بمناسبة الذكرى المئوية للحزب الشيوعي الصيني ، حاولنا كتابة سلسلة من المقالات المتخصصة، بغرض تنوير القارئ العربي بهذا الحزب و سياسياته، وأهم المحطات التي مر منها من النشأة إلى العصر الحالي، ونحن عندما نركز على الحزب الشيوعي الصيني، فإننا في واقع الأمر نوجه انتباه صناع القرار و المواطن العربي، إلى مطبخ صنع القرار السياسي والاقتصادي و الاجتماعي في دولة الصين ، بل و نضع بين أيدي النظم العربية الحاكمة ، تجربة نموذجية للتغيير من الداخل، والتكيف المرن مع المستجدات الداخلية و الخارجية، بل و إعادة تجديد الشرعية بعد تأكلها أو فقدها ، فعند نهاية الحقبة الماوية، و تحديدا بعد الفوضى التي ولدتها سياسة الثورة الثقافية، تشكل لدى الصينيين انطباع بأن السماء قد رفعت يدها عن تأييد الحزب، لكن التعددية بداخل الحزب ووجود اتجاه معتدل في مقابل اتجاه يساري متطرف، سمح بحدوث انتقال سلس ، و أعطى للحزب شرعية جديدة بعد 1978 شرعية النمو و التنمية، وهو ما مهد الطريق لتأسيس عقد اجتماعي جديد ، مكن القيادة الصينية من التفرغ للبناء و التوسع، و يمكن أن نستخلص من مجموع المقالات السابقة الاستنتاجات التالية : أولا- الحزب شهد تحولا عميقا باتجاه تبني الأسلوب الجماعي في اتخاذ القرار، حيث انقرضت الزعامة الكاريزمية، وحل محلها توزيع الأدوار بين مجموعة من القادة، وهو مؤشر ايجابي باتجاه تعزيز الديمقراطية الداخلية. ثانيا- انفتاح الحزب على نخب جديدة بدلا من اقتصاره على طبقة العمال والفلاحين، وهو ما جعل الحزب يغير جذريا صورته التقليدية ويعدل خطابه الأيديولوجي. فتم نتيجة لذلك، تحديث الخطاب السياسي للحزب و الابتعاد عن الخطابات الديماغوجية، مع التركيز على خطاب براغماتي يراعي مصالح الصين الداخلية والخارجية. ثالثا- التسويق الجيد لإنجازات الحزب، فالأغلبية الساحقة من الصينيون يرون بأن الحزب شهد تحولات عميقة، باتجاه احترام حقوق الإنسان و تحسين معيشة الشعب الصيني. رابع-نجح الحزب في إخراج الشعب الصيني من حالة اليأس والتذمر، و إدخاله في دورة حميدة من التفاؤل والأمل في غد سيكون بكل تأكيد أفضل من الأمس. خامسا- تشبث الحزب بشرعية النمو الاقتصادي، فمعدل النمو المرتفع هو صندوق الاقتراع الداعم لاستمرارية الحزب في السلطة. لذلك، فان الحزب يعمل جاهدا على تنفيذ وتبني مختلف الإصلاحات، التي تمكن من تحرير النمو الاقتصادي وضمان ديمومته.. حتى يتمكن الحزب من الاستمرار في السلطة.. وإن كان ذلك على حساب تحول أدوار الدولة ووظائفها. وهذا التوجه تعزز أكثر في عهد الرئيس الحالي "جينبينغ" و الذي طرح مبادرات قوية تصب في هذا الاتجاه فرؤيته عن مستقبل الصين و التي تحمل اسم "حلم الصين" في إطار مشروع " إعادة بعث الأمة الصينية" [1] ، وقد نجح في إجراء إصلاح اقتصادي ساهم في الحدّ من تراجع النمو الاقتصادي وتحجيم ملكية الدولة للصناعة ومكافحة التلوث وتنفيذ مشروع النقل البري العملاق "طريق الحرير" ، وخلال عهده فرضت الصين سيطرتها على بحر الصين الجنوبي، رغم المعارضة الدولية وعززت نفوذها على الصعيد العالمي عن طريق ضخ مليارات الدولارات في القارة الأفريقية والآسيوية، ترافق ذلك مع نمو المشاعر القومية التي حضت عليها وسائل الإعلام الحكومية مع التركيز على شخصية "جينبينغ "إلى درجة أن البعض اتهموه بأنه يقود حملة إعلامية لتأليهه أسوة بالزعيم الراحل "ماو تسي تونغ"… ولما لا، و شعار المؤتمر الوطني التاسع عشر للحزب الشيوعي الصيني يحمل شعار " عدم نسيان الغاية الأصلية، ودوام التذكُّر للرسالة، ورفع الراية العظيمة للاشتراكية ذات الخصائص الصينية عاليا، وتحقيق انتصار حاسم في إنجاز بناء مجتمع رغيد الحياة على نحو شامل، وإحراز انتصارات عظيمة للاشتراكية ذات الخصائص الصينية في العصر الجديد، والكفاح بجهد دؤوب في سبيل تحقيق حلم الصين المتمثل في النهضة العظيمة للأمة الصينية.[2] و"بفضل عدم نسيان الغاية الأصلية، يمكن العمل من بداية حسنة لبلوغ نهاية جيدة. إن الغاية الأصلية للشيوعيين الصينيين ورسالتهم هما السعي من أجل سعادة الشعب الصيني ونهضة الأمة الصينية، كما هما قوة محركة أساسية لتشجيع الشيوعيين الصينيين على التقدم إلى الأمام باستمرار. لا بد للرفاق في كل الحزب من مشاركة الشعب في السراء والضراء والاتحاد معه كرجل واحد دائما، واعتبار تطلعات الشعب إلى حياة جميلة هدفا للكفاح إلى الأبد، ومواصلة المضي قدما وبشجاعة نحو الهدف الطموح لتحقيق النهضة العظيمة للأمة الصينية بروحهم غير المتراخية أبدا وبموقفهم الكفاحي المتسم بالتقدم بإرادة لا تقهر"[3]. وبتحليل انتماءات أعضاء الهيئات القيادية في الحزب المنبثقة منذ المؤتمر الوطني السادس عشر، يمكن القول بأن الحزب يعرف تعايش فصيلين في إطار ما يمكن تسميته ب "كيان واحد، بفصيلين ".. فالفصيل الأول هو "الائتلاف النخبوي" أو "زمرة شنغهاي" التي تضم بشكل رئيسي المسئولين المنحدرين من المناطق التي حققت ازدهارا اقتصاديا وخاصة المقاطعات الساحلية. و الفصيل الثاني هي لائحة "الائتلاف الشعبي" أو "عصبة الشبيبة " والتي تتكون أساسا من المسؤولين الذين قد صعدوا من المناطق الداخلية الريفية. وإذا كان الفصيل الأول ينحوا باتجاه تقليص دور الدولة في الحياة الاقتصادية، وتدعو إلى المزيد من الانفتاح. فان الفصيل الثاني يدعو الدولة إلى مزيد من التدخل، والى تبني سياسة تنموية اكثر توازنا، كما يدعو الحكومة إلى تخصيص المزيد من الموارد للنهوض بالمشاريع الاقتصادية والاجتماعية في الوقت الذي يدعو فيه الفصيل الأول إلى تقليص الإنفاق الحكومي… ومن الصعب أن نصنف الزعيم الصيني الحالي ضمن هذا الفصيل أو ذاك ، صحيح أن بداية صعود نجمه كان في شانغاي، لكن مواقفه التي أعلن عنها منذ صعوده للسلطة في العام 2012 ، أعطته شعبية واسعة في صفوف عامة الشعب ، وقد استطاع الزعيم الصيني أن يعزز موقعه ويبسط سيطرته على الحزب الشيوعي وأصبحت أفكاره جزء من دستور البلاد، وهو ما لم يحظى به سوى "ماو تسي تونغ" و"دينغ شياوبينغ" وبالتالي فإن معارضته باتت بمثابة الوقوف ضد الحزب الشيوعي الحاكم، فلم يسبق أن ربطت أسماء الزعماء بأيديولوجياتهم إلا في حالتي "ماوتسي تونغ" و"دنغ شياو بينغ"، ولم يضاف اسم "دنغ" إلى الدستور إلا بعد وفاته.. وبحسب أدبيات الحزب الشيوعي ووسائل الإعلام الصينية فإن الزعيم الصيني يقود المرحلة الثالثة من العصر الحديث ، فالمرحلة الأولى التي تزعمها ماو كان هدفها توحيد البلاد عقب حرب أهلية طاحنة، أما المرحلة الثانية التي قادها دنغ فركزت على إثراء البلاد. وتتسم المرحلة الثالثة التي يقودها الرئيس "شي" بتعزيز الوحدة والثراء وجعل الصين أكثر انضباطا داخليا وخارجيا فقادة الحزب الشيوعى الصينى يدركون أن هناك مشاكل خطيرة تواجه الحزب فالفساد الذي يستشري بهياكل الإدارة التي يهمن عليها الحزب، أصبحت تفقده ثقة الشعب الصيني. وهو وما دفع قادة الحزب إلى مناقشة هذه القضية في جلسات مغلقة خلال الدورة الكاملة الرابعة للحزب الشيوعي الصيني في سبتمبر 2009 ، وخلصت هذه الجلسة إلى ضرورة أن يقدم المسئولين في الحزب و الحكومة، لائحة تتضمن تفاصيل عن مقتنياتهم وممتلكاتهم خلال كل سنة [4] ، وذلك لتقليص من حدة النقد الذي أصبح يوجه إلى الأغنياء الجدد .كما أطلق الرئيس الحالي "شي حملة لمحاربة الفساد و اطلق عليها اسم "النمور والذباب" و شملت أكثر من مليون شخص من كبار وصغار مسؤولي الحزب… وعلى الرغم، من وابل الانتقادات التي توجه إلى هذا الحزب، إلا أن الأغلبية الساحقة من الصينيون يرون بأن الحزب شهد تحولات عميقة، باتجاه احترام حقوق الإنسان و تحسين معيشة الشعب الصيني. فمن المؤكد لدى الجميع أن الانتهاكات الحالية هي أقل بكثير مما وقع قبل عقود. كما أن الحزب استطاع أن يحسن صورته الداخلية والخارجية، خاصة وان العديد من القادة الحاليين ليس فقط لا علاقة لهم بما جرى من انتهاكات في الماضي، بل إنهم كانوا ضحايا لتلك الحقبة.. كما أن الحزب أخد يستثمر نجاح سياساته في تحسين الأداء الاقتصادي لترسيخ نفوذه السياسي، لاسيما في أوساط الشباب ..فالواقع يؤكد، على أن أداء الحزب على مختلف المستويات كان أفضل من الأنظمة السابقة، وأفضل من أداء العديد من الحكومات التي تتبنى النهج الديمقراطي [5]. كما أن الحزب يحاول منذ نحو عقدين استقطاب الأرياف من خلال اتخاذه لتدابير واسعة لاستعادة نفوذه بالريف الصيني[6] . و هو ما سنحاول التوسع فيه أكثر بالمقال الموالي إن شاء الله تعالى …و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون.. أكاديمي متخصص في الاقتصاد الصيني و الشرق آسيوي، أستاذ العلوم السياسية والسياسات العامة.. [1]– شي جينبينغ، "تحقيق انتصار حاسم في إنجاز بناء مجتمع رغيد الحياة على نحو شامل وإحراز انتصارات عظيمة للاشتراكية ذات الخصائص الصينية في العصر الجديد"، التقرير المقدم إلى المؤتمر الوطني التاسع عشر للحزب الشيوعي الصيني بتاريخ 18 أكتوبر 2017 ، أنظر الرابط التالي : https://www.fmprc.gov.cn/ce/cejo/ara/ [2] – نفس المصدر. [3] – نفس المصدر. [4] –"Party's Agenda in China Seems to Fall Flat" article by Michael Wines in The New York Times September 20, 2009. [5] -Ethan Guttman,"U.S. Capitalists Spread China's Communist Propaganda," NewsMax.com Wires,Wednesday, May 2, 2002, http://www. newsmax.com/archives/articles/2002/5/1/180312.shtml. First publishedin Weekly Standard. [6] – Daniel Michaeli and Alexander Graham "Panel: Politics and Society in China" ,The University of ChicagoChina and the Future of the World April 28–29. 2006..http://chicagosociety.uchicago.edu/china.pdf. pp.3-7.