لبنان هو البلد العربي الوحيد الذي يعيش على إيقاع الأزمات المتجددة إلى درجة أنه بمجرد ما يخرج من أزمة معينة حتى يجد نفسه في قلب أزمات أخرى!! الاحتجاجات العارمة التي يشهدها اليوم لبنان في شماله وجنوبه ووسطه لا ينبغي التعامل معها كما لو أنها تشكل بداية القطيعة مع الطائفية السياسية في البلد من أجل دولة مدنية ديمقراطية لا مكان للطائفية السياسية والمذهبية فيها. تركيبة المجتمع اللبناني تركيبة طائفية بامتياز والمواطن اللبناني لا يستطيع التفكير سياسا خارج نطاق انتمائه الطائفي مهما حاولت بعض وسائل الإعلام الدولية إبراز عكس هذه الحقيقة المرة للأسف الشديد!! الطبقة السياسية في لبنان طبعت مع الطائفية وممارسات رموزها السياسية ترتكز على أسس طائفية ومذهبية مقيتة قبل وبعد إبرام اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية التي إكتوت بنارها كل الطوائف ولازالت آثارها باقية إلى الآن. من هذا المنطلق، فإن الدعوة إلى قيام دولة مدنية من خلال الاحتكام إلى الآليات الديمقراطية، في اختيار رئيس الجمهورية، ورئيس الوزراء، ورئيس البرلمان، لن تجد لها أي صدى لدى أمراء الحرب، الذين يتسيدون على كل الطوائف في البلد، لأن اللجوء إلى هذه الآليات لا يخدم مصلحة الجميع، بقدر ما يخدم مصلحة المكون الشيعي أكثر من أي مكون آخر،على ضوء التحول الديمغرافي الذي حدث خلال العقود الأخيرة بالبلد!! وضع لبنان جد معقد، وأي توجه لتدبير شؤون البلد خارج معادلة التوافق الوطني بين جل مكوناته، من الصعب نيله عن طريق الديمقراطية كما يتصور ذلك البعض، لأن أغلب التيارات السياسية يحكمها فكر سياسي طائفي في كل أبعاده. نموذج المحاصصة الذي أسس له اتفاق الطائف، والذي كان من المفروض أن يكون مرحليا، تبقى له في تقديري السخصي المتواضع أهميته الاستراتيجية في الظرف الراهن، للحفاظ على وحدة البلد واستقراره.. ومن باب الإنصاف، وبعيدا عن اي تموقع مذهبي أو طائفي، فإن حزب الله الذي يشكل القوة الضاربة في لبنان، حزب غير مهيمن مؤسساتيا، وغالبا ما تكون تمثيليته في المؤسسات الدستورية مبنية على اتفاقات مسبقة مع باقي الشركاء في الوطن، لأنه بحسه البراغماتي يدرك أن مشروعه الأساسي هو المقاومة. كما انه لا يستعمل سلاحه في الداخل اللبناني، حيث ظل هذا السلاح موجها صوب الاحتلال الإسرائيلي مند تأسيس الحزب إلى حدود الآن. وفي هذا السياق، لا بد من التذكير، أن أغلب شبكات التجسس التي تم تفكيكها في لبنان، والتي كانت مجندة من طرف إسرائيل، كان نشاطها موجه ضد حزب الله وضد رموز المقاومة الفلسطينية، ومن غير المستبعد أن يكون الهدف الرئيسي من اغتيال رفيق الحريري، هو إنهاء المقاومة ونزع سلاح حزب الله في الجنوب. أثبتت الوقائع السابقة أنه عندما يقرر حزب الله الدخول في لعبة الشارع يربح المغركة وتكون الغلبة له لأن ارتباط جمهوره الحديدي، حسب تعبير وليد جنبلاط، بتوجهاته كقائد ملهم، ارتباط عقدي، ولا يتوفر لأي مكون لبناني آخر، بما في ذلك المكون السني، وخطاب نصر الله الاخير ينبغي أخده بالجدية المطلوبة لأنه حمال لعدة أوجه. شخصيا ضد الطائفية وأمقتها وأدرك بأنها جنت على لبنان وتسببت له في مآسي إنسانية كبيرة، غير أنه مع كل ذلك، يظل المجتمع اللبناني مجتمعا مركبا وعنيدا وعصيا على الدمقرطة خارج منطق المحاصصة الطائفية للأسف الشديد. لا شك أن الشعب اللبناني قادر على خلق تعايش بين كل مكوناته، وهذا التعايش موجود في الواقع المعاش، ولكن عندما يختلف رجال السياسة أو أمراء الحرب، يتم التجييش الطائفي ويحصل الاحتكاك السلبي وينقسم المجتمع طائفيا.. لبنان دولة حدودية مع كيان عدواني له تاريخ اسود في البلد وحزب الله وحلفائه لن يقبلوا باي تنازل من شأنه المساس بسلاح المقاومة حتى وإن كان حسن نصر الله اعتبر أن الاحتجاجات مشروعة واعترف بمسؤولية كل الأطراف بما آلت إليه الأوضاع في البلاد، واي التفاف على احتجاجات اللبنانيين من شأنه فتح النقاش حول نزع سلاح المقاومة، سيكون مآله الفشل، لأن موقف حزب الله من هذا الموضوع محسوم. مشكلة لبنان تكمن في عدم تنزيل لبنود اتفاق الطائف وفق الأجندة الزمنية التي تم تحديدها بموجب هذا الاتفاق بخصوص نبذ الطائفية والغائها، و نزع سلاح الميليشيات المسلحة. حاليا من الصعب جدا العودة لاتفاق الطائف بأثر رجعي لتغيير المعادلة السياسية والأمنية داخل البلد في ظل المتغيرات الإقليمية التي حدثت خلال السنوات الماضية، وإلا فإن احتمال تقسيم لبنان يظل واردا جدا، ولكن بأي فاتورة؟ الذي يراهن على تجريد حزب الله من سلاحه في ظل موازين القوى الموجودة حاليا "داخليا وإقليميا" مخطئ ومن يراهن على إنهاء الطائفية في لبنان فهو واهم لأن الجزء الأكبر ممن هم الآن في الشارع تسكنهم الطائفية ولن يستطيعوا التحرر منها على الإطلاق وبيننا الأيام.