تابعت في الأسابيع الماضية مجموعة محاضرات، في تاريخ المغرب، لباحث مغربي يقدم نفسه على أنه "مؤرخ"، اسمه الدكتور عبد الخالق كلاب، تناول فيها فترات من تاريخ المغرب، وبخاصة منها تاريخ المغرب الوسيط، بدءا من الفتح الإسلامي، والحكم الأموي، مرورا بالبورغواطيين، والأدارسة، والمرابطين، والموحدين، وغيرهم، وصولا إلى تاريخ المغرب المعاصر، كل ذلك وفق رؤية معينة ومقاربة خاصة، اصطلح على تسميتها ب "القراءة المغربية لتاريخ المغرب"، في مقابل "القراءة المشرقية" كما يحلو له وصفها. مبدئيا، فإن علم التاريخ – كفرع من فروع العلوم الإنسانية – يظل حقلا خصبا وورشا مفتوحا لتعدد القراءات والمراجعات، لأنه – ببساطة – جهد بشري، يحتمل من الخطأ مثل ما يحتمل من الصواب، ويعتمد على تعدد الروايات التاريخية واختلافها، ويرد فيه من العيوب والثغرات ما يستوجب النقد والتمحيص، والتدقيق والتحقيق، والنقد والمراجعة. تقوم رؤية الدكتور عبد الخالق كلاب لتاريخ المغرب، على فكرة مفادها "التصدي للقراءات المشرقية"، التي يرى فيها "تجنيا على تاريخ المغرب"، في أفق إنتاج "قراءة مغربية" "منصفة" لذلك التاريخ. ومع أنه لا أحد يمكنه الاعتراض على أهمية كتابة تاريخ أي بلد بأقلام أبنائه، لأن "أهل مكة أدرى بشعابها" كما يقول المثل العربي، فإنه لا أحد يملك حق مصادرة أبناء الأمة الواحدة، في أن يهتم بعضهم بتاريخ بعض، ويكتب بعضهم عن تاريخ بعض، خاصة وأن الأمة الإسلامية بجناحيها الشرقي والغربي، تمثل امتدادا جغرافيا وبشريا وثقافيا واحدا، وهو ما يعطي للمشارقة حق الكتابة عن تاريخ المغرب، ويعطي للمغاربة حق الكتابة عن تاريخ المشرق، بشرط واحد فقط، هو تحري الدقة والموضوعية، وترك التعصب والإيديولوجيا والخلفيات. ثم إن نقد نمط معين من أنماط الكتابة التاريخية، والتطلع إلى إنتاج بديل عنه، ينبغي أن يكون مبنيا على دواع وأسباب، وعلى موجبات ومسوغات، ولا يكتفي بمجرد الأحكام العامة، التي تؤدي إلى دغدغة العواطف، وإلى إنتاج خطاب شوفيني ضيق، ونقد إيديولوجي متعصب، أكثر مما تنتج نقدا علميا وتحقيقا تاريخيا. ومع ذلك، فنحن – من حيث المبدأ – مع الدكتور كلاب، في دعوته إلى "مغربة تاريخ المغرب"، ولكن الظاهر أن "المغربة" عند الرجل ليست أكثر من نزعة ذاتية أو نزوة عابرة، وليست أكثر من عقدة أو رد فعل عاطفي متشنج، بدون رؤية ولا ضوابط، دافعه حقد الرجل الدفين على المشارقة، وغرضه افتعال شرخ تاريخي وثقافي بين المغرب والمشرق، والتعصب لكل ما يعتبره "مغربيا"، والتحريض على كل ما يرى فيه "مشرقيا"، وبغير قليل من الجرأة والإطلاق والتعميم. إن الهوية المغربية – في نظر الدكتور كلاب – هوية أحادية وليست متعددة، والبعد العربي والإسلامي فيها بعدان "مشرقيان" دخيلان، ليسا من الهوية المغربية، ولا ينبغي اعتبارهما منها، وإن كان تاريخهما في المغرب يتجاوز ثلاثة عشر قرنا، والإنسان المغربي بحكم الجينات – عند الدكتور كلاب – هو إنسان أحادي العرق، ولا اعتبار لأي تنوع عرقي أو لغوي أو ثقافي بالمغرب، وهذا بدع من القول لم يسبقه إليه أحد ممن كتبوا أو حاضروا في تاريخ المغرب، بمن فيهم أصحاب الخلفية الاستعمارية من المؤرخين الغربيين والفرنسيين، وبمن فيهم دعاة الحركة الثقافية الأمازيغية، الذين يدافعون عن المكون الأمازيغي المحلي في الهوية المغربية، ولكن أحدا منهم لم يجرؤ على إقصاء المكون العربي ولا المكون الإسلامي منها، مما يعني أن تطرف عبد الخالق كلاب وشوفينيته، قد تجاوزا تطرف وشوفينية أحمد عصيد، الذي يتطاول على الإسلام باسم الحداثة والعلمانية، لكنه – مع ذلك – يقر بأن الهوية المغربية متعددة ومركبة، ولم يدع قط – على سقطاته وزلاته – إلى إسقاط المكون العربي أو الإسلامي من الهوية المغربية. وما يلبث عبد الخالق كلاب، أن يكشف عن مفهومه ل "تمغربيت"، حين صرح بانتمائه إلى "البورغواطية"، وعنون إحدى خرجاته ب "البورغواطية تمثلني"، وهي النحلة التي أنشأت إمارة على مذهب الخوارج الصفرية، والتي ذكر المؤرخون انحرافها وتحريفها للإسلام، مما دفع المرابطين الأمازيغ السنة – بقيادة يوسف ابن تاشفين – إلى مهاجمتها واجتثاثها. ومعنى ذلك، أن الرجل لا يصدر عن خلفية علمية بحثية محايدة، وإنما عن خلفية إيديولوجية، تكن العداء والحقد لكل ما هو "عربي مشرقي"، وتسعى إلى فك الارتباط بين المغرب وعمقه العربي وامتداده الإسلامي، وهي الأطروحة التي يتماهى فيها مع رأي جناح متطرف من الحركة الثقافية الأمازيغية، بل يلتقي فيها – مع الأسف – مع الأجندة الصهيونية التفكيكية في المنطقة، وكما يقال "إذا عرف السبب بطل العجب"، وتبين لماذا يحمل الدكتور عبد الخالق كلاب عقدة الحقد والعداء لكل ما هو "عربي مشرقي"، ولماذا يدعو إلى القطع مع المشرق لغويا وثقافيا وحضاريا، متجاهلا كون المغاربة يتوجهون إلى الكعبة "المشرقية" خمس مرات في اليوم، ويرتلون القرآن "المشرقي" كل يوم، ويتكلمون العربية "المشرقية" – لغة القرآن – ويخدمونها، كما لم يخدمها غيرهم، ويتبنون الإسلام الآتي من المشرق، ويحتكمون إليه في بيعهم، وشرائهم، وزواجهم، ومعاملاتهم، وفي كل مناحي حياتهم. إن التعريب الذي يرى فيه عبد الخالق كلاب مؤامرة سياسية واستلابا لغويا، كان بالنسبة للمغاربة اختيارا لغويا طوعيا، بل اختيارا حكيما موفقا، للغة القرآن ولسان الوحي، الذي يتشرفون بالانتساب إليه، ويقربهم من فهم دينهم، والتواصل مع إخوانهم، والانخراط في أمتهم الإسلامية العظيمة الممتدة من طنجة إلى جاكرتا، ولا أدل على ذلك مما أنجبه المغرب المسلم، من الأدباء والفقهاء والقراء والعلماء، أمثال ابن أجروم، وابن معطي، وابن عاشر، وابن القطان، والقاضي عياض، واليوسي، والمختار السوسي، وجل تراثهم باللسان العربي المبين. ومن عجب أن هؤلاء الأعلام العظام ليسوا في نظر كلاب القاصر وفهمه الضيق، ليسوا أكثر من مستلبين، تنكروا لهويتهم، وأداروا ظهورهم لتاريخهم، وكتبوا بلسان غيرهم، وهو لا يدري أن محرك هؤلاء الكبار، كان شيئا واحدا هو الدين والعقيدة، ولما عرفوا أن العربية وعاء القرآن ولسان حضارة الإسلام، وأنها – أي العربية – لم تعد بعد الإسلام لغة قومية، وإنما أضحت لغة عالمية، ولم تعد لغة شعر وأدب فحسب، وإنما أضحت لغة علم وحضارة وعمران، لما أدركوا ذلك، كتبوا بها وخدموها، وأحبوها ورسموها، وقدموها على لغتهم الأم، دون عقد تذكر، ودون إحساس بالاستلاب أو تفريط في الهوية. وأحب – في هذا السياق – أن أذكر الدكتور كلاب الذي يأخذ من تاريخ المغرب ويدع حسب هواه، بأن خيار التعريب – كسياسة للدولة – بدأ في العهد الموحدي، يوم كان الحكم للأمازيغ، بقرار من الزعيم المؤسس محمد المهدي بن تومرت، الذي أمر أول الأمر أن تقام خطبة الجمعة في مساجد المغرب بالأمازيغية، ثم ما لبث أن أمر بتعريبها، توحيدا للغة الدين والهوية، وتفاديا لازدواجية اللغة وما ينجم عنها، وحرصا على تقريب المغاربة من الإسلام، وتقريب الإسلام منهم، ومن يومها اتخذ اللسان العربي لسانا رسميا، واللسان الأمازيغي لسانا شعبيا، وتكامل اللسانان وتزاوجا عند المغاربة، في انسجام وانتظام، فأنجبا العامية المغربية، التي هي وسط بين العربية والأمازيغية، وعاش المغاربة حياتهم، وأسسوا دولتهم، وشيدوا حضارتهم، باللسانين معا، دون مشاكل تذكر، وحين بدا لهم ترسيم اللسان الأمازيغي إلى جانب شقيقه العربي، فعلوا ذلك بإجماع ودون اعتراض أو تحفظ من أحد، قبل أن يظهر من أمثال عبد الخالق كلاب، من يتطاول على المكون العربي، وينتقص اللسان العربي، ويدعو إلى الاستغناء عن كل ما هو عربي "مشرقي". كما أن الفتح الإسلامي المجيد لبلاد المغرب، الذي يجتر فيه الدكتور كلاب كلام المستشرقين الحاقدين، من كونه غزوا واستعمارا، فإن تاريخ المغرب وحاضره يكذبان ادعاءات وأكاذيب المستشرقين تلك، لأنه لا يتصور وجود غزو يستمر ثلاثة عشر قرنا، ولا يوجد دين فرض على الناس بالسيف والقوة يصمد ويستمر هذه القرون الممتدة، وكأن المغاربة حملان أو حمائم بغير إرادة ولا قوة، مع أن تاريخهم يشهد – عكس ذلك تماما – بأنهم قوم أباة أحرار، لا يقبلون الضيم، ولا يعطون الدنية في حريتهم واستقلالهم، ويأنفون من أن يفرض عليهم شيء من غير إرادتهم، ولولا حبهم للإسلام واعتناقهم له لما استمر الإسلام بالمغرب إلى اليوم، بل إن المغاربة أنفسهم ما لبثوا أن صاروا من حملة الرسالة الفاتحين، الذين حملوا رسالة الإسلام إلى الأندلس وإلى إفريقيا جنوب الصحراء. ثم إذا كان الإسلام انتشر في المغرب بالسيف، كما يدعي الدكتور عبد الخالق كلاب وأمثاله – عفوا كما يدعي المستشرقون وخصوم الإسلام – فما المانع من زواله وتلاشيه بزوال السيف؟ وما المانع من ارتداد المغاربة الأمازيغ عنه حين استتب لهم الأمر وآل إليهم الحكم؟ بل إن العكس هو الحاصل تماما، فإن من أعظم الفتوحات الإسلامية لإفريقيا جنوب الصحراء، كانت تلك التي كانت على أيدي المرابطين المسلمين الأمازيغ، بقيادة الإمام عبد الله بن ياسين الجزولي السوسي مجدد الإسلام في إفريقيا، ومن بعده أبي بكر بن عمر اللمتوني المرابطي، ثم إن الإسلام بالمغرب لا يزداد – بحمد الله – إلا تجذرا ورسوخا، وانتصارا وانتشارا، ولو كره الحاقدون، وعدد كبير من علمائه ودعاته هم بفضل الله من فضلاء المسلمين الأمازيغ. لذلك، وباسم "إعادة قراءة تاريخ المغرب"، والتصدي "للقراءات المشرقية لتاريخ المغرب"، أنتج الدكتور عبد الخالق كلاب – مع الأسف – خطابا قوميا متعصبا، وقاموسا شوفينيا ضيقا، وقراءة عرقية عنصرية لتاريخ المغرب، حاولت صبغه بلون عرقي وثقافي واحد، ونسبت إليه كل فضيلة وإنجاز، وإلى غيره كل رذيلة وفشل، بكل إطلاق وتعميم، وذلك عين الضيق والتعصب مع الأسف، ولذلك يتعرض عقب كل محاضرة لوابل من الشتائم والسباب، من الذين يجدون في خطابه العنصري الضيق إقصاء لهم، وتطاولا على هويتهم، وتسفيها لثقافتهم وأفكارهم. وبذلك يتبين، أن العبرة في كتابة أو مراجعة التاريخ عموما، وتاريخ المغرب خصوصا، ليست في كون المؤرخ مغربيا أو مشرقيا، فإن ذلك شرط تحسيني تكميلي، إن توفر فبها ونعمت وإن لم يتوفر فلا مشكلة، وإنما العبرة بمستوى العمق والاطلاع والنزاهة والموضوعية التي تتوفر للمؤرخ، وبمقدار تحرره من العقد والخلفيات والمشوشات، وههنا مشكلة الدكتور عبد الخالق كلاب، التعصب الأعمى لكل ما هو "مغربي" بالمعنى القومي العنصري ل "تمغربيت"، والحقد على كل ما هو "عربي مشرقي"، عافانا الله من شر الحقد والتعصب والهوى. ومن الغريب حقا أن جل مصادر الدكتور كلاب في قراءته "المغربية" هي مصادر مشرقية، ولكنه يأخذ منها ويدع، ويقبل ويرد، بمنهج انتقائي فج، لأنه لم يدخل حقل التاريخ دخول الباحث النزيه، وإنما دخله بتصور جاهز، وبخلفية مسبقة، حجبت عنه الرؤية الواضحة، ومنعته من التعامل الموضوعي مع الوقائع والروايات، أو بعبارة أوضح، فإن حقد الرجل الدفين على كل ما هو "مشرقي"، وتعصبه الأعمى لكل ما هو "مغربي"، قد أصاباه بعمى الألوان، وحجبا عنه الرؤية، فما عاد يرى سوى لون واحد، وعرق واحد، ولغة واحدة، وذلك عين الإقصاء والتعصب والاختزال والشوفينية. إن المؤرخ الحق، ليس هو الذي يرجع إلى التاريخ ليغوص فيه ويغرق، وينسى الواقع، ويغفل عن مقاصد دراسة التاريخ، وليس الذي يسافر إلى التاريخ لإيقاظ الأحقاد وإحياء النعرات والنبش عن الجروح، بزعم "الموضوعية" و"النقد التاريخ" و"التحقيق"، فيتحول إلى فتان ينشر الفتن، ويفرق الجماعات، ويبث الفرقة والأحقاد بين الناس، كما يفعل عبد الخالق كلاب مع الأسف، ولكن المؤرخ الحق، هو الذي يعرف مشاكل الواقع وتحديات العصر، ويعرف كيف يرجع إلى أحداث التاريخ، ليستمد منها الدروس والحلول، لاستثمار الصفحات المشرقة من ذلك التاريخ في الحاضر، وتجنب تكرار مآسي التاريخ في الحاضر، وحتى لا يعيد التاريخ – في جانبه السلبي – نفسه، وأنا أجزم بأن الرجل لا يملك هذا المنظور، وليس بأهل قط لهذا الأفق. ومن المناسب في الختام، أن أعرف الدكتور عبد الخالق كلاب، الذي يختزل الهوية المغربية في مكون واحد من مكوناتها، ولا يتكلم كلمة منه، ولا يعرف من ثقافته شيئا، فيكون في مقام من يتحدث عما يجهل، من المناسب هنا أن أعرفه بأن كاتب هذه السطور ناطق بالأمازيغية، وبست لهجات، ملم بالثقافة الأمازيغية، مقدر لمكانتها، داع إلى إنصافها، ولكنه لا يتعصب لها، ولا يعادي العربية – التي اصطفاها الله من دون اللغات لتكون لسان القرآن – من أجلها، ولا يدعو إلى القطيعة مع العرب والمسلمين الذين يعتبرهم إخوانه في الدين والعقيدة، ويتبنى الإسلام خاتم رسالات السماء، ويتعلم منه السماحة والإنسانية، والوسطية والاعتدال، والأخوة والمحبة، وأن الناس جميعا أبناء آدم، وأن الأرض لله يورثها من يشاء، وأنه لا فضل لعجمي على عربي، ولا لعربي على عجمي، إلا بالتقوى والإيمان، ويجد في نفسه – بكل تواضع – مثالا مصغرا للهوية المغربية المتنوعة، التي جمعت بين الأمازيغية والعربية والإسلام، في تكامل وتناغم وانسجام، وعاشت بهذه الأضلاع ثلاثة عشر قرنا من الزمان، فأنتجت شعبا أمازيغيا عربيا مسلما، معتصما بدينه، معتزا بلغتيه العربية والأمازيغية، راضيا منسجما، لا يشعر بأي تعارض أو تناقض، ولا يبغي عن هويته الإسلامية الأمازيغية العربية بديلا، ولكن أنى لعقول أمثال عبد الخالق كلاب الصغيرة الضيقة، أن تستوعب الاختلاف، وأن تفهم أن المغاربة هم أمازيغ وعرب ومسلمون في الوقت نفسه، كمن يصف الشمس بأنها مضيئة ومستديرة وكبيرة في الآن ذاته، دون أن يقع في أي خطأ أو تناقض.