محمّد محمد خَطّابي * 05 يونيو, 2017 - 11:23:00 عن سنٍّ يناهز 86 عاماً غيّب الموتُ الكاتب الإسباني الشّهير خوان غويتيسولو في ساعةٍ مبكّرة من صباح يوم الأحد 4 يونيو الجاري، في منزله بمدينة مراكش، مخلفاً وراءه رصيداً كبيراً من الرّوايات، والدّراسات، عاش غويتيسولو فى مدينة مراكش منذ أوائل الثمانينيات من القرن الفارط، وعشقها وهام بها ، وهو من مواليد السادس من يناير1931 بمدينة برشلونة . يعتبر خوان غويتيسولو من أكبر الكتاب الإسبان الذين ترّبعوا على عرش الرواية المكتوبة باللغة الإسبانية فى أواخر القرن المنصرم،كان كاتباً فذاً، ومُحاوراً شجاعاً ، وباحثاً كبيراً، ومن أكبر المُعجبين بالثقافة العربية والإسلامية، والعالم العربي ،وكان له أخَوَان يشتغلان بالأدب كذلك ،وهما الشاعر خوسيه أغوستين غويتيسولو(1928-1999) ، والكاتب الأكاديمي لويس غويتيسولو المزداد بمدينة برشلونة كذلك عام 1935 . درس خوان غويتيسولو الحقوق فى جامعة برشلونة ثم سرعان ما إختطفه الأدب ، هاجر إلى باريس وعاش بها بين 1956 و1969،ثم عاش ردحاً من الزمن فى الولاياتالمتحدةالامريكية ما بين 1969 و 1975 حيث عمل أستاذاً للادب الإسباني بجامعات كاليفورنيا،وبوسطن ونيويورك. تتعدد أعماله، وإبداعاته ما بين الرواية،والقصّة، والدراسات الأدبية، والنقدية، والتاريخية، وبرع فى أدب الرحلات،والمذكرات ، ومثل صديقه غابرييل غارسيا ماركيز عمل غويتيسولو بالصحافة كذلك، وكان مراسلاً لجريدة " الباييس"( من أوسع الجرائد إنتشاراً فى إسبانيا اليوم) فى كل من الشيشان والبوسنة. خوان غويتيسولو حاصل على العديد من الجوائز الأدبية الكبرى فى إسبانيا وخارجها، منها جائزة سيرفانتيس الإسبانية ،والجائزة الوطنية الإسبانية للآداب، وجائزة بلانيطا الإسبانية المرموقة،وجائزة خوان رولفو فى الأدب الأمريكي اللاتيني،وجائزة الفنون والآداب من مؤسسة الثقافات الثلاث،فضلاً عن حصوله على جائزة أوكتافيو باث، وجائزة "فورمينتور"الدّولية الأدبية لعام 2012 ، وعلى أكبر جائزة أدبية في أوربا، وهي"أورباليا" التي تُمنح ببروكسيل ، والتي تُعتبر بمثابة نوبل في الآداب الأوربية، وهو حاصل كذلك على الجائزة الدولية "دون كيخوته دي لا مانشا"،وجائزة محمود درويش من الجامعة الفلسطينية بير زيت،فى رام الله وسواها من الجوائز الأخرى. ومنذعام 2007 أصبحت المكتبة التابعة لمعهد سيرفانتيس بمدينة طنجة (شمال المغرب) تحمل إسمه تكريماً له ولإبداعاته المتميّزة. يُعتبر غويتيسولو من أبرزالكتّاب الاسبان في الوقت الرّاهن لما يمتاز به من صوت أدبي متفرّد بين باقي الأدباء الإسبان، ولنوعية كتبه ورواياته المتعددة، التي أثارت جدلاً واسعاً ما زال يُسمع صداه إلى الآن ليس في إسبانيا وحسب،بل و في مختلف الأوساط الأوربية، والأمريكية، والإنجليزية كذلك لجرأتها ، وخاصّيتها ،وإشكالية الإبداع فيها التي تنطلق من التعامل مع اللغة من منظور تفجيرها، وتفكيكها وتغيير مسارها، و إعطائها نَفَساً، وَزَخَماً إبداعياً خلاّقاً. كما أنّه يُعتبر مثالاً للإستقلال الفكري، والثقافي، وممثّلا للتجديد في الأدب الاسباني المعاصر. عاشق الثقافة العربية ويجدر بنا التذكير فى هذا المقام بهذه المناسبة أنّ الأديب خوان غويتيسولو كان يكنّ محبّةً كبرى ، وتقديراً عظيماً للثقافة العربية على وجه العموم ،ويشعر بإعجاب كبير نحوها فى مختلف مجالات الفكر والخلق والإبداع حيثما نما وسما وترعرع سواء فى المشرق العربي أو فى المغرب، ففي معرض إعجابه بالحضارة الأندلسية ( إسلامية كانت أم مسيحية أو يهودية) و على وجه الخصوص بالثقافة العربية حيث نجده يقول بالحرف الواحد : " إنّ إستيعابي و تمثلي للفضول الأوروبّي الشّره جعلني أتحوّل شيئاً فشيئاً إلى مواطن إسباني من نوع آخر، عاشق لأنماط الحياة، والثقافات، واللغات من مختلف المناطق الجغرافية. لا ينحصر عشقي وإعجابي وَوَلَهيِ بكيبيدو، أو غونغورا،أو ستيرن،أو فولتير، أو مالارميه، أو جويس،بل يتعدّاه كذلك الى إبن عربي، وأبي نواس، وابن حزم، وإلى التركي جلال الدّين الرومي مولانا.انّ هناك عوامل إيجابية، وطاقات إبداعية هائلة مختلفة من كل نوع لهؤلاء وأولئك على حدّ سواء ، فعندما يكلّف ألمرءُ نفسه عناء تعلّم لغة صعبة جداً مثل اللغة العربية، وقد بلغ من السنّ عتيّا، فإنه ينبغي أن تكون هناك دواعٍ عميقة جدّاً لذلك، ( الكاتب الأرجنتيني المعروف خورخي لويس بورخيس قرّر تعلّم اللغة العربية كذلك عندما ناهز سنّه الثمانين) والحقيقة أنّ الدواعي موجودة. فأنا أعتقد أنه يستحيل فهم الثقافة الإسبانية وهضمها بشكل شامل و دقيق دون إستيعاب التراث الإسلامي، ومعرفة الثقافة العربية،وكلّما دخلتُ في هذه الثقافة، تأكّد لي بشكل جليّ قيمةَ وأهميةَ ما ورثناه عنها في شبه الجزيرة الايبيرية . ويردف الكاتبُ قائلاً في السّياق نفسه: "هناك من ناحية أخرى جانب المودّة في العلاقات الإنسانية التي إنعدمت في المجتمع الأوروبي الذي أعيش فيه و أنتمي إليه ،ففي مدينة مراكش، على سبيل المثال ،يمكنني أن أكتب وأن أقرأ ،كما يمكنني في الوقت ذاته الخروج للنّزهة والتحدّث إلى الناس البسطاء وليس مثل ما هو عليه الأمر في باريس ونيويورك اللتين إنعدمت فيهما العلاقات الإنسانية وتلاشت" . لقد قرأ خوان غويتيسولو – على حدّ تعبيره- : "نصوصاً دينية إسلامية كثيرة وهي نصوص تهمّه جدّاً، إنّه يقرأها مثلما يقرأ أعمالاً لماغلان، أو ابن عربي المُرسي،أو إبن حزم ، أو سان خوان دي لاكروث، بمعنى أنّها تبدو له وسيلة تعبير أدبيٍّ راقٍ جديرٍ بالإعجاب والتقدير". ساحة جامع الفنا.. تراث إنساني عالمي كان غويتيسولو يثير ردود فعل متباينة في الأوساط الأدبية و الثقافية الإسبانية، بكتبه أو مقالاته أو تصريحاته التي لا تخلو من نقد لاذع للمجتمع الاسباني، و للمثقفين الإسبان بشكل عام، ورميهم بروح الإنغلاق وعدم تفتّحهم على ما يدور حولهم من تظاهرات و تحركات ثقافية خاصة لدى جيرانهم العرب. كان يثير هذا الموضوع في مختلف محاضراته، أو تصريحاته أو كتاباته فى كلّ محفل ومنبر، نظراً لما كان يربطه بالعالم العربي من أواصر المودّة والإعجاب، حيث إحتلّت مدينة مراكش بالذّات حيّزاً مهمّاً في أدبه،وإبداعاته الرّوائية، وبالخصوص روايته المعروفة "مقبرة" أو في سيرته الذاتية "منطقة مسيّجة محظورة" أو في سواهما من المقالات والدراسات حول الثقافة الإسلامية ،والمسيحية أو الحضارة العربية على وجه العموم مثل كتابه "إسبانيا فى مواجهة التاريخ..فكّ العقد "، و حول الدّور الكبير الذي إضطلع به المسلمون خلال وجودهم بالأندلس، وإيمانه القويّ في مقدراتهم الابداعية، وعطاءاتهم الثرّة في مجالات العلوم على إختلافها، وفي حقول الآداب، والشعر، والفكر، والفلسفة ،والموسيقى، والمعمار، وحول التقارب الذي يناشده بين العرب واسبانيا بحكم العوامل التاريخية والحضارية والجغرافية، ودعوته المتواصلة الى إسدال ستائر الحقد والضغينة، وإزاحة حُجُب التجاهل والتنافر والتنابذ، والتعرّف عن قرب على ما يجري في البلدان العربية من غليان فكري، ونهضة ثقافية،وتطوّر حضاري في مختلف الميادين. إنّ المتتبّع للصّحافة الاسبانية في الآونة الأخيرة، يلاحظ مدى ما أثاره هذا الكاتب من موضوعات فكرية وثقافية لا تخلو من شجاعة أدبية ،وإنصاف محقّ للثقافة العربية والشهادة لها بمواكبة التيارات الفكرية المعاصرة، وإتّهام بني طينته الإسبان بالقصور في هذا المجال. إنه يعتبر فى هذا السّياق حصوة فى عيون المتزمّتين، والمُنغلقين من الإسبان وغير الإسبان الذين ينكرون على هذه الثقافة إشعاعَها، وتألقَها،وتفوّقَها، والأوج الذي ادركته على إمتداد تاريخها الطويل فى مختلف الأصقاع فى مشارق الأرض ومغاربها. كما أنّ غويتيسولو على غرار صديقه الكاتب الألماني الكبير الرّاحل "غونتر غراس" معروف بمناصرته ودفاعه كذلك عن القضية الفلسطينية على وجه الخصوص. ومعروف أنه لخوان غويتيسولو يؤول الفضل،من جانبٍ آخر، فى أن تصبح" ساحة جامع الفنا" الشهيرة بمدينة مرّاكش تراثاً إنسانياً عالميّاً شفويّاً لا مادياً من طرف منظمة اليونسكو العالمية منذ 18 مايو (أيار) من عام 2001 . حيث تقرّر ذلك على عهد بلديّه ومواطنه وصديقه فيديريكو مايور ثاراغوسا المدير العام لهذه المنظمة الدّولية فى ذلك الإبّان. إسبانيا وحضارة الأندلس دافع الكاتب خوان غويتيسولو دائماً قيد حياته عن مغزى التداخل والتكامل الثقافيين عكس ما يحدث في إسبانيا في الوقت الرّاهن من ميولات إقليمية وإنفصالية منكمشة ومنغلقة على نفسها، إلاّ أنّ غاية تدخّلاته وتصريحاته في هذا القبيل لم تكن مفهومة بما فيه الكفاية من قبل. إنّه يشير في هذا الصدد" إلى أنّ الدفاع عن التعدّد الثقافي والتنوّع الفكري أو تعدّد قنوات الثقافات القائمة في محيط بلد مّا شيء، وإقامة حواجز بين هذه الثقافات وتصنيفيها في حيازة فرضيات ذات مضامين معّينة وطنية أو محليّة شيء آخر مخالف للسّابق. إنّ ثقافة من هذا القبيل منكمشة على نفسها لهي ثقافة مُنكِرة لوجود سواها من الثقافات وإشعاعاتها، فالتزوير المتعمّد للماضي التاريخي، و تشذيب أو حذف أو التغاضي عن كلّ ما هو أجنبي من الثقافات، من شأنه أن يفقر أو يفسد الحقيقة في حدّ ذاتها. كما أنّ ذلك يشكّل حاجزاً يقف حجرعثرة في سبيل التداخل المتناغم للثقافات. إنّ المثال الأعلى للفكر التعدّدي هو أن يكون فكراً متقبّلاً ومفتوحاً خلاّقا. وإنطلاقاً من هذا المفهوم، فإنّنا نورّط أنفسنا ونجعلها تغيّر موقعها الحقيقي من تاريخ إسبانيا. إنّ النيّة المبّيتة التي تجرّد جميع تلك المُعطيات من عناصرها الصالحة بشكل تعسّفي لهويّة وطنية مّا ، لهي نيّة تتّسم بنظرة ضيّقة ،هامشية ،مزمّتة ومنغلقة، ذلك أنّ تاريخ أيّ شعب إنّما هو خلاصةُ التمازج الحضاري والتأثيرات الخارجية التي إستقبلها وهضمها، وإسبانيا خير مثال للبلدان التي إستفادت بشكل إيجابي مباشر،وكبير من الحضارة العربية التي تألقت، وازدهرت، وبلغت أوجها فوق ترابها زهاء ثمانية قرون ونيّف ، بالعطاءات الثرّة والخلق والإبداع في مختلف مجالات الحياة التي ما زالت تطبع الحياة الإسبانية، وتميّزها عن سواها حتى اليوم . أعماله وإبداعاته بدأ غويتيسولو يكتب القصص والرّوايات منذ سنّ 23 سنة (عام 1954 ) وتحمل أولى رواياته عنوان " لعبة الأيدي" التي وضعته فى ذلك الإبّان فى مصافّ كتّاب الواقعية السّحرية غداة الحرب ، إستقر فى باريس منذ عام 1956 ،وبعد أن إنتقل بين كوبا ومدينة ألميرية الإسبانية ، بدأ فى كتابة نوع جديد من الإبداع الرّوائي الذي سوف يتميّز به منذ ظهور روايته الشّهيرة " علامات هويّة" عام 1966 التي يقدّم فيها نظرةَ مَضَضٍ وتقزّزٍ عن إسبانيا على عهد الجنرال فرانكو على لسان " ألفارو ميننديولا" الذي كان فى الواقع يعبّر، وينطق باسم الأنا الآخر للكاتب نفسه . ومنذ أوائل الثمانينات من القرن المنصرم إنتقل خوان غويتيسولو لإقامته الدائمة التي حدّدها بين مديني باريس ومرّاكش حيث إستقر بصفة دائمة فى هذه المدينة المغربية التي أهداها روايته الكبرى " مقبرة" (1980)، ومن أعماله الأخرى : "الإشارات"،و" صراع فى الجنّة"، و"السّيرك" و"الجزيرة" و"نهاية الحفل" و"عناوين هويّة"و"دون خوليان"و" خوان بلا أرض" و"فضائل الطائر المنعزل" و"أسابيع الحديقة"و"ستارة الفم" و"فى ممالك الطوائف"(مذكّرات) وسواها من الأعمال الإبداعية الأخرى فى مثل "لمحة بعد المعركة" ، وملحمة ماركس"،و" موقع المواقع" ،حيث تمتزج فى هذه الأعمال جميعها هواجسُ الحياة ،وتداخل الأزمنة، وتوارد، وتواتر الأصوات ، والتصوّف ،والأبيات الشعرية العائدة لأرثيبيستي دي هيتا، وإشكاليات الهجرة ،وتطوّر اليسار بعد سقوط جدار برلين، وحرب البلقان، والعالم العربي بمسلميه ومسيحيّيه . يضاف إلى ذلك أعمال شكلت سيرته الذاتية أو مذكراته مثل " منطقة محظورة" ، ومن أشهر كتبه في العالم العربي هو كتابه المُترجم للغة العربية "إسبانيا في مواجهة التاريخ.. فكّ العقد" حيث يُدافع فيه عن الثقافة العربية، ودورها في التقريب بين الشعوب وسواها من الأعمال الإبداعية الاخرى. طرائفه مع جائزة سيرفانتيس فى الآداب قبل أن يستلم الكاتب الإسباني الذائع الصّيت خوان غويتيسولو فى عام 2015 جائزةَ "سيرفانتيس" فى الآداب الإسبانيّة التي تعتبر بمثابة نوبل فى العالم الناطق بهذه اللغة ، وخلال لقائه مع ثلّة من الصّحافيين والنقّاد الإسبان ، كان قد صرّح أنه أثناء حضوره مراسيم حفل تسليمه لهذه الجائزة بجامعة " ألْكَلاَ دِي إِنَارِيسْ " ( قلعة النّهر) بالقرب من العاصمة الإسبانية مدريد قائلاً :" لن أرتدي سترة السّهرة السّوداء،أو بدلة "شاكيّ " أيّ المِعطف التقليدي الذي عادةً ما يرتديه المكرّمون فى مثل هذه الحفلات الرّسمية كما طلب منّي القائمون على هذه التظاهرة الأدبية الكبرى، بل إنني سأرتدي خلال فعاليات هذه الحفل الأدبي بشكل عادي" ، وكان غويتيسولو قد برّر ذلك قائلاً كذلك :" إنّه من السّخف أن يُطلبَ من رجلٍ عجوز فى الخامسة والثمانين من عمره أن يرتدي أرديةً تنكّريّة ،وإذا كان لابدّ لي أن أفعل ذلك، فإنّني أوثر، وأفضّل أن أرتدي جلباباً مغربيّاً " ، وبالفعل لقد إرتدى غويتيسولو خلال حفل مراسيم تسلّمه لهذه الجائزة لباساً عادياً بسيطاً، متواضعاً، مُوليّاً ظهرَه للتقاليد المُتحجّرة المتَّبعة والمُجترّة فى مثل هذه المناسبات،وكان غويتيسولو بذلك فى نظر قرّائه والمُعجبين به بعيداً عن التصنّع، والتنكّر، والبهرجة ..!. * كاتب من المغرب، عضو الأكاديمية الإسبانية - الأمريكية للآداب والعلوم - بوغوطا- كولومبيا.