مدينة ذات سبعِ صيغٍ إسميّة تجدر الإشارة فى مستهلّ هذا المقال أنّ مدينة تطوان الواقعة بشمال المغرب والمذكورة فى قصيدة الشاعر السوري فخري البارودي الشهيرة" بلاد العُرب أوطاني" لاسمها صيغ كثيرة وكلها صحيحة منها : تطاوين،تطاون،تيطاوين، تطاوان،تيطاوين،تيطاون، أو تطوان ، يقول الفقيه العلاّمة التطواني محمد داود رحمه الله فى كتابه الكبير "تاريخ تطوان" :..(وهذه الصّيغ السّبع كلّها أمازيغية صِرفة ولا يُعرف لها معنىً في اللغة العربية؛ أمّا في اللغة الأمازيغية فمعناها عين أو عيون ولعلّ سكانها الأقدمين من الأمازيغ سمّوها بذلك لكثرة العيون التي بها وبأرباضها ونواحيها..) هذه الصيغة نجدها مكتوبة في جلّ الوثائق والرسوم العدلية القديمة. وهي التي أثبتها وأيّدها العلاّمة أبو علي اليوسي واعترض على الذين يسمّونها تطوان وسمّاهم متصفحين. ولا يذكرها أبو العباس الناصري مؤلف كتاب "الإستقصا فى تاريخ المغرب الأقصى" في الغالب إلاّ بهذه الصيغة (تطّاوين). ولأستاذ العلاّمة الكبير أحمد الرهوني ( أستاذ والدنا المشمول برحمة الله خلال دراسته بتطاوين ) قد ارتضاها و رجّح هذه الصيغة بأنها هي الصواب المطلق فى إسم هذه المدينة الجميلة، وبناءً عليها سَمَّى كتابَه الشهير عنها :" عُمدة الرّاوين في تاريخ تطّاوين "، ويحكي لنا التاريخ أن فئة من الموريسكيين المهجّرين المبعدين من أرضهم وديارهم باسبانيا (الأندلس) فى القرن الخامس عشر الميلادي قضّلوا وآثروا المكوث بنواحي مدينة تطوان أيّ بالقرب من عدوة مدينة سبتة السّليبة التي لا تبعد عن السواحل الاسبانية سوى بضع كيلومترات على أمل العودة الى ديارهم ، وعندما طفقوا فى بناء المدينة الموريسكية الحالية تحت إمرة الموريسكي الأندلسي سيدي علي المنظري كان سكان ضواحي المدينة وأرباضها حسب تعبيرالفقيه العلامة محمد داود بالحرف الواحد :" يهدمون لهم بالليل ما بنوه بالنهار": عندئذ طلبوا الأمان والحماية من السلطان المريني بفاس، ويقول الفقيه داود رحمه الله مرّةً أخرى فى كتابه المعروف "تاريخ تطوان" :" أن السلطان أرسل معهم أربعين من أهل الريف يتولّون الحراسة " وهكذا حتى تمّ بناء المدينة التي نعرفها اليوم" ومعروف أن معظم سكانها الأوّلين من الموريسكيين الأندلسيين قدموا من مدينة غرناطة بالذات والأمازيغ، ولذا يقول العارفون إنها بنيت على شاكلة هذه المدينة الأندلسية الغرّاء الجميلة التي تأوي بين جنباتها معلمة قصر الحمراء الفريد والذي ليس له نظير فى مختلف أرجاء المعمور إذ تمّ بناؤها بعد سقوط غرناطة 1492. الحَمَامَةُ البيضاء هذه المدينة السّاحرة المحروسة المنبسطة فى دعةٍ وسكون بين جبليْ " دِرسا" و" غورغيز" ، والواقعة بين مدن الحسيمة والشاون وطنجة والعرائش، قال عنها الفقيه المرحوم الأديب الكاتب الشّريف النبيل مفضّل بن محمد أفيلال التطواني المتوفىّ سنة 1886 وهو من الأدباء اللاّمعين، والكتّاب البارزين في عصره، قال : تطوان ماكنتِ إلاّ / بين البلاد حمامَه بل كنتِ روضاً بهيجاً / زهرُه أبدى ابتسامَه أو كمُحّيا عروسٍ/ علاه في الخدّ شامَه فقتِ بهاءً وحسناً / فاساً ومصرَ وشامَه رماكِ بالعينِ دهرٌ / ولا كزرقا اليمامه . ويُقال إنه أوّل من أطلق على مدينة تطّاون أو تطوان (الحمامة البيضاء)، علماً بأنّ هذا الإسم ورد كذلك فى صدر رواية الكاتب الإسباني الكبير " بينيتو بيريث غالدوس" (1843-1920) "عايطة تطّاون" حيث يقول إنّ هذه المدينة الآمنة كانت تتراءى من بعيد للجنود الإسبان الذين قدموا مع "الجنرال ليوبولدو أودونيل" فى حملتهم العسكرية الضارية الضّروس عليها عام 1860 (كالحمامة البيضاء) التي سوف تلطّخ قريباً بالدماء . ومعوف أنّ محاكم التفتيش فى اسبانيا أسفرت بعد سقوط غرناطة عن نزوح آلاف الموريسكيين (من مسلمين ونصارى ويهود) نحو مدن شمال افريقيا ، فرست في تطوان أول السفن المُحمّلة بالموريسكيين حاملين معهم حضارتهم الأندلسية الرفيعة من فنون، وغناء، وشعر، وطرب، وموسيقى، وطبخ، وحرف يدوية وصناعات تقليدية ولباس وتصميم الحدائق والمعمار واللغة كذلك ،وعن هذا يقول الباحث المغربي محمد الشريف في بحثه القيّم عن هذه المدينة الاندلسية :"بنت غرناطة الحاضنة للحضارة الأندلسية بالمغرب": "مدينة تطوان العتيقة الموجودة الآن بتقسيماتها وأزقتها ومنعرجاتها، هي من بناء مهاجري الأندلس في أواخر القرن التاسع الهجري على أنقاض تطوان القديمة. فهي بنت غرناطة التي ستصبح مغرس الحضارة الأندلسية في المغرب. ففي فترة وجيزة تحولت تطوان إلى مدينة أندلسية داخل التراب المغربي بفضل الوفود الأندلسية التي استقبلتها تباعاً. إنّ تدفق المهاجرين عليها كان يتزايد كلما أشرفت حرب غرناطة على نهايتها جعل من تطوان مدينة غرناطية محضة". فيسينتي ألكسندري عاشق تطوان ولقد ضمّن الشّاعر الإسباني، الأندلسي، الإشبيلي فيسينتي ألكسندري (الحاصل على جائزة نوبل فى لآداب عام 1977 ). فى رسالة أدبية – (كانت قد نُشرت فى العدد 26 من مجلة " المعتمد " الصّادر فى شهر أغسطس عام 1953، والتي أدرجها ألكسندري نفسُه فيما بعد فى الجزء الثاني من أعماله الكاملة ) – ضمّنها ذكرياته الرائعة حول زيارته لمدينة تطوان أو ( تطّاوين) المغربية. وفيها يصف هذه المدينة الجميلة التي تحمل لقب " الحمامة البيضاء" بأسواقها، ودورها،وأزقّتها، وشوارعها، ومساجدها، ومآذنها،وكنائسها،وبيعها، ومعالمها،ودورها، وقصورها، وبساتينها الغنّاء ،ذات الطابع، والمعمار،والتأثيرالأندلسي الجميل، ومحلاتها، وأناسها، وصنّاعها المَهَرَة، وهم منهمكون في صناعاتهم التقليدية والإبداعية الشعبية المتوارثة المُبهرة، كما أنه يتحدّث فى هذه الرّسالة عن صديقيه الأديبين المغربيين المرحومين محمد الصبّاغ وأحمد عبد السلام البقالي، و لقد كانت هناك فيما بعد مراسلات أدبية رائعة بين محمد الصباغ والشاعر فيسينتي ألكسندري. وبعد وفاة هذا الشاعر الإسباني الكبير في 14 ديسمبر1984 كتب الصديق المشمول برحمة الله محمد الصبّاغ مرثية جميلة مؤثّرة وبليغة نشرها فى جريدة "العَلَم" المغربية يرثي فيها صديقه، وصفيّه الرّاحل الشّاعر الأندلسي الإشبيلي الرقيق، ولقد قمتُ إبّانئذ بترجمة مقالة الصبّاغ من اللغة العربية إلى اللغة الإسبانية، ونشرتها في نفس تلك السنة فى جريدة "الرّأي" المغربية الصّادرة فى الرّباط فى نفس التاريخ المذكور ضمن طبعتها باللغة الإسبانية . والشّاعر فيسينتي ألكسندري من مواليد مدينة إشبيلية فى 28 أبريل1898 – والمتوفى بمدريد فى 14 ديسمبر1984 ، وهو أحد الوجوه الأدبية والشعرية البارزة من المنتمين أو الذين عايشوا الجيل الأدبي الإسباني الشهير 1927، إلى جانب العديد من الأدباء والشعراء الإسبان الكبار أمثال فدريكو غارسيا لوركا، ورفائيل ألبرتي، وخيراردو دييغو، ودامسُو ألونسُو وسواهم. بلاد العُرْبِ أوطاني.. ! هذا العنوان يحمل فى طيّاته حيفاً واضحاً ، لأنه ينكر وجود السكّان الأمازيغ الذين تمتد بلدانُهم من أقاصي غرب إفرقيا فى شمال المغرب من المحيط الاطلسي إلى الحدود الليبية المتاخمة لمصر المحروسة شرقاً، ومن نفس المنطلق إلى أقاصي منحنى نهر النيجر جنوباً، بل إنّ إحدى المدن المذكورة فى هذه القصيدة الشّهيرة وهي مدينة "تطوان" تحمل إسماً أمازيغيّاً قحّاً منذ بنائها أواخر القرن الخامس عشر الميلادي من طرف الموريسكييّن، المُهجّرين، والمُبعدين عن دورهم، ووطنهم فى إسبانيا قهراً وقسراً، وظلماً وعدوانا، " ( و تطوان إنّما هي صيغة النطق عند الإسبان وهي(Tetuán) أمّا إسمها الحقيقي الأصلي فهو كما سبق القول آنفاً (تطّاوين فى صيغة الجمع، ومفردها ثِيطّ، والتي تعني "العَين" أو "العيُون") ،على الرّغم من ذلك فلا بأس أن نسترسل فى الحديث عن هذه المدينة الجميلة ، والحديث عنها دائماً ذو شجون، فنقول : هذه المدينة الفيحاء التي قيّض الله لي أن أرى النّورَ فيها، كانت دائماً تذكّرني بطرفة جميلة واقعيّة جرت بين الموسيقار المصري محمد عبد الوهّاب، والشّاعر السّوري فخري بارودي، هذه المُستملحة كان قد حكاها لي الصّديق الأديب الباحث المرحوم ممدوح حقّي (السّوري الجنسية) خلال عملنا أواسط السبعينيّات من القرن المنصرم فى مكتب تنسيق التعريب فى العالم العربي التابع للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ( الألكسو) ، فقال: يُحكى أنّ كلاًّ من الشاعر فخري البارودي والموسيقار محمد عبد الوهاب إلتقيا ذاتَ مرّةٍ فى حفل إستقبال دبلوماسيّ بدمشق حيث كان المطرب المصري الكبير المُجدّد فى زيارة لسوريا، وكان قد بدأ يتألق نجمُه فى سماء الشّهرة، والمجد، والنجاح فى العالم العربي، وكانت أغانيه الرّائعة تصدح فى كلّ مكان، وتُحقّق نجاحاتٍ منقطعة النظير...وصارالشاعر فخري البارودي يتحيّن الفرصة خلال هذا الحفل حتى أمكنه أن يدنو من موسيقار الأجيال، ويتبادل معه أطرافَ الحديث، وفى لحظة مّا قال فخري البارودي لمحمد عبد الوهاب : -أستاذ عبد الوهّاب عندي قصيدة أحببتُ أن أسمعكَ إيّاها لعلّك تلحّنها إذا راقتك..؟ فقال له محمّد عبد الوهاب : – لا بأس هل هي معك الآن..؟ فقال البارودي نعم، فردّ عبد الوهاب : أَسْمِعْنِي إيّاها إذن . فأخرج الشّاعر السّوري ورقةً صغيرةً من جيب سترته، وبدأ يقرأ على مسامع الموسيقار النابغة بتؤدةٍ وتأنٍّ قصيدته ( "بلاد العُرب أوطاني" التي لم تكن قد إشتهرت بعد! )، وصار يقول بصوتٍ حماسيّ وجهوريّ : بِلادُ العُربِ أوْطانيِ / مِنَ الشَّامِ لِبَغْدَانِ ومن نَجْدٍ إِلىَ يَمَنٍ / إِلىَ مِصْرَ فَتِطْوَانِ عندئذ قاطعه عبد الوهّاب وقال له: – يا فخري بك.. بَسْ مِينْ قال لحضرتك أنّي مُلحِّن جغرافيا..!! عشت فى هذه المدينة الجميلة فترة طفولتي حتى العاشرة من عمري حيث انتقلت مع عائلتي للعيش فى مدينة الحسيمة الجميلة الفيحاء التي اشتقّ اسمُها من نبات الخزامىَ العبق الفوّاح..وبعد بضع سنوات قليلة عدت من جديد الى مسقط رأسي تطوان أواسط الستينيات من القرن الفارط حيث مكثت بها سنة واحدة لا غير، لمتابعة دراستي الثانوية بنعهد القاضي عيّاض وهي السنة الدّراسية الرابعة من سلك التعليم الثانوي فى ذلك الإبّان، حيث تقدّمت حرّاً لإمتحان الباكالوريا ( الثانوية العامّة) فطويتُ سنتين دراسيتين إثنتين (الخامسة والسادسة) فى آنٍ واحد، ومن الأساتذة الكرام الذين تتلمذتُ عليهم فى هذه الفترة فى هذه المعلمة التعليمية الرّائدة محمّد الزفزافي، والرّيسوني رحمهما الله، وأحمد المرابط مدّ الله فى عمره. ومن الطلبة الذين كانوا رفاقي فى الدراسة آنذاك، وهم اليوم من أعزّ أصدقائي أذكرمنهم : نجيب العوفي، ومحمّد بوخزّار، ومحمّد الأمين الخمليشي، وإبراهيم الخطيب، والمرحوم محمد أنقار، وإدريس إعفارة ،وعبد الغني القاسمي وسواهم، وهم جميعاً اليوم من فرسان القلم، ومن كبار الكتّاب، والنقّاد والمبدعين فى هذا البلد الأمين . عمرو ابن كلثوم وخمور الأندرينا ! ومن الطرائف التي أذكرها عن هذا المعهد أنّ ألأستاذ الذي كان يدرّس لنا اللغة العربية وآدابَها، الذي كان يشبع الطلبة فى كلّ وقت الأصفار فى الإمتحانات حتى أطلقوا عليه لقب الإشفنجة.. ! حيث أصبح معروفاً بهذا اللقب بين جميع الطلبة فيما بعد سامحه الله وسامحنا نحن كذلك..! كان يشرح لنا ذات يوم أبيات قصيدة عمرو إبن كلثوم التغلبي الشّهيرة التي من أبياتها : ألا هبّي بصحنكِ فاصبحينا / ولا تبقي خمورَ الأندرينا أبَا هندٍ فلا تعجلْ علينا / وأنظرْنا نُخبّرْكَ اليقينا بأنّا نوردُ الرّاياتِ بيضاً / ونُصدرهنّ حُمراً قد روينا إلى أن يصل إلى البيت القائل: بأنّا المُطعمون إذا قدَرنا / وأنّا المُهلكون إذا إبتلينا حيث كان الأستاذ رحمه الله يشرح لنا هذا البيت بأنّ أهلَ تغلب (قوم الشاعر) إذا إستطاعوا وكان فى إمكانهم ذلك (أيّ إذا قدَرُوا) ( من القُدرة أو المقدرة) أطعموا الناّسَ جميعاً، فقلت له فى تدخل إعتراضي (ما كان عليّ أن أفعله) أنّ هذا المعنى غير صحيح وهو ينأى عمّا كان يقصده الشاعر، فإذا كانوا لا يطعمون إلاّ إذا كان فى مقدورهم ذلك، فانه ينتقص، ويقلّل من شيمة الكرم، و خِصلة الجود عندهم، وهذا التفسير لا ينسجم مع ما كان يريد الشّاعرقوله فى الواقع :" إذا قدَرنا " يعني أنّهم مُطعمون دائماً، أيّ كلّما ومتى نُصِبت القدور، "مفردها قِدر، أو قِدرة" (بكسر القاف وسكون الدال)، وهنا يتجلّى لنا بإمعان معنى الكرم والجود، فصارالأستاذ يصيح بصوت عالٍ، وهو يقول" كفىَ من التشويش".." كفىَ من التشويش". وبعد هذه الحادثة إشتكى بي للحارس العام فى مؤسّسة القاضي عيّاض التعليمية الذي عاقبني بطردي، وإبعادي عن المعهد لمدّة ثلاثة أيام، وكلّ ما فى الأمر بكلّ بساطة، أنّ الأساتذة فى معهد أبي يعقوب البادسي فى مدينة الحسيمة سبق لهم أن شرحوا لنا معنى هذه الأبيات بالذات بإفاضة من قبل ..فى آخر المطاف إنّه نزق الشباب،وتهوّره، وطيشه،وزخمه، وحماسه وعنفوانه..! كاتب من المغرب، عضو الأكاديمية الإسبانية الأمريكية للآداب والعلوم – بوغوتا- كولومبيا.