1 يجلس التلميذ "غ"، ذو الثماني سنوات تقريبا، بعيدا عن السبورة، تفصلها عنه ثلاث طاولات، يفرك عينيه، يُضيقهما، يزيد في إغلاق "الزوم" لعله يرى شيئا. حروف الأشياء متداخلة عائمة، الضباب يعم السبورة، ولا سبيل إلى التعرف على حروف الحروف. دخل في الوقت المضاف الممنوح على مضض، والسائل لا يطيق صبرا. 2 لم يؤت الحل الأول أُكله، فليُجرب الحال الآخر، سيغامر وسيقامر. النتيجة سلبية والإهانة صعبة البلع، رغم أنه يعرف الجواب الصحيح، إلا أنه لا يرى السؤال الصحيح. هل أصبحت العين عند إنسان هذا العصر العضو الأكثر شغلا واشتغالا؟ فمنذ أن يفيق المرء (إنِ كان ينام كما كان الناس ينامون) والطوفان الهائل من الصور (المتحرك منها والثابت) تنهال على العضو الرائي انهيالا. حينها تفتح وتغلق فتحة قُمرة العين آلاف المرات، ويزداد العقل فيها تغييبا واستقالة. أصبح عدد الناس الذين يرون العالم من وراء زجاج كبيرا جدّا، وعما قريب ستصبح الكمامة والنظارة جزأين لا يتجزّءان من وجه الإنسان. ستحفر النظارات أخدودها وستغدو عظما بشريا من عظام الوجه البشري. لم يعد للناس أفق (الأطفال في المقام الأول)، فقد ضاق أفقهم، وتقلّص إلى بضعة أمتار أو أقل (كثير من الأطفال يضع الهاتف لصق عينيه) ورغم أنهم يسرحون في العالم الافتراضي الذي فرض عليهم فرضا أو فرضوه على أنفسهم، ويركبون خيالهم المجنّح، يحملهم إلى ممما كال ةننأتلىلنملظشةبىنةبنةنالواسع الفسيح، الخيالي البعيد، ويرون ما لا يراه غيرهم، فإنهم قصار النظر حقا، لا ينظرون إلّا عبر مكعبات الزجاج المقعر أو المحدّب. وجل الأسر اليوم في كرّ وفرّ مع هؤلاء "النشالين" الصغار. الهاتف مقابل السلام. وكل ساعة سلام مدفوعة الثمن تعني طبقة أخرى سميكة من طبقات الزجاج على أعين هؤلاء الصغار. ينزوي الصغير في المكان المظلم ينظر في المستطيل المشع.. والحق أنه مادة مشعة شديدة الخطورة وبين الشبكية المدمرة والشبكة العنكبوتية يضيع الصغير ويفقد نسبا كثيرة من حواسه وعقله. ثم يلجأ إلى المدربين والمربين والناصحين فلا ينتصر غير الهاتف الزجاجي. لقد جاء على الناس زمن يرهقون فيه أعينهم إرهاقا، فمع المصابيح التي حولت لياليَ البشر أنْهُرا لا تنقضي، ومع كل تلك الأجهزة المضيئة من تلفزات وحواسيب وهواتف، سيكون على الناس أن يسلّموا بالطبقة الزجاجية التي أصبحت تفصلهم عن العالم. لم تعد الرؤية واضحة ولا مباشرة، وأصبح الاعتماد كليّا على العدسات المحدبّ منها والمقعّر. تقول الدراسات المخيفة الخارجة من المختبرات إن الضوء الأزرق (على غرار الفضاء الأزرق والذين سيحشرون زُرقا وزرقاء اليمامة الخرافة) الصادر من الهواتف يلحق بأعين الأطفال من الأضرار ما يرديها قصيرة النظر، ناشفة العين جافتها. فهذا الضوء الصناعيّ الأزرق مختلف عن الضوء الطبيعي، وكلما زاد التعرض له زاد احتمال ضمور الشبكية وإصابتها بالضمور البقعي، نتيجة موت الخلايا المستقبلة للضوء، التي ترسل السيالات العصبية إلى الدماغ. وهو الخطر الذي قد يفلح الزجاج في تقويمه، ولكن إلى حين. والغريب أنّ هذا الضوء الأزرق هو الأخطر على العين من بين كل الألوان الأخرى، باعتبار موجاته القصيرة ذات الطاقة الكبيرة، التي تسبب تلفا بالغا بالشبكية. عندما ابتكر بنو البشر مادة الزجاج، عُدت حينها ترفا يصدّر ويورّد، وساروا بها إلى حدود العالم يغزون ويستكشفون، ولم يدرْ في خلَدهم قطّ أن هذه المادة ستغدو محفزا أساسا للبصر الصحيح وتقويم الرؤية، رؤية هذا العالم المستكشف. كما لم يدر في ذهنهم أيضا أنّ بهذه المادة السحرية سيصنعون آلات معشية تكاد تخطف أبصارهم. وأنّ بهذه المادة سيصنعون ألواحا يعلّقونها فوق أرنبات أنوفهم، أو يدسّونها وسط أعينهم.