إلى ما في فتوى الزمزمي من الخطأ والوهم كتبه الفقير إلى عفو ربه أحمد بن محمد الشبي السوسي بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، له الحمد في الأولى والآخرة وهو الحكيم الخبير، واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيى ويميت وهو كل شيء قدير. وأشهد أن سيدنا ومولانا محمدا عبده ورسوله، السراج المنير، والبشير النذير صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا . ثم أما بعد، فاجأنا النائب البرلماني عبد البارئ الزمزمي الذي كان خطيبا سابقا في أحد مساجد الدارالبيضاء بفتوى أخرى مثيرة، على عادته في الإغراب والإثارة، فهو عافانا الله وإياه لا تسمع له حسا ولا صوتا في قضايا الفساد والظلم والاستبداد، والقمع، والتطاول الممنهج على شرع الله، بل ينكمش وينطفئ حتى يخرج بآبدة من أوابده، وغريبة من غرائبه، تعيد الأضواء إليه، ويتلقفها شياطين الإنسن من فمه، وينفخون فيها وفي صاحبها، لكي تكون سبيلا للطعن في الشريعة المطهرة، وذريعة للتنذر على فقهاء الدين، واتخاذهم بين الناس سخريا، ورمزا للغباوة والغفلة، ووسيلة للقول بأن الدين لا يساير العصر، ولا يواكب ما يمور في العالم من مظاهر النهوض والجدة والحداثة والتقدم، بل هو حبيس الميضأة، ووحم الحامل بالخمر، ونكاح اليد، وجماع الجثت وغيرها من غرائب القول وشواذه . وطبعا ما يسمى اليوم بالفقهاء هم من أعطوا الذريعة لذلك وفتحوا أفواههم أكثر من اللازم حيث يجب أن يصمتوا، وتقتحموا مجالات لا يحسنونها، ونافسوا المغنين والساسة على الظهور في الشاشات والقنوات، خوفا من الانطفاء والنسيان. إن تلك الفتوى وتوابعها هي ما حز في نفسي وضاق لها صدري فأردت أن أرد أوهام هذا الشخص، وأبين له خطأه وخطله، وأدعو إلى تقوى الله في فتاويه الغريبة، وشطحاته المثيرة . إلا أنه قبل أن أبسط القول في فتواه أضع هنا مقدمات ضرورية يجب الالتزام بها قبل أي جواب عن أي فتوى. المقدمة الأولى : إن الفتوى لا تكون واجبة وجوابا عينيا على المفتي إلا إذا لم يكن في البلد مفت غيره، أما مع وجود مؤسسات رسمية كالمجالس العلمية، أو مع وجود علماء وفقهاء آخرين . فإن الفتوى حينذاك لا تكون واجبة على المفتي، ويستطيع أن يسكت ويمتنع عن الجواب، أو يحيل على غيره. ولا يتناوله الوعيد المذكور في الحديث: من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار (1) . ----------------------------------------------------------------------------------------------------------- رواه أبو داود في كتاب العلم , باب كراهية منع العلم . ورواه الترمذي في كتاب العلم باب ما جاء في كتمان العلم كلاهما من حديث أبي هريرة وحسنه الترميذي . قال ابن الصلاح : إذا استفتي المفتي وليس في الناحية غيره تعين عليه الجواب، ثم نقل عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أنه قال : أدركت عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل أحدهم عن المسألة، فيردها هذا إلى هذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول " (1) وذكر الإمام النووي " أن الإفتاء فرض عين إذا لم يكن بالبلدة إلا مفت واحد، فيأثم بعدم الإفتاء، وفرض كفاية إذا تعدد المفتون بالبلدة (2) معنى أنه فرض كفاية أن له أن يفتي السائل، وله أن يمتنع، وإذا امتنع لم يأثم لأن في غيره كفاية عنه . وإذا كان الأمر كذلك فلا يجوز في هذا العصر الشرع في الفتوى، والتقحم في مجاهلها، لتوفر العلماء والمختصين، وما ينفي عن الفقيه أي حرج أو خوف من الإثم. ولو سلك الزمزمي هذا المسلك الآمن في فتاويه المهزوزة. لكفى نفسه والمومنين ورطات شتى . ولكن : أمرتهم أمري بمنعرج اللوى فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغد (3) ------------------------------------------------------------------- أدب المفتي والمستفتي. تقي الدين ابن الصلاح . صفحة 75 بتحقيق موفق عبد الله عبد القادر – مكتبة العلوم والحكم المدينةالمنورة – الطبعة الثانية 1423 ه المجموع . 1 – 101 دار إحياء التراث العربي – الطبعة الأولى بدون تاريخ من جملة أبيات للشاعر دريد بن الصمة. ومن جملتها بيته الشهير وهل أنا إلا من غزية إن غوت غويت، وأن ترشد غزية أرسد المقدمة الثانية : على المفتي في الدين أن يتأنى حتى يفهم السؤال جيدا، ثم يثبت ويتريت أكثر حين يجيب، قال النووي قال العيمري قال بعض العلماء : ينبغي أن يكون توقفه في المسألة السهلة كالصعبة ليعتاده، وكان محمد بن الحسن يفعله " (1) أي يتوقف في المسائل ويتأملها . وهو الفقيه الضخم . وقد روي عن ابن حصي الأسدي أنه قال : "إن أحدكم ليفتى في المسألة لو وردت على عمر بن الخطاب لجمع لها أهل بدر " (2) . ومسلك التأني والتثبت، ومسلك جهابذة الفقهاء، وفحولهم، نقل الإصلاح ابن الصلاح : أن رجلا أتي سحنون فسأله عن مسألة، فأقام يتردد إليه ثلاثة أيام، فقال له : مسألتي أصلحك الله، لي اليوم ثلاثة ايام فقال له : وما أصنع لك يا خليلي، مسألتك معضلة، وفيها أقاويل وأنا متحير في ذلك . فقال له : وأنت أصلحك الله لكل معضلة . فقال له سحنون : هيهات يا ابن أخي، ليس بقولك هذا أبذل لك لحمي ودمي إلى النار، ما أكثر ما لا أعرف ! إن صبرت رجوت أن تنقلب بمسألتك، وإن أردت أن تمضي إلى غيري فامض، تجاب مسألتك في ساعة، فقال له : إنما جئت إليك، ولا استفتى غيرك، فقال له فاصبر عافاك الله . ثم أجابه بعد ذلك (3). وهذا ينافي تماما فتاوى الهاتف السريعة، كالوجبات السريعة التي لا تدري فيها ظروف السائل، ولا ملابسات سؤاله، ولا أهداف استفساره، ولا تفاصيل الأمر، بل أنت في عماء عن ما تجيب وعن من تجيب . ومن مزايا التأني أنه إذا لم يتضح الجواب، أو التثبت في مقدماته يستعين المفتي بغيره من أهل العلم والذكر. قال تعالى : " فاسأل به خبيرا " [الفرقان] وقال تعالى : " ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم، ولولا فضل الله عليكم ورحمته لا تبعتم الشيطان إلا قليلا " . [النساء] . وبذلك يكون المفتي في مأمن من الزيغ والإثم . ------------------------------------------------------------------- المجموع /1/107/ أدب المفتي والمستفتي – 76 – وانظر سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي /4/579 مكتبة الصفا . القاهرة . الطبعة الأولى 1424 ه . أدب المفتي والمستفتي / 81 - 82 المقدمة الثالثة : لا ينبغي للمفتي أن يجيب عن أسئلة لم تقع، وليست ملحة وقائمة، لأن كثيرا من الفارغين تشطح بهم عقولهم بعيدا فيفترضون ما لا يكون، ثم يبحثون له عن أجوبة واستفسارات افتراضية . وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كثرة السؤال (1). كما في الصحيح . وروى سهل بن سعد قال : كره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها " (2) وروى زهير بن حرب في كتاب العلم عن ابن عمر – رضي الله عنهما – قال : يأيها الناس لا تسألوا عما لم يكن، فإن عمر كان يلعن أو يسب من يسأل عما لم يكن (3) وروى أيضا أن زيد بن ثابت إذا سأله رجل عن شيء قال : الله (x) لكان هذا، فإن قال نعم تكلم فيه وإلا لم يتكلم (4) . ------------------------------------------------------------------ وهو في صحيح البخاري كتاب الأدب - صحيح مسلم – كتاب القضية . باب النهي عن كثرة المسائل من غير حاجة. من حديث المغيرة بن شعبة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله عز وجل حرم عليكم عقوق امهات، ووأد البنات. ومنعا وهات وكره لكم ثلاثا : قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال " . أخرجه مسلم في كتاب اللعان. أخرجه أحمد في المسند / / وزهير بن حرب في كتاب العلم /20/ وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله كتاب العلم / 34 / بتحقيق ناصر الدين الألباني – المكتب الإسلامي – بيروت – الطبعة الثانية 1403 ه . كتاب العلم / 20/ (x) قول الله – فيه استفهام وقسم أي والله لكان هذا الأمر وحصل. وحكم لفظ الجلالة في هذا هو الخفض جوازا. وقد أشار إلى هذه المسألة ابن بونة الشنقيطي في احمراره على ألفية ابن مالك فقال : والله جره جوازا ان حذف فعل وخافض وعوضن ألف اوها اواحكمن بأنه قطع همزته، ودونها جر سمع وهي توجيهات في غاية من الصرامة، أن لا يكون الفقيه منساقا وراء رغبات الغوغاء، أو مستجيبا لما يشتهون كل حين . المقدمة الرابعة : إذا سأل السائل عما لا ينفعه في دينه ولا دنياه. أو كان له غرض سيء وراء سؤاله. فلا يجب على المفتي أن يجيبه. والأصل في ذلك قوله تعالى : " يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج " [البقرة] . وقد ذكر أهل التفسير أنه عليه الصلاة والسلام سئل : ما بال الهلال يبدو رقيا كالخيط، ثم لا يزال ينمو حتى يصير بدرا، ثم ينقص إلى أن يصير كما كان ؟ فأنزل الله الآية (1) وأجابهم بما ينفعهم، وترك عين سؤالهم. وقد ذكر الشيخ ابوإسحاق الشاطبي في كتابه " الموافقات " (2) عشرة مواضيع للأسئلة التي لا ينبغي الجواب عنها، وذكر منها السؤال عما لا ينفع في الدين كسؤال عبد الله بن حذافة : من أبى ؟ وكالسؤال من غير احتياج إليه في الوقت، والسؤال عن صعاب المسائل وشرارها، وسؤال التعنت، والإفحام والجدال، وغيرها مما بسطه وأفاض فيه القول في كتابه المذكور. وفي هذا الموطن تتجلى حصافة الفقيه، وذكاءه، ونظره السديد. فيوازن ويعاير ثم يجيب أو يسكت حسب الظرف والداعي والأهمية. وقد روي عن ابي مسعود رضي الله عنه : " من أفتى الناس في كل ما يستفتونه فهو مجنون " (3) ----------------------------------------------------------------- راجع الجامع لأحكام القرآن- للإمام القرطبي /2/307 . المكتبة التوفيقية – دون تاريخ الطبع كتاب الموافقات- لأبي إسحاق الشاطبي /4/188 دار الفكر . دون تاريخ الطبع أخرجه زهير بن حرب في كتاب العلم / 10/ وانظر الاداب الشرعية لابن مفلح /2/82 / دار الجيل بيروت – الطبعة الأولى 1417 ه . إذن على الفقيه أن يوصد هذا الباب، كي لا يتخذ السفهاء مطية لأهوائهم، ومعبرا إلى شهواتهم. المقدمة الأخيرة على المفتي أن يعتصم بكلمة " لا أدري " في أغلب فتاويه، لكي ينجو من الخطأ والجهل. قال أحمد بن حنبل سمعت الشافعي يقول سمعت مالكا قال سمعت محمد بن عجلان يقول : إذا أغفل العالم لا أدري أصيبت مقاتله " وقال الشعبي : لا أدري نصف العلم . وأول من أسس ذلك المنهج الأرشد هم الملائكة إذ قالوا : سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت لعليم الحكيم " . [البقرة]. وهو المنهج النبوي إذ يقول أعلم الخلق – صلى الله عليه وسلم – وقد سئل عن خير البقاع في الأرض وشرها، فقال : لا أدري حتى اسأل جبريل- عليه السلام – فلما سأل جبريل قال : لا أدري حتى اسأل رب العزة ... " فكان ذلك منهجا ومسلكا لأولي الألباب من أهل العلم، يلجأون إليه كلما احتاروا في أمر، لم يكن لهم فيه حجة وأثر. فعصموا دينهم وورعهم، ونجوا أن يقعوا تحت طائلة الوعيد، قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون " [الأعراف]. وهي – كما ترى – مقدمات ضرورية، يفهم ما وضعه الإسلام العظيم من ضوابط للفتوى كي لا تكون حمى مستباحا، وألعوبة للتسلي، وتزجية الفراغ، ومرتعا لكل الناس. وأنها كفيلة لو استعمل الزمزمي إحداها – أقول إحداها فقط – أن تنجو به من الورطة التي وقع فيها بعد فتواه الغريبة، ما اضطره بعد ذلك إلى إصدار شريط آخر، يبرر فيه ويفسر، ويحاول جاهدا أن يتملص مما حشر فيه نفسه، بعد ما كان أحدوثة العاقلين، وأضحوكة للمستهزئين. كان من الأجدر به، أن ينأى بنفسه عن هذه الأمور، وأن لا يجيب عن هذه الفتاوى الشاذة التي لا تكاد تقع، والتي يبادر هو إليها ويثيرها من غير داع لها، لا سبب معقول يستدعيها. وقد عرف فيه بعض خبئاء الصحافة هذه الشنشنة من التسرع والتهور فاستغلوها إلى أبعد حد. فكانوا بين الفينة والأخرى. يستلون منه مثلها، ويرمون بها في الناس، إما ترويجا لصحف كاسدة، أو اشغالا عن قضايا ملتهبة، ولهم بعد ذلك فيها مآرب أخرى. قد رشحوك لأمر لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل بيد أنه وقد حصل ما حصل، وصدرت تلك الفتوى، وانتشرت بين الناس وفي المواقع الالكترونية، وتدوولت على نطاق واسع، أصبح واجبا علينا أن نبين خطأها، ونكشف عوارها وننزه دين الله عنها، وقبل ذلك نتساءل ها هي الحكاية من البداية ؟ بدأ ذلك حين اتصلت إحدى الجرائد المغربية بالزمزمي تسأله : هل يجوز للزوج أن يجامع زوجته الميتة؟ لاحظوا خبت الجريدة في طرح مثل هذا السؤال الممجوج ! وكيف تجاهلت قضايا يا عظمى في غاية الخطورة يجب معرفة رأي الإسلام فيها ! خصوصا فيما يجري في العالم حاليا من مظالم ومجازر، ولكنها تجاوزت كل ذلك وتجاهلته إلى مثل هذا السؤال المقزز. طبعا الزمزمي ابتلع الطعم مرة أخرى، وراح يجيبهم في الهاتف، نعم في الهاتف : قائلا " ان الدين الإسلامي يبيح ممارسة الجنس على الجثث، بشرط إذا كان الطرفان يربطهما عقد القران قبل الموت، وتابع قائلا : "صرح إذا أراد الرجل / الزوج ممارسة الجنس مع جثة زوجته بعد ساعات من موتها، معتبرا أن الدين الإسلامي لم يحرمه على الأزواج " على أساس أن الزوجة حلال لزوجها حتى بعد مماته، وأن الموت لا يفسح العلاقة الزوجية، باعتبار أنه جاء في القرآن أن الزوج والزوجة يمكن أن يكونا في الجنة معا . ونفى أن يكون الموت يعادل الطلاق " (1) . إذن لم يكن لديه ليبيح هذا الفعل الشنيع سوى حجة واحدة ظل يرددها وهي أن الميتة لازالت زوجته، وأن الموت لم يبت ما يبنهما. وهي حجة داحضة لا تقوم على ساق ولا قدم، كما سيتضح لك من بعد. ويسكون ردي على هذه الفتوى المهزوزة السقيمة مبينا على بسط أمور أساسية لا يستطيع أحد أن يجادل فيها، وباتضاحها ترى سقوط إباحته، وتهافت حجته. أولا : إن مقصد الشرع الحكيم من النكاح أمران اساسيان. وهما لا يلغيان ما يستتبعه النكاح من حكم أخرى، ليست لها من الأهمية والقيمة مالهما. المقصد الأول هو الاستمتاع، وإشباع الغريزة، وتحقيق اللذة وهو ما يشير إليه قوله تعالى : " فما استمتعتم به منهن فآتوهن ألأجورهن فريضة " [النساء] . والمقصد الثاني : هو التناسل، وتكثير النوع، وهو ما يشير إليه قوله تعالى : " فلأن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم " [البقرة] ومعناه ابتغوا من وراء المباشرة والنكاح والولد والنسل . -------------------------------------------------------------------- (1) كل هذا نقلته عن أحد المواقع التي نقلت جوابه . وأنت حين تنظر في هذه الحادثة، فالغايتان ساقطتان منعدمتان، فلا الزوج هنا يمكن أن يستمتع بجثة هامدة خامدة كجذع شجرة لا حياة فيها ولا إحساس ولا حراك. ومن هنا اسقط الفقهاء الحد عن من زنى بإمرأة ميتة قالوا لأنه أتى ما لا يشتهى، وهي كذلك لا يتأتى منها شاذ خال من أي حكمة أو غاية إلا غاية ابتذال جسدا وامتهان حرمته. هنا نسأل أيسمح الشرع بمثل هذا الفعل العابث الجانح المستفز ؟ ! . ثانيا : أباح الشرع للزوج أن يتزوج قبل وفاتها بلحظة، وبعدها بلحظة لكي لا يحرم في أي حالة من حقه في النكاح، فهو لم يضع عوائق أمام هذا المطلب، فما الداعي بعد الحلال المبذول والمتاح للزوج أن يذهب إلى جثة ميتة، وامتهانها، وابتذالها بحثا عن شهوة مجنونة مريضة لا تتأتى من أي عاقل أبدا. ثالثا : في حال وجود الموت، تشيع في النفس مشاعر الرهبة والرعب، وإحساس بالانقباض، ما يتنافى كليا مع أحاسيس الشهوات، والاستمتاع باللذات، هما شعوران متنافيان متعاندان، لا يكادان يجتمعان ولهذا أخفت الصحابية أم سليم عن زوجها أبا طلحة خبر موت طفلهما إذا لو علم لما رغب في جماع أهله، ولا طابت نفسه بذلك والخبر وارد في الصحيح . هذا الإحساس الفطري الطبيعي هو الذي يتواءم مع الشرع أيضا . ففي صحيح البخاري من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال : " شهدنا بنتا لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال : ورسول الله جالس على القبر قال فرأيت عينه تدمعان قال فقال " هل منكم رجل لم يفارق الليلة " ؟ فقال أبو طلحة أنا قال " فأنزل " قال فنزل في قبرها" (1) وقد حرم النبي صلى الله عليه وسلم زوجها عثمان أن ينزلها في قبرها لأنه جامع في تلك الليلة . قال الحافظ : وفي هذا الحديث إيثار البعيد العهد عن الملاذ في موارة الميت – ولو كان امرأة – على الأب والزوج (2) وقال العيني : لعلها هي (أي العلة) أنه لما كان النزول في القبر لمعالجة أمر النساء، لم يرد أن يكون النازل فيه قريب العهد بمخالطة النساء، لتكون نفسه مطمئنة ساكنة كالناسية للشهوة، ويقال إن عثمان في تلك الليلة باشر جارية له فعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فلم يعجبه حيث شغل عن المريضة المحتضرة بها – وهي أم كلثوم زوجته بنت النبي – صلى الله عليه وسلم – فأراد أنه لا ينزل في قبرها معاتبة عليه " (3) . وفي كل الأحوال فمراد الشرع منسجم مع الميول الفطرية الطبيعية التي تستبعد في مثل هذا الموطن الميل إلى الشهوة واللذة. وهيهات أن يتساهل الشرع مع هذا الشذوذ في زوج انتظر إلى وفاة زوجته، فينبعث شبقه، وتتحرك غرازه، وتنعدم فيه مشاعر الاحترام التي يستدعيها المقام، فيتحول إلى حيوان شهواني مسعور مثل هذا الشخص لا يليق به إلا حدائق الحيوانات نوعا من المسخ المفترس . -------------------------------------------------------------------- صحيح البخاري . كتاب الجنائز – باب قول النبي صلى الله عليه وسلم يعذب الميت ببعض بكاء اهله عليه فتح البارئ /3/506/ عمدة القاري /6/105/ رابعا : الإنسان – حال موته – كائن ضعيف مسلوب الحركة والإرادة والحياة، لا يمنحه الحماية أن تنتهك حرمته وآدميته وكرامته إلا الدين الحنيف الذي ابقى للميت كل حقوق الحي. فحرم التلاعب في جسده، وسمى ذلك مثلة، ونهى عنه (1)، وقال : كسر عظم الميت ككسر الحي " (2) وحمى شرفه وسمعته: " لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا (3) وذهب بعيدا في حمايته إلى تحريم الجلوس على القبور، أو نبشها مما يمكن أن نسميه في الفقه بحقوق الموتى. الميت لا يستطيع أن يقبل أو يرفض، ولذلك لما أراد الله استبشاع الغيبة، فشبه المغتاب بمن يأكل لحم أخيه ميتا، باعتبار أن الغيبة لا تتم إلا في غياب الذي اغتيب، فهو لا يستطيع أن ينفي عن نفسه ما اتهم به، ولا أ يرد ما رمي به، فأشبه الواقع في عرضه آكل لحم أخيه الميت الذي لا يستطيع – بحكم موته – أن يتأوه أو يتظلم أو يستغيث او يدافع عن جسده. ومن هنا فإن الميت الذي لا يملك حولا ولا طولا، يستقبح بشدة ما يعمل به، ويستهجن ما يوتى في جسده. أترى الإسلام العظيم يسمح بذاك الامتهان والانتهاك ويقبله . -------------------------------------------------------------------- رواه ابو داود عن السياج بن عمران عن سمرة بن جندب قال " كان النبي صلى الله عليه وسلم يحثنا على الصدقة، وينهانا عن المثلة " . رواه ابو داود في كتاب الجنائز باب في الحفار يجد العظم هل يتنكب ذلك المكان وصححه الألباني ورواه أحمد /24620 / وابن ماجة رواه البخاري في كتاب الرقاق باب سكرات الموت من حديث عائشة رضي الله عنها وفي كتاب الجنائز باب النهي عن سب الأموات. خامسا : الجماع لا يتم إلا برضى الطرفين وقبولهما، يشتهي الزوج وتريد الزوجة فيتم الاتصال، لكن من حقها أن ترفض وتمنع، وغن كان الشرع يحثها على الاستجابة إذا لم يكن هناك سبب قوي يمنعها، لأن ذلك من حقوق الزوج عليها. قال صلى الله عليه وسلم : " إذا دعا الرجل زوجته لحاجته فلتاته، وإن كانت على التنور " (1). غير أن ذلك لا يلغي حقها في القبول أو الرفض، وان ذلك في يدها وأن الأمر يتم بإذنها ورضاها. قال صلى الله عليه وسلم : " إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت، فبات غضبان عليها، لعنتها الملائكة حتى تصبح "(2). ففي الحديث أنه دعاها. ومعنى ذلك أن الأمر بيدها . وأنها أبت وامتنعت، أي وذلك حقها في جسدها، وليس للزوج أن يكرهها أو يمارس عليها ذلك قسرا. والوعيد الذي ترتب عن ذلك مشروط بما إذا بات زوجها غضبان، أما إن تفهم عذرها، أو استرضته بشيء آخر، فرضي فلا يتناولها الوعيد المذكور. والحاصل أن جسدها هو ملكها، لها وحدها الحق أن تمنحه أولا فإذا امتنعت فلا سبيل إليه. والسؤال الآن إذا كان الأمر كذلك فمن أين لهذا الرجل أن يعرف رضاها وقبولها من غيره، وهي جثة هامدة صامتة، والقاعدة أن لا ينسب لساكت قول " فكيف به وهو ميت . إن هذا الرجل لص أعراض . ----------------------------------------------------------------- رواه النسائي والترمذي من حديث طلق بن علي وصححه الألباني في صحيح الجامع /534/ البخاري ومسلم عن أبي هريرة خاصة وقد ذكرنا لك أن الإسلام يحمي الموتى عن عبث الأحياء، ومن هذا المنظور نهى العلماء عن تقليم أظفار الميت أو حلق شعره واعتبروه بدعة كما في المدونة (1) وأمروا أن يجمع معه في كفنه ما قلم من أظفاره، أو حلق من شعره. لأن كل ذلك تصرف في ما لا تملك وليس لك عليه أي سلطان، وما تاتيه في هذا الجسد من وراء صاحبه يعتبر تعديا على حرمته، وانتهاكا لشرفه. وبعيدا جدا أن يسمح به الإسلام الحنيف. سادسا : هل جماع الجثث من المعروف الذي أمر الله به، أم من المنكر الذي نهى عنه، ولا سبيل إلى أمر ثالث. فإن شذ أحد فقال هو من لمعروف، رد بأنه لا يميل إليه الطبع السليم و لا تقبله النفس بل تستهجنه وتشمئز منه، ولا يرضاه عقل، فكيف يكون معروفا ! قال ابن القيم معلقا على قوله تعالى : " يامرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر " [الأعراف]، قال : وهل دلت الآية إلا على أنه أمرهم بالمعروف الذي تعرفه العقول، وتقر بحسنة الفطر، فأمرهم بما هو معروف في نفسه عند كل عقل سليم، ونهاهم عما هو منكر في الطباع والعقول بحيث إذا عرض على العقول السليمة أنكرته أشد الإنكار " (1). فلم يبق ذلك الفعل إلا أن يكون منكرا مما نهى الله عنه. إذ هو مستقذر مقزز ممجوج، تنفر منه الطباع السليمة، والنفوس السوية. والتحريم في الشريعة تابع إما للاستقذار، أو الضرر، فكل ما هو مستقذر يحرم، وكل ما هو ضار ثابت الضرر يحرم. فاكتنف هذا الفعل الشنيع التحريم من كل جوانبه، فكيف يباح!؟ وعلى أي أساس !؟. ------------------------------------------------------------------ (2) مفتاح دار السعادة /2/327 – 328 – دار ابن القيم – الطبعة الأولى 1425 ه سابعا : جماع الزوج لزوجته الميتة لا يجوز، لانقطاع رابطة الزوجية بالموت. وانفصالهما به، فليس أحدهما بعد الآن زوجا للآخر، أو زوجة له . بدليل أن لكل واحد منهما بعد وفاة الآخر أن يتزوج، فهي لها أن تتزوج بعد انقضاء عدتها ولو انقضت بعد نصف ساعة ولو ظل زوجها بعد مماته لحرم عليها ذلك، ولاعتبرت زانية بالثاني. كما أنه لو تزوج أربعا، فماتت الرابعة أن يتزوج بدلها، ولو هي ظلت زوجه لكانت تلك خامسة، ولحرم عليه ذلك. فتبين أن الموت يفصل بين الزوجين، ويبت ما بينهما أما دعوى أنها ستكون زوجته في الآخرة، فهي دعوى من لم يشم رائحة الفقه، ولم يعرف أسراره. ذلك لأنه كما قيل في المثل العربي : " أريها السها وتريني القمر " (1) لأن ما بين الأمرين مثل ما السماء والأرض. الفقه شرع للدنيا لا يتأثر بالآخرة في أحكامه. لأنها دار جزاء وثواب أو عقاب . والفقه لا يبنى على ما لا ينضبط . لن الرجل وزوجه قد يكونان زوجين في الجنة وقد لا يكونان . فامرأتا نوح ولوط – عليهما السلام – ليستا زوجتين في الجنة لهما – مثلا – أما استدلال المفتي بأن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة. فهذا مما علمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم – بالوحي كما علم أنه زوجته قبل أن تكون كذلك . قال صلى الله عليه وسلم : " أريتك في المنام مرتين، يحملك الملك في سرقة (x) من حرير، فيقول : هذه امرأتك، فأكشف عنها، فإذا أنت هي، فأقول : " ان يكن هذا من عند الله يمضه " (2) . فعلمه – عليه الصلاة والسلام – بأنها زوجته قبل أن تكون في واقع الأمر، هو مثل علمه بأنها ستكون زوجته في الجنة، وهذا العلم خصوصية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم – وليس لأحاد الناس، ورغم ذلك لا تترتب عليه أحكام فقهية، بدليل أن ذلك العلم لم يكف حتى استأذن أباها – وهو وليها – فرضي، واستأذن صاحبة الشأن عائشة رضي الله عنها – فرضيت، فتم الزواج على مقتضيات الشرع و قواعده، لا على مجرد العلم النبوي بأنها زوجته. فتبين أن الموت يفصل بين الزوجين فيكونان أجنبيين عن بعضهما رغم أنهما قد يكونان صالحين فيجتمعان في الجنة وقد لا يكونان . ولا ينضبط لا يصلح أن يكون حجة شرعية . وقد يقول قائل فما بال الزوج يغسل زوجته، وما بال الميراث بينهما. فنقول : إن ما بقي بعد موت أحدهما من حقوق كالميراث فذلك ناشيء بالتتبع على ما كان، مترتبا عن أدلة خاصة زائدة على ما قررناه. وإنما لم يكن الميراث في الطلاق لأنه تم برضاهما، بخلاف الموت فلا اختيار لهما فيه. لكن الانفصال حصل فيهما كما قررناه. والحق الذي بقي للزوج بعد وفاة زوجته هو غسلها، على خلاف فيه بين أهل العلم من قائل بالمنع كأبي حنيفة الذي قال : تغسل المرأة زوجها لأنها في عدة منه، ولا يغسلها هو " (1) وحجته ما رواه ابن شيبة عن مسروق قال : ماتت امرأة لعمر فقال : أنا كنت أولى بها إذا كانت حية ، فأما الآن فأنتهم أولى بها " (2) . لكن القول الحق هو أنه يجوز للزوج غسل زوجته بأدلة لا نحتاج إلى إيرادها. وهو مذهب مالك والشافعي والجمهور . إلا أن الذين أجازوا غسل الزوج زوجته الميتة اشترطوا عليها سترها، ولا يلف على يده خرقة أو ما شابه كي لا تباشر يده عورتها . قال الشيخ خليل : وستر من سرته لركبته ون زوجا " أي وستر غاسل الميت من سرته إلى ركبته وإن كان الغاسل زوجا أي والمغسول زوجة . قيل وجوبا أو استحبابا . ------------------------------------------------------------------- المحلى لابن حزم /5/120/ . وهو نظر عميق ودقيق من ابا حنيفة، بحكم أن الرجل بمجرد موت زوجته فقد انفصلت عنه، ولم يعد له بها رابط أو صلة بخلاف الزوجة التي أثر فيها الموت بالعدة فأصبحت لها صلة بذلك الميت لا تنفك عنه حتى تنتهي عدتها. فتحل لغيره. ذلك هو الفقه يا صاحبي . المصنف – ابن أبي شيبة 4 /409 قال الإمام النووي : إذا غسل أحد الزوجين الآخر، فينبغي أن يلف على يده خرقة لئلا يمس بشرته" ومبنى ذلك أنه يجب أن يتوقف النظر بالشهوة إلى الزوج أو الزوجة في هذه الحالة. قال النووي : قال الشيخ أبو حامد في تعليقه: مذهبنا أن المرأة إذا ماتت كان حكم نظر الزوج إليها بغير شهوة باقيا، وزال حكم نظره بشهوة (1) . إذن فالفقه يأخذ احتياطيا شديدا أن لا تتحرك أية رغبة من هذا القبيل أثناء الغسل الذي دعت إليه الحاجة، وكانت آخر ما منح الشرع للزوج من تصرف في زوجته. بل إن الحاجة إلى الاستدلال على جواز غسل الزوج لزوجته الميتة، حجة على أن لا يجوز له التصرف فيها إلا بنص من الشرع، وهو بيان واضح على أن كل ما سوى ذلك يفتقر إلى إذن من الله أو رسوله – صلى الله عليه وسلم – وما زاد على المنصوص عليه لا يكون إلا فعلا آثما . فدل استدلال المفتي في فتواه بجواز غسل الزوج زوجته الميتة على خلاف مراده فيه. لأن الغسل مأذون فيه . والجماع لم يؤذن له فيه. والغسل غير الجماع. فتبين أنه يتخبط ويحتج بما لا حجة فيه. على ضوء ما تقرر، ومن منطلق قواعد الشرع وكلياته، يتضح ما لا مجال للشك فيه ان جماع الزوج لزوجته الميتة فعل محرم، ومعصية وذنب، ومخالفة لشرع الله، وانتهاك لحرمة الميت وأن مقترف ذلك يجب أن يستغفر الله ويندم على ما فعل . وما وصلنا إليه من تحريم ذلك الفعل البشع، وتأثيم مقترفيه هو ما ذهب إليه علماء الإسلام الأولون، وفقهاؤه المعتبرون. وهو مذهب المالكية – رحمهم الله – إذ قال الشيخ عليش رحمه الله في شرحه لخليل : فلا يجد إن وطئ زوجته أو أمته بعد موتها وإن حرم نعم يؤدب " لا حظ قوله وإن حرم . أي فذلك مسلم به . ولا يقلل من حرمته أنه لا يجد . لأن كثيرا من المحرمات لا حد فيها. وهو مذهب الشافعية أيضا حتى عده ابن حجر الهيتمي الشافعي كبيرة من الكبائر في كتابه الزواج عن اقتراف الكبائر " وهو القول الراجح عند الحنابلة كما نقل صاحب الإنصاف عن القاضي . فتبين لك أن إباحة الزمزمي ذلك الفعل الشنيع هو شذوذ منه، وجرأة على القول في الدين بدون علم وخطأ فاحش دفع إليه التسرع والتعجل، وتقحم الفتوى بدون تثبت. أرجو منه أن يكف عن ذلك فيما ياتيه من فتاوى في مستقبل الأيام. ومن الغريب أنه حين أراد أن يدافع عن نفسه، ويبرر فتواه اخترع مصطلحا جديدا سماه " الحلال المنبوذ" وهي آبدة أخرى من أوابده. لا أريد أن أطيل الكلام في النقاش معه حولها. لأن الرجل لا تنقضي عجائبه. أسأل الله لي وله وللمسلمين عفو الله ورحمته وفضله . وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه. والحمد لله على نعمه أولا وآخرا ولا حول ولا قوة إلا بالله . المجموع – النووي - 5/85/