لم أتفاجأ شخصيا مما بثته قناة الشروق رغم إيغاله في السفه والتفاهة. ولا أتفاجأ لردود الفعل العفوية أو الهادئة أو المتشجنة أو المتحاملة أو المصلحية لكثير من المغاربة على إساءة القناة الجزائرية. فالعلاقات بين البلدين متروكة منذ مدة مشاعا لخطابات زمرة من الجانبين يسومونها كل أنواع التنميط والتبسيط والاختزال. ما بثته الشروق لا يستحق الالتفات إليه. فلا هو بالمضمون الحاذق subtile ولا يمت للسخرية السياسية (أو السخرية بالمطلق) بأي صلة. ليس بشيئ كما يقول علماء الحديث. ولعل أحسن رد عليه هو قول الشاعر: إذا نطق السفيه فلا تجبه فخير من إجابته السكوت. ولكن ما يستحق منا جميعا – مغاربة وجزائريين ومغاربيين – الوقوف الجاد المتأمل هو طغيان خطابات الكراهية والتحريض في إعلام الجانبين منذ سنوات. خطابات زادت من حدتها ورقعة انتشارها وسائل التواصل الاجتماعي واحتقان القنوات السياسية الرسمية مقابل "تطوع" الدهماء ومأجوري أجهزة البلدين الأمنية/العسكرية للتنظير للعلاقات الثنائية وتفسير شفراتها واستقراء آفاقها. ما يحدث بين المغرب والجزائر هو في غالبه حرب دعاية لا يملك أي طرف ناصية الحقيقة المطلقة فيها. ولا فائدة ترجى من البحث عن أي الفئتين ضالة وأيهما على الحق، ولا عن البادئ بالعداوة أو عمَّن يفجُر فيها. هي دون شك فتنةٌ "القاعد فيها خير من الماشي" والصامتُ خير من المتكلم. لكن مشكلةَ حَمَلةَ ألوية هذه الحرب هي كونهم يتكلمون باسمنا – مغاربة وجزائريين – ويميلون للتعميم في هذرهم تجاه هذا الطرف أو ذاك. فقد لاحظت مثلا أن كثيرا ممن كنت أحسبهم عقلاء هنا في بلدي (ممن لا أشك في حسن نيتهم ولا في صدق حبهم للجزائر وأهلها) قد سقطوا في فخاخ الخلط l'amalgame التي غالبا ما تنصبها القضايا المشحونة عاطفيا passionees et passionnelles. وبدل أن يرد البعض على قناة الشروق، أو حتى أن يلمزوا لمن يقفون وراءها (وهو سر معلن un secret de polichinelle)، شرعوا في الرد على الجزائريين في عمومهم ويوجهون انتقاداتهم أو دروسهم أو سبابهم لبلد بكامله. ولا أشك لحظة أن كثيرا من الجزائريين يقعون في نفس الفخ من جانبهم ويخاطبوننا ككتلة واحدة تحمل نفس الأفكار والمشاعر، فيؤاخذوننا بما يفعل السفهاء منا. إن قلة الذوق التي اقترفتها قناة الشروق -وقبلها كثير من السماجات اليوتيوبية والصحفية من الجانبين – مناسبة للتذكير بأن خطاب الكراهية والتحريض في الإعلام ليست لعبة موسمية أو مناكفة عابرة. إنها سكين صدئ يحفر جروحا غائرة في جلد البلدين والشعبين ويترك ندوبا قد لا تمحوها السنون. وأدعو كل من يستخف بتأثير هذا السم الإعلامي الزعاف إلى استحضار تجربة إذاعة Les Milles collines الرواندية التي تسببت في أحد أسوأ الإبادات الجماعية في العصر الحديث بين إثنيتي الهوتو التوتسي في رواندا وبوروندي. قتل الجار جاره في بلدين اختزلا في ثنائية "نحن" وهم"، والدعاية كانت في الغالب على شكل برامج ساخرة. هاتان ال"نحن" و ال"هم" تثيران القلق في السجال الإعلامي السائد بين المغرب والجزائر. إنهما تعبير عن مقاربة مانوية manicheenne، شطرية binaire، لا تعير كبير انتباه لألوان قوس قزح اي مغربنا لكبير وتركز فقط على الأسود والأبيض، أي على ما يفرقنا وليس ما يجمعنا. في خضم تلاطم المشاعر واختلاط الشوفيني بالوطني، والعقلاني بالأهبل، والسياسي النخبوي بالاجتماعي الشعبي، أدعو الجميع إلى أن "هدنة" يكون مدخلها أولا تفهم فورة المشاعر من الجانبين وثانيا الإحجام عن الخوض فيها. يقول ابن رشد (رمز عقلانيتنا في الغرب الإسلامي): "من العدل أن يأتي الرجل من الحجج لخصومه بمثل ما يأتي به لنفسه (…) وأن يقبل لهم من الحجج النوع الذي يقبله لنفسه"، ويقول الشاعر: لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم. إن الحماقة أعيت من يداويها، وبيننا كثير من الحمقى ممن بات يقف موقف الخطيب فينا، معتليا منبر وسائل إعلام أو وسائط تواصل اجتماعي ما أنزل الله بها وبهم من سلطان. وأجدر بالعقلاء بيننا ألا يلتفت لكل من هب ودب من أصحاب "أقوى رد" و "صدمة" و"صفعة". يقول الإمام الشافعي: يخاطبني السفيه بكل قبح فأكره أن أكون له مجيبا يزيد سفاهة وأزيد حلما كعود زاده الإحراق طيبا. * صحفي. المقال عبارة عن تدوينة نشرها الصحفي على صفحته الرسمية.