[i]. أفرز هذا المناخ اتجاهات سياسية متعددة انتظمت بين تيار محافظ وتيار يساري تقدمي، كانت لديها بطبيعة الحال انعكاسات على القطاع التربوي والتعليمي، وبالتالي فإن هذا الأخير وجد نفسه أمام وضع سوسيوسياسي داخلي ينذر بجميع الاحتمالات، علاوة على تأثره بوضع دولي خارجي شهد بدوره تغيرات وتحولات عميقة على المستوى الاقتصادي والسياسي والاجتماعي. 1- اختلال البلاد سياسيا وإحباط عملية إقلاع القطاع التربوي. على مستوى أول، تمكنت الجهود الحثيثة التي بدلت بداية بخصوص القطاع التربوي والتعليمي من تحقيق انفتاح سياسي وثقافي عريض، خاصة بأوساط الشباب المتعلم، حيث برزت على الساحة السياسية والثقافية مصادر علمية وسياسية وثقافية متنوعة ومتعددة، شكلت مراجعا ينهل منها بغزارة كل الشباب الطموح والمتدفق حيوية، لتحليل الواقع السوسيوسياسي والسوسيواقتصادي المغربيين، وتشييد وبناء تصورات وأطروحات بديلة بخصوص أساليب وكيفيات تدبير وحكم البلاد. من ثم أضحت الثقافة السائدة، سواء ذات الطابع الإصلاحي المحافظ أو تلك الموالية للمخزن والاستعمار، موضع تساؤل ونقد موسعين أفضيا إلى نفور المتمدرسين بالخصوص منها ورفضها جملة وتفصيلا: كالتعليم الطبقي الذي أرسى الاستعمار أسسه من خلال مذكرة اليوطي إلى المدير العام للتعليم يوم 30 أكتوبر 1915 والتي تنص على تخصيص مدارس خاصة لأبناء الاعيان تؤهلهم لإدارة البلاد، ومدارس أخرى لأبناء الشعب تمنحهم تأهيلا مهنيا لتغطية حاجيات سوق الشغل. وكذلك المسألة اللغوية التي كان القادة المحافظون القوميون يؤسسون لها بشدة عبر تغييب تام للتنوع الثقافي والعرقي والهوياتي التي تسم المجتمع المغربي. كل ذلك سيؤدي بالدولة إلى إعادة النظر في المسألة التعليمية وتبني سياسة تربوية بديلة تكفل لها التحكم في دواليب الحكم وتأزيله. "فالاستبداد الثقافي هو الأساس الذي يتيح الاستبداد السياسي والسلوكي[...] ويكمن أساسه في فقدان المرء حريته الفكرية، إزاء شخص أو حدث يجري التعامل معه كأصل ثابت أو كمرجع مطلق أو كرمز مقدس"[ii]. هكذا إذن، بتقويض أهمية القطاع التربوي والتعليمي التجديدية والطلائعية للرقي بالبلاد نحو الأحسن والأفضل، ونبد وإزاحة جنبا كل تنوع واختلاف فكري وقيمي لا يدور في فلك المسود والمستحب لدى الدولة، تكون هذه الأخيرة قد وضعت الحجر الأساس لميلاد عهد جديد يكون التسلط والاستبداد سماته البارزة "فالاستبداد يتجلى في رفض الاعتراف والاختلاف والتنوع"[iii]. وإذا كانت الدولة قد تبنت هذا الاتجاه الاستبدادي من أجل بلورة مشروعية الحكم لصالحها، فإن ذلك لن يتأتى لها إلا عبر آليات إضافية تسنح لها ضبط المجال برمته والتحكم بكل تفاصيله "فالوصول إلى أقصى درجات التحكم في أي نسق يمر بداية عبر ضبط المجال والتحكم في جميع هياكله وقنواته"[iv]. فكان اللجوء إلى الموروث الديني أمرا حاسما لديها، كسند أساسي لتضميد جراح الصدمات الاجتماعية والسياسية والدفع بالضحايا لقبول آثارها العميقة، وفرض أمر واقع يخدم أجندتها الفكرية والإيديولوجية "فكل آليات تحكم يحتاج كي يستتبب ويترسخ على أرض الواقع لسند أساسي مستمد من البنى الفوقية الموجهة للأفكار والميول والرؤى والتوجهات والسلوك [...] وهكذا فالاستبداد يستكمل السيطرة ويضمن دوامها من خلال ارتكازه على الموروث الثقافي والسحب من الرصيد الديني. هذا الارتكاز يجعل الاستبداد يتخذ الحالة الواقعية وبالتالي الطبيعية"[v]. وبذلك تعبدت الطريق لهدر الوعي وتفسحت السبل أمام الاستبداد الفكري، لتكون النتيجة هي إزاحة المدرسة من مواقعها السالفة الذكر، وبالتالي تهميش المدرس والتقليل من أهميته الفكرية والثقافية والاجتماعية والسياسية. لقد أمسى المدرس ورما وعبئا ينبغي استئصاله والتخلص من كل مساهماته ومن أدواره الطلائعية ومبادراته واجتهاداته في زرع بذور العلم وثقافة الديموقراطية والتغيير والتنمية. لأن ما يهم الدولة هو " تأزيل سلطتها والحفاظ على استمرار مواردها المتأتية من مصادر الثروات الوطنية، ولهذا فليس هناك فعلا استراتجيات حقيقية وفاعلة للبناء والنماء والإنتاج وبالتالي حسن تكوين الكفاءات واستقطابها ورعايتها"[vi]. على خلفية هذه التطورات، بدأت الجماعات الإسلامية تجد لنفسها موضع قدم داخل الأوساط الثقافية والسياسية والاجتماعية، وبوثيرة متسارعة كشفت عن نواياها المضمرة وعن طبيعة العلاقات التي تتوخى إرساءها وتقعيدها، والتي لا تتنافى إجمالا مع طموحات السلطة الحاكمة، بل هي أكثر من ذلك مفيدة للدولة وأداة لها " من حيث أنها أوجدت منافسا قويا للأحزاب اليسارية التي دخلت مع القصر في مرحلة من الجفاء والاحتقان، مما يدفع الكثير من المحللين إلى القول بفرضية خروج الشبيبة الإسلامية من رحم المخزن"[vii]. مما أوقع بالقطاع التربوي والتعليمي، والمدرس بشكل خاص في القيد المزدوج على العقول والنفوس من خلال ثنائية التجريم السلطوي والتحريم الديني، فبدا هناك تنافس شرس بين السلطة والفاعل الديني على النسق والفاعل التربويين بهدف التحكم فيهما وتسييرهما، سرعان ما أودى كل ذلك إلى تحالف مكشوف بينهما من أجل احتواء القطاع التربوي والتسلط على كل مفاصله بكل مكوناتها. 2- تأثير المناخ الدولي على فصول وأحوال القطاع التربوي. أودت الأزمة الدولية التي عرفها عقد السبعينات من القرن الماضي إلى تأزم دولة الرفاه التي طالت لأزيد من ثلاثة عقود بالمجتمع الغربي، وانتشار سريع لأفكار نيوليبرالية تطالب بحرية السوق، وكسر كل القيود أمام الرأس المال، وإطلاق العنان له للتجول والترحال بمختلف بقاع العالم. أفضى ذلك إلى انهيار النظريات التنموية المعتمدة على صعيد العالم الثالث، كنظرية التبعية خصوصا، وأضحت دول العالم النامي تحت رحمة منطق السوق الحرة والتجول الطليق للرأس المال الأجنبي الذي يداهم كل البلدان بمساندة قوية من قبل وكالات الأموال الدولية كالبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، ومنظمة التجارة العالمية، ووكالات التنمية الدولية... ينبني التوجه النيولبرالي على فكرة أساسية مفادها تدمير كل أساليب الرعاية والخدمات الاجتماعية المعتمدة لدى كل دولة، وانسحاب هذه الأخيرة كليا من كل تدخلاتها في ما يخص شؤون السوق، وإبقاء دورها في حده الأدنى أي كوسيط للتقريب بين الفاعلين وحفظ أمن الممتلكات وسلامة حركية الرأس المال. ومن ثم فتح الطريق وتعبيدها للاستثمار في المجالات الاجتماعية والثقافية وكذلك لتحديد وتوجيه السياسات العامة. ذلك أن دولة الرعاية والخدمات الاجتماعية التي عرفها الغرب " لم تكن سوى الثمن الذي تعين على المجتمعات الصناعية الرأسمالية دفعه لمقاومة الشيوعية[...] فأممية رأس المال، وديكتاتورية السوق، ترفعان شعار الربح الآني كهدف واحد ووحيد، في عصر المنافسة المفتوحة التي يجب أن تسخر لها كل الإمكانيات وتزاح من أمام انطلاقتها الكاسحة كل الضوابط والقيود"[viii]. فعصر الرفاه الاقتصادي ليس سوى حدث عابر في التاريخ الاقتصادي، وحيث أن دولة الرعاية قد تلاشت، فلم يعد هناك مبرر لتحمل نفقات الرعاية، وعليه يؤكد التوجه النيولبرالي، أن قدرا من اللامساواة الاجتماعية أضحى أمرا لا مناص منه خدمة لأممية رأس المال. توالت بذلك الضغوط على مختلف بلدان العالم الثالث، الواقعة تحت وطأة ديون ثقيلة وأزمات عسيرة، من أجل الاستسلام لشروط الأسواق المالية والشركات العملاقة، المتمثلة في صدارة أرباح المساهمين على ما عداها من اعتبارات أخرى. ونتيجة ذلك ليس التخلي عن دولة الرعاية وخدماتها لمختلف الفئات الاجتماعية فحسب، بل تبني وتفعيل سياسة زجر، ومحاربة كل فكر تنويري معارض لمثل تلك التوجهات اللاوطنية، وشل كل المبادرات الرامية إلى الحيلولة دون وقوع البلد في مصيدة الرأس المال الأجنبي، والزج بالشعب في براثين البطالة الطويلة الأمد، التي أضحت أمرا مطلوبا لدى أصحاب القرار الدولي من أجل التحكم في سوق العمالة وفرض شروط عمل أدنى. بالتالي سيجد القطاع التربوي والتعليمي نفسه أمام ضغوط مستمرة، وتسلط ممنهج، وانتهاكات جسيمة لكيانه، وإصرار هجومي على مكتسباته، وهدم متعمد لقواعده وتقويضها من كل حذب وصوب، ليس الشعب ضحيته الوحيدة المستهدفة، بل كذلك كل المدرسين وجميع المتدخلين في الشأن التربوي والتعليمي الذين ثابروا، واجتهدوا، وقدموا الغالي والنفيس، خدمة لمبادئه التي تروم بناءه كمشروع وطني يستمد أسسه من طموحات المغاربة وانتظاراتهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية. حيث أضحت الدولة لا تطيق وجود أشخاص يتخذون من كفاءاتهم وتوظيفها في إنجازات ذات شأن، مرجعية لهم، كما لا تطيق كل صاحب كفاءة يعمل للصالح العام. في هذا السياق أُعد برنامج التقويم الهيكلي، باعتباره ورقة الطريق للإصلاح والخروج من الأزمة التي تتخبط فيها البلدان المثقلة بالديون. وقُصد من ذلك تجنيد الدولة واستنفار كل مكوناتها للعمل على قدم وساق من أجل تسيير وتدبير شؤون البلاد وفق إملاءات البنك الدولي، التي ليست حقيقة سوى توجهات السياسة النيولبرالية، كما أوردناها سابقا. "فأول ما يعنيه هذا التصحيح، إضافة إلى فتح الأسواق أمام السلع المستوردة، هو إلغاء التقديمات الاجتماعية وعلى رأسها الصحة والتعليم وتوفير فرص العمل، فحتى هذا القليل، ومحدود الكفاءة في التعليم، تفرض إعادة الهيكلة إلغاءه لتوفير نفقاته التي يجب أن تذهب بدلا من ذلك إلى خدمة فوائد الديون المتعاظمة"[ix] . تتمثل أول التعليمات التي قُرر ضرورة تنفيذها بهدف تعبيد الطريق لأجرأة توجهات الإصلاح الهيكلي في: تخلي الدولة عن كافة الخدمات الاجتماعية، وقف الاستثمار العمومي، تجميد أجور موظفي الدولة، تجميد التوظيف في القطاع العمومي، الرفع من الضريبة على الأجور، خوصصة القطاعات العمومية. مما أسفر عنه بالضرورة، إضعاف دور الدولة، وتعرض الاقتصاد الوطني لصدمات خارجية وكذلك إلى ارتفاع الأسعار وإلغاء الدعم. أما بخصوص القطاع التربوي والتعليمي العام، فإقدام الدولة على تفعيل بنود ذلك البرنامج، تكون بكل تأكيد، قد انتهكت حرمة القطاع، ودقت أخر مسمار في نعشه، ليظل طريح فراش أزمات مزمنة، تُلكز وتُنهش أوصاله وأوعيته الحيوية بمهماز من التقارير والندوات وبرامج إصلاح، ليست في واقع الأمر إلا جرعات مورفينية لتسكين وتهدئة أوجاعه وآلامه، ريثما تحل الآجال المواتية ويوارى جثمانه الثرى. لاسيما، بعدما صُدر حق المدرس في متابعة دراسته الجامعية وتوسيع دائرة معارفه، وجُمدت أجوره، وحُرم من الترقية، وهُدرت كرامته وكيانه الإنساني. فأضحى موضع اتهامات ومتابعات ومحاكمات واغتيالات، كما تعرض لإرهاب نفسي واجتماعي، وتهميش، وإقصاء، وتفقير عبر الزيادة في الأسعار وتجميد الأجور، وإثقال كاهله بأعباء ومهام إضافية، علاوة على تحميله مسئولية مآل الوضع التعليمي والتربوي، وما ترتب عن ذلك من العطالة والبطالة التي طالت شرائح اجتماعية مختلفة، وأعداد غفيرة من خريجي المعاهد والجامعات، وحاملي الشواهد. أودت كل هذه العناصر إلى تدهور مكانته وإقصائه، ذلك "أن تكميم أفواه المثقفين وتبخيس إنجازاتهم، وعدم الإلتفاف إليها، وإن إغراق المثقف في واقع محكوم بانسداد الآفاق ومحدودية الفعل والتأثير كلها عناصر بارزة في استراتجية الإقصاء التي يستعين بها الجهاز المخزني وبضراوة أكبر كلما كان لهؤلاء المثقفين امتداد اجتماعي وصوت حقيقي سالك للمصداقية والموضوعية"[x]. بالتالي تراجعت نظرة المجتمع إزاء هذا الرجل الذي يحمل المعرفة، وفقد التقدير الذاتي، وأصبح لديه إحساس بالوحدة، وبدأ ينمو لديه إحساس بالعبث وعدم الجدوى وتفاهة الذات والفعل، كما بدأ ينمو لديه الوهم عن أهميته وطاقته المهدورة، وعن مكانته التي لا يقدرها أحد. كلها أعراض تكشف عن ذاتها لكون أن "فقدان الثقة في المؤسسة التعليمية، وطغيان البعد الانتقاصي لمكانتها وانهيار دورها في الحراك الاجتماعي، بما يعنيه من ترقي اجتماعي ورمزي مفتوح للجميع، كل ذلك يهدد العلاقة بين المدرسة والمجتمع"[xi]. خلاصة إن ما يشار إليه بإصلاح القطاع التربوي والتعليمي العام، ليس في واقع الأمر سوى هجوم منظم ومحكم التدبير من طرف الدولة وبإيعاز من وكالات المال الدولية في أفق القضاء على كل ما من شأنه أن يقف في وجه حرية حركية الرأس المال. في هذا السياق ينكشف طبعا التحالف والتعاضد الملحمي بين الدولة وكل الأطراف التي تدور في فلك المخزن من جهة، وبين الرأسمالية الجشعة التي تلهث وراء الربح السريع وبأقل التكاليف، من جهة أخرى. أول ما يفضي إليه التواطؤ بين كل هذه العناصر هو إشهار سيف التسلط في وجه كل من سولت له نفسه المطالبة بحق، أو التنديد بظلم، أو السعي وراء البحث عن المعرفة ونشر الوعي من جهة، والاستبداد بأرواح العباد، والإجهاز على ممتلكاتهم، وسلب إنسانيتهم، والعبث بحيواتهم، والزج بهم في أوضاع ما دون خط الوجود من جهة أخرى. خاتمة يتضح بما لا يدفع للشك أن توفير التعليم العام في الوقت الراهن لا يقوم على أي مشروع فعلي، أو استراتجية نمائية حقيقية لبناء الاقتدار الذاتي والمعرفي والمهاري، بل هو عبارة عن تنازلات من السلطة لمنع تفاقم المآزق، إنه يمثل ضريبة الحفاظ على السلطة والمكتسبات، أو هو محاولة للتخدير وتأجيل انفجار الأزمات. من ذلك ينجلي أن ما يدرج كبرامج لترميم قطاع التربية والتعليم (ميثاق التربية والتكوين، البرنامج الاستعجالي...) لا تعدو أن تكون في الحقيقة سوى سياسات ممنهجة لتدمير وتفكيك ما تبقى من أشلاء قطاع التعليم العام. أي أنها خطوات حثيثة ومتواصلة باستمرار من أجل الإنزال والتطبيق الفعلي لبنود التقويم الهيكلي، مما يُستنتج منه أن كل التوجهات السياسية التي تهم الشأن التربوي والتعليمي المغربي، تصب جميعها في خندق تكميم الأفواه وتقليم الأظافر ومنهجية الاحتواء والتدجين على أساس تهيئ أرضية اجتماعية وسياسية وثقافية ملائمة لأجرأة وتفعيل مخططات القضاء على الطابع العام للخدمات الاجتماعية. وتجب الإشارة في نهاية المطاف إلى أن استفحال الهدر الانساني،يؤدي حتما إلى ازدهار وانتشار الاوصوليات التي تقدم ذاتها على أنها البديل الذي يحمل الخلاص، ولذلك ورغم التناقضات الظاهرية، فإن هناك حلفا مصلحيا ضمنيا على أرض الواقع بينها وبين السلطة وكل الشظايا العالقة بشباك هذه الأخيرة، في حربها على الفكر والوعي والطاقات الحيوية والنشيطة والراغبة في التغيير والحراك، والتي تمد وتجدد طاقات هذا المجتمع. فأي مغرب نسعى لبنائه، بموارد بشرية مهدورة الفكر والوعي والكيان، وفاقدة لانسانيتها؟؟ الهوامش