أشرت في مقال "صراع المواقع بين القوى العظمى يدفع ثمنها العالم العربي و الإسلامي باعتباره الحلقة الضعيفة في عالم تحكمه القوة.." إلى أن تحليلي يتجاوز الحيز القطري، و يركز على تحليل كلي يشمل العالم العربي و الإسلامي ، و الغاية من هذا المنحى التحليلي ، التأكيد و التنبيه على أن الحلول لم تعد ممكنة على المستوى الفردي و القطري، بل أن التغيير ينبغي أن يكون جماعي بوضع النظم السياسية القطرية على الطريق الصحيح عبر اختيار الأكفاء و تعديل منهجية و ضع و تنفيذ السياسات العمومية، كما أن النهوض على المستوى القطري لم يعد متاحا دون تكتل إقليمي له وزن ديموغرافي و اقتصادي و عسكري و جيوإستراتيجي، و من يعتقد بأنه قادر على تحقيق نهضة و تنمية مستقلة دون تكتل إقليمي فهو واهم و غير مدرك لحجم التحولات الآنية و المستقبلية … * برغماتية الصين: و قد حاولت في السابق توضيح برغماتية الصين و غيرها من الدول الصاعدة، التي تحاول تجاوز خلافاتها البنيوية و البحث عن المصالح المشتركة، فالصين و الهند بينهما خلافات و تضارب مصالح لا حد لها ، و مع ذلك يلتقيان في منظمة بريكس و يوسعان نطاق تعاونهما من أجل مجابهة مخاطر و تحديات أكبر، و هذا التوجه نود لو تنتقل عدواه إلى بلداننا المغاربية و العربية ، فلماذا بلداننا المغاربية لا زالت عاجزة عن تجاوز خلافات الماضي و الحاضر على نفس منوال ما فعلت بلدان البريكس و خاصة روسيا و الصين من جهة و الصين و الهند من جهة أخرى..؟ * التحالف الأوراسي: فبلدان التحالف الثلاثي الأوراسي "الصين و الهند و روسيا" ، بينها خلافات تاريخية و دخلت فيما بينها في حروب بخاصة الصين و الهند، لكن مع ذلك نجحت في تغليب المصالح المشتركة فبرغماتية قيادة هذه البلدان و مرونتها مكنتها من صناعة تحالفات بناءة ، فقيادات البلدان المؤسسة للمجموعة تخدع لمنطق المصالح المشترك و تغلب التعاون على الصراع و الصدام.. * انتقال العدوى: و نأمل أن تنتقل عدوى هذه البرغماتية و العقلانية لبلداننا العربية و المغاربية، و تعمل على تجاوز خلافاتها الشكلية أو المصيرية أو صفها بما تشاء ، لكن من الصعب الإنتقال إلى هذه المرحلة المتقدمة من التفكير الاستراتيجي و التوافق، ما دامت شعوب المنطقة غائبة أو مغيبة ، و جزء من النخب يطبل للباطل و يشجع على الانحدار بإتجاه الهاوية في مشهد يذكرنا بسحرة فرعون..للأسف الوضع في أغلب بلداننا العربية مثير للقلق ، و الاستمرار في سياسات التسويق و التسويف لا يقود إلا لمزيد من التدهور … * الظرفية الدولية: فالظرفية الدولية تتطلب حكومات شرعية و فعالة قادرة على التعامل بعقلانية و برغماتية مع الفرص التي أنتجها التنافس الدولي بين الشرق و الغرب، فإذا كانت الصين و روسيا و غيرها من بلدان "بريكس" تسعى لتقوية تحالف الشرق في مواجهة تحالف الغرب الذي تقوده أمريكا، فإن البلدان العربية و المغاربية مطالبة بدورها بدعم التبادلات التجارية البينية و رفع القيود على حركة السلع و رؤوس الأموال و الأشخاص و السعي نحو الإتفاق على عملة موحدة ولما لا الدينار الإسلامي، خاصة وأن هذه البلدان لها مقومات إقتصادية و جغرافية وبشرية جد مهمة، تجعل من العملة الموحدة ذات غطاء موثوق به، نظرا لتوفر هذا الفضاء على مخزون هائل من الموارد الطاقية والمعدنية ..وهو ما يجعلها تتوفر على إقتصاد حقيقي بعيد عن إقتصاد الفقاعات… * قيادات رشيدة: خاصة و أن المتغيرات الدولية ملائمة للمنطقة العربية و تحمل مجموعة من الفرص، فالتنافس الدائر بين القوى المهيمنة على كسب تأييد وود باقي البلدان الناشئة أو النامية ، و المنطقة المغاربية و العربية في قلب هذه المنافسة، بحكم ما تتوفر عليه من مؤهلات جيواستراتيجة و عوامل قوة و تأثير تمكنها من حصد نتائج إيجابية من لعبة الشطرنج الدائرة حاليا، لكن لا يمكن تحقيق إستفادة حقيقة دون توفر قيادات رشيدة و نظم حكم معبرة عن إرادة و مصالح شعوب المنطقة …و لا يمكن إفراز هذه القيادة الرشيدة دون وعي شعبي و دون تفعيل قانون الكم ..لكن تظل هذه التطلعات مكبلة و مقيدة ، مالم تسترد شعوب المنطقة إرادتها و تحررها الكامل و سيادتها الفعلية على أوطانها و مواردها و مصيرها ، علينا الإعتراف أن بلداننا لم تحصل على استقلالها التام … * ردم هوة الخلاف: كما ينبغي أن تلعب النخبة المثقفة و الفكرية و الاقتصادية دورا أكثر إيجابية في ردم هوة الخلاف، و نشر الفكر الوحودي و التوعية بمخاطر التفتيت و الشقاق و توضيح مكاسب الوحدة و التكامل و التعاون …و أن نبتعد قد الإمكان عن مواطن الخلاف و لو مؤقتا، و التركيز على المصالح و القيم المشتركة ، و التركيز على الفكرة بدل الشخصنة ، و على حد تعبير المرحوم مالك بن نبي الذي ميز بن عالم الأشياء و عالم الأفكار و عالم الأشخاص..و ينبغي أن يكون دستورنا في هذه المرحلة الحاسمة قوله تعالى :﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾( آل عمران -103).. و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون.. كاتب و أستاذ جامعي مغربي