بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على النبي المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد: ما أحوجنا في هذه الظروف العصيبة التي يجتاح فيها وباء "كورونا" العالم إلى الاستهداء بالشريعة الغراء والمحجة البيضاء مستحضرين منهجها في الوقاية والتعامل مع الوباء، تثبيتا للنفوس وتسكينا لها من الفزع والمخاوف. والشريعة عنيت بشؤون الإنسان كلها دقها وجلها، ومن ذلك عنايتها بمعضلة الوباء وقاية، وواقعا، وعلاجا. وهذا ما سنتناوله بشيء من البيان، بإيراد بعض ما ورد عن النبي العدنان عليه أفضل الصلاة والسلام، والاستشهاد بأقوال الأئمة الأعلام، على سبيل الإيجاز والاختصار. منهج الشريعة الإسلامية في الوقاية من الوباء: الوقاية من الهلاك من آكد ما نصت عليه الشريعة في كثير من آي القرآن وما صح عن النبي العدنان، ودلت على ذلك كليات الشريعة ومقاصدها المجمع عليها من لدن الأئمة الأعلام، وأصل ذلك ما ورد في قوله تعالى :"وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ" (البقرة: 195) وغير ذلك مما ورد في حفظ الأنفس والأبدان، واتقاء ما يفضي بالإنسان إلى الهلاك. واعتبرت الشريعة "التداوي عند وقوع الأمراض، والتوقي من كل مؤذ آدميا كان أو غيره، والتحرز من المتوقعات حتى يقدم العدة لها، وهكذا سائر ما يقوم به عيشه في هذه الدار من درء المفاسد وجلب المصالح" (الموافقات، الشاطبي، ج:2، ص: 261). وقد تقرر أن الوقاية خير من العلاج، وإذا انتشر الأمر واستحكم، فلا يجوز اليأس والقنوط، ونشر الفزع والرعب بين الناس، وأرشدت الشريعة إلى منهج التعامل مع الوباء عند نزوله؛ كما حثت على الوقاية منه قبل حلوله. منهج الشريعة الإسلامية في التعامل مع الوباء عند نزوله: كما حثت الشريعة الإسلامية على بذل سبل الوقاية، والحرص على دفع المفاسد، فإنها بينت منهج التعامل معه عند وقوعه بتثبيت النفس ودفع الفزع والجزع عنها، والرضا بقضاء الله وقدره، والتخفيف على النفس بتأمل مصير من أصيب بالوباء فمات به، ومن ذلك ما ورد في صحيح مسلم عن حفصة بنت سيرين، قالت: قال أنس بن مالك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الطاعون شهادة لكل مسلم» (صحيح مسلم، كتاب الإمارة، حديث: 1916) وفي هذا تسلية للنفس وتثبيت لها عن الفزع وانتشار الوباء. ومما يجب اجتنابه نشر الوباء –عن قصد أو عن غير قصد- باجتناب نقله إلى الناس عند وقوعه، وعدم المخاطرة بالنفس فيما انتشر فيه، وقد ذكر حافظ المغرب ابن عبدالبر أن الأحاديث الواردة في الوباء يستفاد منها: «النهي عن ركوب الغرر والمخاطرة بالنفس والمهجة لأن الأغلب في الظاهر أن الأرض الوبيئة لا يكاد يسلم صاحبها من الوباء فيها إذا نزل بها فنهوا عن هذا الظاهر إذ الآجال والآلام مستورة» (التمهيد، ابن عبدالبر، ج: 12، ص: 260). وقد روى الإمام مالك في موطئه عن أبي عطية الأشجعي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا عدوى، ولا هام، ولا صفر، ولا يحل الممرض على المصح، وليحلل المصح حيث شاء»، فقالوا: يا رسول الله، وما ذاك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنه أذى» (الموطأ، كتاب العين، باب عيادة المريض والطيرة، حديث: 18). حكمة النهي عن الدخول إلى أرض بها وباء: أورد العلامة ابن القيم رحمه الله جملة من الحكم المتعلقة بحكمة النهي عن الدخول إلى أرض بها وباء، وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع للأمة في نهيه عن الدخول إلى الأرض التي هو بها، ونهيه عن الخروج منها بعد وقوعه كمال التحرز منه، فإن في الدخول في الأرض التي هو بها تعرضا للبلاء، وموافاة له في محل سلطانه، وإعانة للإنسان على نفسه، وهذا مخالف للشرع والعقل، بل تجنب الدخول إلى أرضه من باب الحمية التي أرشد الله سبحانه إليها، وهي حمية عن الأمكنة، والأهوية المؤذية. وأما نهيه عن الخروج من بلده، ففيه معنيان: أحدهما: حمل النفوس على الثقة بالله، والتوكل عليه، والصبر على أقضيته، والرضا بها. والثاني: ما قاله أئمة الطب: أنه يجب على كل محترز من الوباء أن يخرج عن بدنه الرطوبات الفضلية، ويقلل الغذاء، ويميل إلى التدبير المجفف من كل وجه إلا الرياضة والحمام، فإنهما مما يجب أن يحذرا، لأن البدن لا يخلو غالبا من فضل رديء كامن فيه، فتثيره الرياضة والحمام، ويخلطانه بالكيموس الجيد، وذلك يجلب علة عظيمة، بل يجب عند وقوع الطاعون السكون والدعة، وتسكين هيجان الأخلاط، ولا يمكن الخروج من أرض الوباء والسفر منها إلا بحركة شديدة، وهي مضرة جدا، هذا كلام أفضل الأطباء المتأخرين، فظهر المعنى الطبي من الحديث النبوي، وما فيه من علاج القلب والبدن وصلاحهما؛ فإن قيل: ففي قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تخرجوا فرارا منه»ما يبطل أن يكون أراد هذا المعنى الذي ذكرتموه، وأنه لا يمنع الخروج لعارض، ولا يحبس مسافرا عن سفره؟ قيل: لم يقل أحد طبيب ولا غيره، إن الناس يتركون حركاتهم عند الطواعين، ويصيرون بمنزلة الجمادات، وإنما ينبغي فيه التقلل من الحركة بحسب الإمكان، والفار منه لا موجب لحركته إلا مجرد الفرار منه، ودعته وسكونه أنفع لقلبه وبدنه، وأقرب إلى توكله على الله تعالى، واستسلامه لقضائه. وأما من لا يستغني عن الحركة، كالصناع، والأجراء، والمسافرين، والبرد، وغيرهم، فلا يقال لهم: اتركوا حركاتكم جملة، وإن أمروا أن يتركوا منها ما لا حاجة لهم إليه، كحركة المسافر فارا منه. وفي المنع من الدخول إلى الأرض التي قد وقع بها عدة حكم: أحدها: تجنب الأسباب المؤذية، والبعد منها. الثاني: الأخذ بالعافية التي هي مادة المعاش والمعاد. الثالث: أن لايستنشقوا الهواء الدي قد عفن وفسد فيمرضون. الرابع: أن لا يجاوروا المرضى الذين قد مرضوا بذلك، فيحصل لهم بمجاورتهم من جنس أمراضهم. وفي «سنن أبي داود» مرفوعا: «إن من القرف التلف» قال ابن قتيبة: القرف مداناة الوباء، ومداناة المرضى. الخامس: حمية النفوس عن الطيرة والعدوى، فإنها تتأثر بهما، فإن الطيرة على من تطير بها، وبالجملة ففي النهي عن الدخول في أرضه الأمر بالحذر والحمية، والنهي عن التعرض لأسباب التلف. وفي النهي عن الفرار منه الأمر بالتوكل، والتسليم، والتفويض، فالأول: تأديب وتعليم، والثاني: تفويض وتسليم (الطب النبوي، ابن القيم، ص: 34). وفي صحيح البخاري وغيره: أن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام، حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد، أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه، فأخبروه أن الوباء قد وقع بأرض الشام. قال ابن عباس: فقال عمر: ادع لي المهاجرين الأولين، فدعاهم فاستشارهم، وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام، فاختلفوا، فقال بعضهم: قد خرجت لأمر، ولا نرى أن ترجع عنه، وقال بعضهم: معك بقية الناس وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء، فقال: ارتفعوا عني، ثم قال: ادعوا لي الأنصار، فدعوتهم فاستشارهم، فسلكوا سبيل المهاجرين، واختلفوا كاختلافهم، فقال: ارتفعوا عني، ثم قال: ادع لي من كان ها هنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح، فدعوتهم، فلم يختلف منهم عليه رجلان، فقالوا: نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء، فنادى عمر في الناس: إني مصبح على ظهر فأصبحوا عليه. قال أبو عبيدة بن الجراح: أفرارا من قدر الله؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة؟ نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كان لك إبل هبطت واديا له عدوتان، إحداهما خصبة، والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟ قال: فجاء عبد الرحمن بن عوف – وكان متغيبا في بعض حاجته – فقال: إن عندي في هذا علما، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه» قال: فحمد الله عمر ثم انصرف (صحيح البخاري، كتاب الطب، حديث: 5729) . ونقل الحافظ ابن عبدالبر رحمه الله أنه «أحكمت السنة والحمد لله كثيرا ما قطع وجوه الاختلاف فلا يجوز لأحد أن يقدم على موضع طاعون لم يكن ساكنا فيه، ولا يجوز له الفرار عنه إذا كان قد نزل في وطنه وموضع سكناه» (الاستذكار، ابن عبدالبر، ج: 8، ص: 51). منهج الشريعة الإسلامية في علاج الوباء: العلاج أخذ بالأسباب وهو مطلب شرعي لازم، بل يرتقي إلى الوجوب –وقاية وعلاجا- إذا خاف الإنسان على نفسه الهلاك، فيستطب الإنسان ويبحث عن الأدوية الملائمة لعلاج الداء باستشارة أهل الخبرة والتخصص، دون إغفال أدوية روحية يغفل عنها الكثير من الناس؛ ذلك أن من الداء ما يعجز الطبيب عن علاجه ولا يعرف له دواء، ووباء "كورونا" الذي حل بالأمة هذه الأيام خير شاهد على ذلك، والشريعة قد نصت على ما تدفع به البلايا من أدوية مادية وروحية، ومن أقوى ما يدفع ذلك التضرع إلى الله عز وجل بالتوبة والذكر، والدعاء، والاستغفار، والصدقة، وقراءة القرآن، فإنه "يستنزل بذلك من الأرواح الملكية ما يقهر هذه الأرواح الخبيثة، ويبطل شرها ويدفع تأثيرها …، وهذا يكون قبل استحكامها وتمكنها، ولا يكاد ينخرم، فمن وفقه الله، بادر عند إحساسه بأسباب الشر إلى هذه الأسباب التي تدفعها عنه، وهي له من أنفع الدواء، وإذا أراد الله عز وجل إنفاذ قضائه وقدره، أغفل قلب العبد عن معرفتها وتصورها وإرادتها، فلا يشعر بها ولا يريدها، ليقضي الله فيه أمرا كان مفعولا" (الطب النبوي، ابن القيم، ص: 32). وقوى التضرع إلى الله، وطلب شفائه فوق قوى الأدوية، وهي تبطل قوى السموم القاتلة؛ كما ثبت ذلك فيمن رقاهم النبي صلى الله عليه وسلم، ونص على ذلك غير واحد من أهل العلم. جنبنا الله الشرور والآثام ودفع عنا الضر والبلاء، إنه ولي ذلك والقادر عليه.