لازالت أفريقيا أسيرة المخططات الغربية والأطماع الأجنبية، تصارع على جبهات متعددة للتقليل من هول العولمة الاقتصادية والثقافية، أرض الخيرات والمعادن النفيسة، يسيل لعاب الشركات للعبور إليها تحت يافطة الشراكة والتنمية الشاملة، الأرض البكر بأنهارها وسهولها الخضراء ومناخها المتنوع، تختزن من المعادن والثروات الطبيعية المتكاملة ما يجعلها مسرحا لمواجهة القوى العالمية الكبرى، بل يمكن اعتبار القرن الواحد والعشرين قرن الصراع على أفريقيا، أهلها يرغبون في الفرار والعبور من آفة الفقر والاستبداد السياسي وغياب الأفق، والمثقفون يحلمون بواقع جديد يعيد الاعتبار للذات والتاريخ . فالمستعمر ترك عقدة النقص في الأذهان والنفوس، التف على القيم ورسخ الأفكار عندما جاء مدججا بالسلاح والدين والمال، مزق الهوية وقلل من القيم الراسخة والأساطير، وما يتعلق بالتراث الشفهي الغني، جعل من التنوير خدعة في تقويض أحلام الأفريقي في بناء الحضارة على شاكلة ما يبتغيه ويرضيه، ولو رضي الأفريقي بالأنوار طواعية لكان التثاقف أداة في تبادل الخيرات المادية واللامادية . تتغلغل الصين اليوم في البرامج الاقتصادية الأفريقية من خلال الاستثمارات الضخمة، وإعادة تأهيل البنية التحتية، وما يتعلق بالقروض، إنها سياسة جديدة لاستعمار في حلة اقتصادية، إفريقيا ملزمة بالتسديد من خيراتها، ومرغمة أن تكون تابعة وخانعة، تشتري السلاح، وملزمة بوضع احتياطاتها الأجنبية في البنوك المركزية الغربية خصوصا في علاقة القارة بالاستعمار الكلاسيكي، القصد هنا فرنساوبريطانيا وإيطاليا . فالذاكرة الأفريقية لا زالت أسيرة الماضي، الإفريقي الجيد هو الذي يتعاون مع المستعمر الغربي، علما أن إفريقيا كانت سعيدة بقيمها وتاريخها وثقافتها الضاربة جذورها في التاريخ والمخيال الاجتماعي، لم تطلب القارة الأنوار الغربية، ولم تكن سعيدة بالعقلانية العلمية، التي عملت على اجتثاث كل ما هو أصيل وجميل، كل الأشياء تتداعى كما قال الروائي النيجيري "تشينو أتشيبي"، عن التداعي الذي طال المكان ورمزيته، ذلك الفضاء من الانسجام والتعايش الذي تسبب الاستعمار في تبديده، تهاوت القيم الجميلة وحلت القيم المفروضة من السياسي والقسيس، كلها قوانين قسرية بالقوة والتحايل، عارنا في الجزائر كما كتب سارتر، استعمار بغيض وغارق في العنصرية، يناقض ذاته بين الخطاب الموجه للداخل والخطاب الموجه لأبناء المستعمرات. يبقى الاستعمار واحدا في رأي فرانز فانون سواء كان في المارتينيك أو الجزائر، أهدافه معلنة وخفية. كان الاستعمار معرفيا وسياسيا واقتصاديا، نسف هذا الاستعمار الوحدة، وترك كدمات في نفوس الناس، أشعل الصراعات التي لازالت تعاني منها القارة عندما وضع الغرب عملاء، ونصب نخبة لا تملك تصورات معقولة في انتشال القارة من مخلفات المرحلة الاستعمارية . الإفريقي الرديء من يطالب باستقلالية القارة عن التدخلات الغربية المباشرة، والإفريقي الجيد من يسكت عن الاستغلال ويتعاون مع المستعمر، إنها مشكلة معقدة، وحلها يستلزم بالأساس أن يكون هناك وعي بالمرحلة، الوعي الجمعي في حالة سبات، والأرض التي كانت هادئة ومتناغمة في ثقافتها أصبح أهلها يفرون منها بحثا عن مكان آخر للعيش والسكينة، فرار الأفارقة من أوطانهم يوازيه قدوم مكثف للشركات العابرة للقرارات وللرساميل الأجنبية، وبناء للقواعد العسكرية، تغيرت السياسة في ظاهرها فأصبح الخطاب لينا ومفعما بالديمقراطية وثقافة حقوق الإنسان، وفي عمق الخطاب لازال الأفريقي أقل الأمم تحضرا أو هكذا نتلمس نوايا الخطاب الاستئصالي الكامن والظاهر، آراء صنعتها أقلام في مجال العلوم الإنسانية، وأفكار أخرى خاصة بالصراع بين البيض والسود، هناك نخب محلية رضعت من حليب الغرب، وتمرست أجيال في مدارسه، نخبة مغتربة عن تراثها وقيمها، التعليم الكولونيالي الذي تلقاه الأفريقي في المدارس التبشيرية، المعتقدات الأفريقية صارت تعني التخلف والتوحش، إنها لا تساير إيقاع العصر وتغيراته، الأدب الشفهي المسكون بالحكايات والمرويات من الأساطير والذكريات التي تحمل أسمى المعاني الخاصة بالمكان . ومع مرور الوقت تلاشت أحلام المثقفين الأفارقة في عودة الأوطان من جديد، أولئك الذين يكتبون باللغات الغربية خصوصا الانجليزية والفرنسية كرد فعل ضد الأفكار الخاطئة التي تصور الأفريقي معاد للحضارة والتنوير أو الأفريقي الذي يرفض التغيير والدخول في الأنوار والحداثة الغربية، مثقفون خبروا العقلية الغربية ودرسوا في جامعات الغرب، أهدافهم توصيل الحقيقة للكل، عن كل الأضرار التي لحقت القارة الأفريقية، غايتهم إيقاظ الوعي الاجتماعي والسياسي معا لأجل نهضة ذاتية . إقامة الرجل الأبيض في أفريقيا سبقتها دراسات معرفية شاملة عن العقليات والقيم والمعتقدات، نتائج العلوم الإنسانية المغلفة بالموضوعية والحياد، توظيف هذه المعارف من أجل الهيمنة والسيطرة على أفريقيا معرفيا وثقافيا، وبعد ذلك سياسيا واقتصاديا،حيث عملت بموجب هذه الأفكار على خلخلة المجتمعات الأفريقية وساهمت تفكيك الأبنية الثقافية، وزرع الشقاق بين سكانها، بدأت بتشييد الكنائس، وبدلت العلاقات التجارية التقليدية بالمال، شجعت على الملكية الخاصة وأدخلت أبناء الأفارقة للمدارس الجديدة في تعليم أبنائهم ما يتعلق بالقيم البديلة بلغة المستعمر، وعندما ينادي بعض المثقفين الأفارقة بتصفية استعمار العقل كما هو الشأن مع الروائي الكيني "نخوغي واثيونجو" فإن الدوافع هنا واضحة في تخليص أفريقيا من ترسبات الاستعمار الثقافي، والعودة من جديد للتراث الأفريقي لإصلاح ما تداعى من أشياء جميلة، يعني إعادة الاعتبار للذات وتصفية مخلفات الاستعمار، وهو ما يطلق عليه الآن مرحلة ما بعد الاستعمار، هذا الإرث الثقافي والامبريالي للاستعمار الغربي لازال مثارا للنقاش والجدال، تتعالى الأصوات المطالبة باعتراف الغرب بأخطائه وأضراره الجسيمة، والكف عن الاستغلال والاستنزاف للخيرات، المثال الحي من فرنسا التي تأبى الاعتراف بماضيها الاستعماري، وتقر على لسان رؤسائها بضرورة العمل من أجل الحقيقة، وحاجة أفريقيا أن تعي ذاتها ومستقبلها دون العودة الدائمة للماضي، القارة فتية وفي حاجة لمن يحكمها ويدبر أمرها غير كبار السن، تصريح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أمام الشباب الأفريقي أن فرنسا مدينة لأفريقيا، ونسبة كبيرة من الفرنسيين لهم علاقة وطيدة بالأفارقة، وسياسة الإدماج لازالت تفعل فعلها في المجتمع الفرنسي في مستويات عدة، اجتماعيا وسياسيا ورياضيا. إشادة ماكرون بإفريقيا من منطلق نسيان الماضي وإفراغ الذاكرة من الرواسب العالقة عند الناقمين والحاقدين على الاستعمار، أبناء المستعمر لا يتحملون المسؤولية في أخطاء الآباء ، وبدل الشعور بالعار والندم يجب النظر للمستقبل البعيد، أفريقيا كما قال تلك القارة التي تبهر العالم بأسره ، والتي تخيف الآخرين أحيانا ، والانبهار بكل ما تزخر به القارة من خيرات، والخوف مما تخفيه القارة من ضياع نفائسها وخيراتها الطبيعية، حتى أضحت أفريقيا رئة العالم ، هناك من يريد الولوج إليها تحت دوافع محاربة الإرهاب والتطرف، ومن يرغب في تنميتها تحت دافع الشراكة وإزالة الفقر ورفع المعاناة، لكن التحكم في معاملاتها التجارية والنقدية وسياستها المالية بقي على حاله من قبل فرنسا، هذا الأمر يشير ببساطة للتورط السلبي في استنزافها، ويشير كذلك لغياب الاستقلالية في القرار والتبعية العمياء، فكرة الارتباط المتين بين القارة والمستعمر لا يزال مستحيلا وصعبا، الأمر هنا ينطلي على فرنساوبريطانيا، فكلما سعى الأفريقي للتمرد أو الرغبة في تنويع الشراكة الاقتصادية أو خرج زعيم من الزعماء يرفض ويمتنع إلا وظهرت الدسائس للإجهاز عليه وتصفيته. "باتريس لومومبا" في الكونغو ومعارضته للمصالح البلجيكية، "توماس سانكارا" في بوركينافاسو ضد الهيمنة الفرنسية على خيرات البلاد، نيلسون مانديلا والمقاومة السلمية الطويلة ضد نظام الميز العنصري في جنوب إفريقيا ، القدافي والسعي الحثيث نحو الوحدة الأفريقية، وبالمقابل هناك الكثير من الحكام الذي تمردوا وقادوا انقلابات عسكرية، حافظوا على المصالح الغربية وتحالفوا مع المستعمر، نالوا الاعتراف فأصبحوا أصدقاء الغرب، كانت أقوالهم لا تعبر عن آمال وطموح الأفارقة في الإنعتاق والتحرر. الغرب الذي خان التنوير والفكر العقلاني، خان المبدأ القائم في نشر وتعميم النزعة الإنسانية ومبادئ السلام العالمي، أساء لنفسه عندما ترك إرثا مدمرا من الأفعال المشينة على سيكولوجية وذهنية الإنسان الإفريقي، الذي أحس بالغربة عن المكان، ضاق العيش بالناس فبدؤوا يفكرون في مغادرة أوطانهم، تنامي الهجرة من سواحل المحيط الأطلسي والبحر الأبيض المتوسط في رحلات العبور نحو الغرب . لا يمكن للمستعمر هنا أن يلقي اللوم على الأنظمة المستبدة الحاكمة في إفريقيا، ولا يمكن وضع الأسباب عن غياب الديمقراطية وفلسفة حقوق الإنسان في واقع سببه التناقض بين الخطاب والممارسة، ذلك الخطاب الذي يسعى لاستنزف إفريقيا وتحويلها إلى كيانات منقسمة وممزقة لاستخراج المواد الأولية، وبالتالي ضياع أحلام الجماهير الواسعة التواقة للتحرر من الاستعمار الجديد، والتخلص أكثر من حفنة المستبدين الذين درسوا في مدارسه وتشبعوا بثقافة المستعمر دون السعي نحو إقامة أنظمة ديمقراطية، والخطاب المغلف والمزيف بقيم التسامح وخدمة أفريقيا من خلال شراكة متوازنة. فهناك مجموعة من المثقفين الأفارقة من كل التخصصات المعرفية يرفضون تلميع صورة المستعمر، وهناك من اشتغل مع المستعمر، وكان شاهدا على الأفعال المشينة ، هؤلاء يدعون للتحرر النهائي والنظر للأفارقة كآخر يتمتع بكامل الاستقلالية والحرية، فمن الثقافة المحلية كتب الإفريقي عن ذاته بلغته، ومن اللغة الأجنبية حاول إيصال الأفكار والمواقف للعالم رافعا شعار دعوا أفريقيا وشأنها، لعلها ترغب في إصلاح وترميم الذاكرة الجماعية، تريد الحفاظ على ثقافتها دون أن تكون نسخة من فرنسيا أو بريطانيا . ليست إفريقيا ملزمة باقتفاء أثر التنوير على الطريقة الفرنسية، أفريقيا حرة في نسج العلاقات الإنسانية مع كل بلدان العالم. فالاستعمار نظام حقير وظالم، والحضارة التي يتم إفراغ معناها من قبل المستعمر عريقة، لم تطلب إفريقيا يوما ما هذا النوع من التغيير عن طريق الاستئصال والاجتثاث لكل ما هو عميق وتاريخي في الثقافة الأفريقية، المشكلة هنا مركبة بالطريقة التي عالجها المفكرون الأفارقة من أمثال "وول سوينكا"، ومن الذين كتبوا عن الاستعمار في شمال إفريقيا وجنوبها . إحساس الأفريقي بالغبن والسرقة لكل ما هو نفيس، وما يتعلق بالآثار دليل آخر على همجية الاستعمار، وعندما يدافع الرؤساء الغربيون عن دوافع الوجود العسكري في أفريقيا، يكون الرد دائما أن هذا الوجود أساسه طلب الدول الأفريقية بذاتها قصد الحماية، هذا الوجود الطويل دافعه بالأساس اتفاقيات مبرمة من البداية ، ومن سخرية الأفعال ما يروى في العلن عن قيمة إفريقيا وقدرتها في النهوض بنفسها، وأنها بالفعل مسؤولة عن التقاعس في النهضة الشاملة، التي تنطلق من الإصلاح السياسي والاقتصادي، وفي السر هناك تزكية المواقف المناوئة للتغيير، والصمت عن الأنظمة المستبدة، وتنصيب من يرضى بالملاءات الغربية، لذلك تحاول بعض الأصوات في أفريقيا اليوم إعادة النظر في مسببات الاستعمار من خلال الإصلاح الذي يستدعي أن تكون أفريقيا ديمقراطية، ومستعدة في كل زمن للدفاع عن مشروعية وجودها، ومصالحها الحيوية، هنا تحس فرنسا أنها في حاجة إلى تجديد خطابها، ترغب أن تبقى العلاقة على حالها حيث نجدها تستشعر المخاطر على وجودها في ماليوالجزائر ودول جنوب الصحراء، وبين الفينة والأخرى تصنع العدو الوهمي في تهديد الحركات الإسلامية الراديكالية،كما تراقب الشأن المحلي للدول، وتشتكي دائما من الوجود الأفريقي في قلب فرنسا عند فشل سياسة الإدماج، وتخشى من القواعد العسكرية الروسية والصينية في أفريقيا، ومن جهة أخرى تصمت من صعود التيارات المضادة أمام وجود الآخر، من اليمين المتطرف والأصوات الداعمة لأفكاره، ترغم الآخر على الذوبان الكلي في قيمها، تبالغ في الخوف من الاستبدال الثقافي لقيمها . إنها فرنسا الغارقة في العنصرية والنفاق السياسي، تريد التسويق لنفسها وتاريخها دون الاعتراف بأخطائها، لا ترى نفسها بالفعل طرفا في تلاشي حلم الوحدة والتنمية للقارة.