إطار التعاون والتكامل: فالمهام الإدارية أكبر من أن يقوم بها فرد أو أفراد مهما أوتوا من الحنكة والقوة والتضحية المستمرة، والجمعية كما يقال جمعية (يعني مؤسسة) وليست فردية (بمعنى ملكية) يقوم صاحبها أو المتنفذون فيها بجميع الأشغال حتى لو لم يتقنوا أيا منها. في كل جمعية هناك أدوار أساسية لابد أن يضطلع بها أصحابها كما انتدبوا أو انتدبوا أنفسهم لذلك، ومنها المهام الوظيفية من الرئاسة والكتابة العامة وأمانة المال والمحافظة وغيرها، ثم على الجميع – بمقتضى الوضوح والشفافية – أن يضع ما يقوم به رهن إشارة الجميع في المكتب على الأقل، إن لم يكن رهن إشارة غير أعضاء المكتب من مسؤولي الجمعية وأعضائها ممن لهم حق الاطلاع، أو حتى غيرهم من الرواد وممن يرغبون في الاطلاع على ذلك بموجب الحق في المعلومة. لكن، أين كل هذا من بعض الجمعيات التي يقوم رئيسها بمهام العلاقات الخارجية وأشغال الكتابة العامة نيابة عن كاتبه الذي ليس بينه وبين الكتابة إلا الخير، بل و ربما دبج الرئيس المسكين حتى التقارير المالية، خاصة إذا كان لديه أمين مال يعتبر أن تقاريره المالية – إن وجدت لديه – إنما هي شأن خاص ينبغي أن يوضع في محفظته وفي منزله فلا رئيس يطلع عليه فيحاسبه ولا أمين مركزي يجالسه فيجتبي منه ؟!. 3 – إدارة ذات مشروع تنموي حقيقي: فكم من مشاريع تافهة تتبناها الجمعيات في حين أن مناطقها الجغرافية وشرائحها السكانية في أمس الحاجة إلى غيرها من المبادرات والمشاريع، الناس العقلاء لا يجتمعون على العبث ولا على المفسدة مهما غلفها أصحابها بالمصلحة، والمشاريع ما كان من الثقافة وإليها وبها دام وازدهر وما كان منها إلى غيرذلك انقطع وانحصر، وكم تستطيع جمعياتنا أن تفعل في الشأن المحلي و الجهوي أو الوطني أي شأن، لا أبالغ إذا قلت أن عطاء بعض الجمعيات الجادة و المحترمة قد تجاوز وفي فترات وجيزة حتى عطاء بعض الجماعات المحلية، بل عطاء بعض المندوبيات القطاعية التي قد تكون موجودة ولكنها ضعيفة أو قد تكون غير موجودة بالمطلق، فما بالك إذا كان هناك تنسيق و تعاون بين الواجهتين الرسمية والمدنية وبينهما وبين غيرهما من الواجهات الممكنة وطنيا ودوليا، كل ذلك ولا شك سيجلب المصالح الكبرى للمنطقة وشرائحها الاجتماعية، ولكن النظرة القصيرة والتعامل السياسوي بين الأطراف المختلفة من سلطات إدارية أو جماعات محلية أو جمعيات مدنية غالبا ما يفوت أكبر المصالح على الجميع، في وقت أصبحت المقاربة التنمية اليوم من القرار المركزي إلى الحكامة التشاركية، هكذا فكل الأرقام موجودة على الساحة،وكل المشاريع متبناة في الواقع ولا سبيل لتنمية مندمجة ومستدامة شئنا أم أبينا إلا بالتوافق و التعاون اللازم ما أمكن. 4 – إدارة ذات فكر مركزي استراتيجي ومستقبلي: فكر مركزي يجعل همه الأساسي كما قلنا هو تنمية الأعمال الجمعوية وتشجيع المبادرات في هذا الصدد وبدل الجهد من أجل توفير اللازم من الوسائل والإمكانيات لذلك. فكر استراتيجي يستطيع ترتيب كل المبادرات، وتنظيم كل الأنشطة واستثمار كل الوسائل، والإنفتاح على كل الطاقات والكفاءات، ليضع كل منها لبنته الخاصة في صرح البناء الجماعي ويقطف ثمرة من ثمرات العطاء المجتمعي، فكر مستقبلي يحرر العمل الجمعوي مما قد يعترضه من العراقيل التي قد تأسر فعله في الهامش أو تجمد سيره في الواقع وتحبس نموه في المفيد، فتقعد به في فناء الفراغ أو تتيه به خارج الأهداف المرسومة و الأدوار المطلوبة، الفكر المستقبلي هو الذي يستطيع إنتاج الأفكار المتعددة و البدائل غير المحدودة، ووحدها الأفكار البناءة و القوة الإقتراحية المعطاءة تستطيع فتح العمل الجمعوي على مصراعيه وخارج الصناديق كما يقال، حتى يختار منه قياديوه ما وجب واستطاعوه و ينال منه رواده حسب الجهد ما يلبي الحاجيات. 2- تنمية الإدارة: إن إدارة التنمية بالمواصفات السابقة لن تحقق ذاتها ولا أهدافها إلا بتنمية نفسها خاصة في الجوانب التالية: 1 – تنمية الضبط والتسيير الإداري: أو ما يمكن أن نسميه تنظيم و إدارة الأعمال الجمعوية، فهذا جوهر عملها ومبرر وجودها الأساسي، لذا ينبغي أن تعمقه في أفرادها و أن ترقى به لديهم منفتحة في ذلك على تقنيات العصر في التوثيق و التواصل، في التقرير و الإعلان..، لأن الأعمال الجمعوية الناجحة كما يقال لابد لها من خمسة مراحل لا يغني بعضها عن بعض: الفكرة والإعداد لها.. حسن تنزيلها.. تقييمها.. والتوثيق لها.. ولاشك أن المتتبع للعمل الجمعوي كثيرا ما يدرك مدى التدني الفادح الذي قد تتسم به جل هذه الأبعاد خاصة الأبعاد التواصلية الإعلامية أوما يتصل بها من الأبعاد التقريرية التوثيقية، وإن كانت الجمعية جهوية أو وطنية وذات فروع ؟!. هذا في ما بأيديها من وضع المخططات و المشاريع الثاقفية، توضيح الروى ووضع البرامج والميزانيات، التقارير واللافتات والإعلانات، التكاوين وتبادل التجارب، فكيف بما قد يكون خارجا عن إرادتها و إمكانياتها كتنمية الموارد المالية واستقطاب أو استيعاب الموارد البشرية الجديدة؟!، كم من فرع جمعية وطنية لا يتواصل حتى مع مكتبه الوطني؟، كم من جمعية لا تستطيع التوفر على مقر لها وإذا حصلت عليه لا تسطيع تسييره بإحكام؟، كم مكتب مركزي لا يعرف فيما تتخبط فيه فروعه حتى إذا علم عجز عن حل مشاكلها؟، كم من جمعية لا تتوفر على تقرير سنوي لأنشطتها وماليتها؟، لاتعقد جموعها العامة ولا ينتخب روادها مكاتبها..؟!.هذا كله مما ينبغي تجاوزه في عملنا الجمعوي إذا كنا فعلا نروم مجتمعا مدنيا يستحق أن يكون شريكا تنمويا فعليا و فاعلا، وأعتقد أن لدى الجمعويين من الخبرة والتجربة ما يؤهلهم لذلك إذا أدركوا فقط حجم مسؤوليتهم المدنية ورغبوا في القبض على الزمن التنموي و الثقافي الضائع. 2 – تنمية الاهتمام بالتكوين وبأفكار إبداعية: بواسطة الثقافة و المناقشة و متابعة الأحداث و المستجدات و خاصة في المجالات الثقافية و حركية المجتمع وحراكاته المدنية، لإن الاستسلام للواقع و خمول الفكر لن يولدا لدى المرء غير الفتور و التقاعس و التطبيع مع الواقع الرديء و التبلد به، لذا علينا أن نتسائل دائما عن وسائل العمل ونبحث عن أفكار للتغيير، وننخرط وننسق مع المتاح من مثل هذه المؤسسات التي تصبو إلى هذا الغد الوطني الأفضل، علينا أن نتساءل دائما عن ما حدث ويحدث؟، ما دورنا وماذا نستطيع أن نعمل وكيف؟. علينا أن ندرك وبكل وضوح أن المجالات الإدارية بمثابة حلقات متماسكة وكل تقنية تدبيرية بمثابة مفتاح إداري، وإن غياب أو إهمال أي حلقة إدارية من مخططات ثقافية ورؤية تربوية، وبرامج وميزانيات، واجتماعات ومتابعات، و تقارير ومراسلات، كل ذلك يشكل خللا في العمل برمته، سواء على مستوى الجمعية أو على مستوى المتعاونين معها أو المسؤولين عليها.. ولكن إتقان هذه الأساليب الإدارية لاتغني فيها مجرد الرغبة في الإتقان عن تملك التقنيات والوسائل و التحكم فيها، فإلى أي حد نتقن تقنية الاجتماع؟، أسلوب الإعلان؟، مضمون التقرير؟، شكل المراسلة؟، أبواب الميزانية؟، سياسة الانفتاح؟، إلى غير ذلك مما يستلزمه العمل الجمعوي و مما لم تعد تجربتنا المدنية تسمح بعدم الإلمام به فكيف بالأحرى الإخلال به؟. 3 – تنمية الأخوة والثقة والمشاركة والتعاون و التواصل والانفتاح: وذلك بالتفكير الجماعي في الأعمال و التعاون على إنجازها، لأن الإدارة الناجحة هي إدارة الفريق، عمل المكتب كل المكتب، بل و الأندية و اللجن، وطاقة الفرد مهما كانت فهي محدودة، وغيرمستوعبة، وغير دائمة..، و أفكاره مهما بدت رائعة فقد تكون قاصرة..، ولكن الفريق لن يعمل أو يكون عمله في المستوى المطلوب و المردودية المأمولة إذا لم تسد وسطه الثقة المتبادلة والأخوة والمحبة و الألفة والمودة و الإيمان الجماعي بأهمية الأعمال و تقاسم المسؤوليات والأدوار بما يستوعب الجميع في سداد وتكامل، لذا على المسؤول الإداري أن يتسائل دائما مادور فلان وعلان، كما على فلان وعلان أن يتساءلا ما دورنا نحن لا نعمل والناس يعملون؟. قال الشاعر: قدم لنفسك ما شئت قبل الموت في مهل // فإن حظك بعد الموت منقطع. وقال آخر : فخذ لنفسك اليوم نورا تستضيء به // يوم اقتسام الورى الأنساب بالرتب. وقد تكون أعمالنا الجمعوية قاصرة، تلبي حاجيات البعض فيرضى، ولا تلبي حاجيات البعض الآخر فيسخط، لكن أن يسخط الجمعويون بعضهم على بعض وتتمزق لحمتهم الأخوية وتنقلب ألفتهم عداء وبغضا، ويتحول الخلاف في الأراء إلى حزازت و خلاف الذوات، فهذا ما لا خير فيه بالمطلق؟! 4 – تنمية الإيمان بالعمل و الإخلاص فيه لله تعالى: أو بمعنى آخر تجديد الإيمان بالعمل وتصفية القصد فيه لله تعالى، فالإيمان وحده من يحمل صاحبه على التضحية والتضحية الجبارة لأنها وحدها تحقق الأهداف بفضل الله، وما ينقدنا من الفتور و الدعة أن تكون لنا أهداف في حياتنا وهي ولا شك موجودة، ولكن، لن نكون صادقين ولا جادين في تحقيقها إذا لم نقدم جلائل الأعمال لتحقيق هذه الأهداف، ووحده الإيمان بالأهداف والطمع في الأجر والثواب و الرضا بالإنجازات التنموية والمكتسبات الثقافية ورؤيتها تتحقق على ارض الواقع ويستفيد منها خلق الله، هذا سيجعلنا نضحي من أجلها أكثر، إذن، وحدها التضحية تحقق الأهداف، ووحده بتحقق الأهداف يكون لحياتنا طعما وإيجابية وحلاوة ومعنى، و وحده بالإخلاص لله تعالى تدوم هذه الحلاوة و المعنى في الدنيا ولها ما بعدها في الآخرة، أفلا يستحق مثل هذا أن نضحي من أجله كل التضحيات، ونتحمل من أجله كل الأعباء ومع أناس قد يرضون فيشجعون وقد يسخطون فيعرقلون، قد ينالون فيمدحون وقد يحرمون فيعتبون، قد نميل إليهم و قد لا نميل،قد يوافقوننا في الرأي وقد يخالفون، ولكن مصلحة العمل تقتضي منا التعاون والعمل على كل حال، ولنا خير مثال في المتعاونين العابرين للقارات وقد يكاد لا يجمع بينهم شيء(هم)، وأيضا، في من قد يكاد يجمع بينهم كل شيء ولا يكادون يتعاونون على أي شيء(نحن)؟!.