هوية بريس – السبت 31 غشت 2013م في ظل الأحداث الراهنة التي تكتنف أمتنا الإسلامية، وتشد عليها الخناق -حيث ألفنا رؤية الدماء المسالة والأشلاء الممزقة، والضرب والجرح والهرج، والضعف والهوان، والتشتت والتفرق والتشرذم، والتنابز والتباز، والتنكيل والتمثيل، والحبس والتضييق، والطرد والتشريد، والقمع والتشويه.. في هذه الظروف الشديدة والجو المُقْمَطِرِّ؛ ضاقت الأرض على كثير منا بما رحُبت، فيئس البعض، وأحبط الآخر، وارتد أقوام عن عقائدهم، إما حقيقة وإما واقعا وإما فكرا، وتهجم الشك والريب على قلوب كانت تتصنع اليقين، وانعزل كثير من الخائفين ينتظر دوره على قوائم المذبحين، أو المعتقلين أو المطرودين أو المنبوذين، فانزاح يبكي ويشتم الظُّلام، ويتعوذ من مكائد المؤامرة، ومِن تسلط الجبابرة، ويرى أن لا مخرج للأمة من هذا المأزق المهلك، فيظل يردد ويقول: "هلك الناس هلك الناس، وما بقي إلا خروج الدجال"!! في ظل هذا كله، تجد أناسا ما ازدادوا إلا إيمانا بالحق، ويقينا بالنصر، لم يغمضوا أعينهم ينتظرون رصاصة الرحمة، ولم يستغيثوا بالعدو الغادر، ولم يتنازلوا عن مبادئهم، ولم يسلموا ولم يستسلموا، ولم يستثقلوا الواقع -وإن آلمهم- ولم يعتزلوا الناس، ولم يتباكوا مثل تباكي النساء، (وفي نساء المسلمين ما يرفع الجبين)؛ فما كعَّ منهم أحد، ولا خضع ولا خنع ولا ركع، بل ظلوا معتدلي القامة ومرفوعي الهامة، ممسكين بالهدى ومتمسكين باليقين، يعضون عليه بالثنايا والأضراس، فما زادوا عدوهم إلا غيضا، فشككوه في باطله الذي معه، وقذف الله بهم في قلبه الرعب والمهانة؛ فتلكم الفئة القليلة من الشرذمة المستضعفة، هي الثلة المؤمنة حقا، وهي الفئة الصادقة في الإدعاء، وهي الطائفة المختارة، وهي المعدن الصافي، الذي قل أن تراه في زمان الناس هذا، وذلك أن لله في خلقه سننا، وله في عباده نواميس وضعها لا تتخلف ولا تتبدل، بها يتمايز الناس (وإن كان الله بهم عليما وبحالهم خبيرا)، وهذا من تمام عدل الله وحكمته، إنها الفئة التي تقول إذا اشتدت الظلمات وطغت الكربات، وغلقت الأبواب دون الناظرين، واستطال عليها البلاء، وعظم الخطب، واستشرى فيها العزل والقتل والتنكيل والإذلال، قالوا: {هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله }، وهي التي إذا قيل لها: اجتمع الكفار عليكم، وتحالف العلمانيون ضدكم، وتكاثفت الدول لسحقكم؛ ازدادوا إيمانا ورددوا: {حسبنا الله ونعم الوكيل }، فيسلمون من الكيد والعدوان، إما دَماً وجسداً في الدنيا، وإما مصيرا بين يدي من جعلوه حَسْبَهم، وتعبدوا ربهم قائلين: ربنا هو الكفيل، وربنا هو الوكيل، وربنا هو الحسيب، وربنا هو النصير، الله مولانا ولا مولى لهم. ألا وإن من حِكم الله في الفتن أن يميز الخبيث من الطيب، والصادق من الكاذب، وأهل الدعاوى العريضة من أهل العمل، {وما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب}، وها نحن نرى ونسمع كيف يحدث هذا ونلمسه ونوقن به، حتى أصبحنا نقول: من لنا بذي الوجهين!! فما عدنا نستطيع إحصاء وجوه ذي وجه، فلعنهم الله كما لعنهم رسوله: (لعن الله ذا الوجهين). وبهذا أيضا تحصل سنة الدفع {ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز} (الحج 40)، وبهذا يحصل الاصطفاء {ويتخذ منكم شهداء}، فيُشرف الله أقواما ويُرقيهم لنيل هذه الكرامة التي يتمناها كل مؤمن صادق، وكل تقي مخلص، فاللهم اجعلنا منهم، بفضل منك ومِنَّة. ولو تأمل التاريخَ متأملٌ، لعلم من خلال اطلاع يسير أن ما تمر به الأمة الآن، في بعض جوانب الفتن والمحن، أهون بكثير مما مر عبر التاريخ، ولرأى أن النصر في ظلمات تلكم الأيام كان أبعد مما هو عليه اليوم، ورغم ذلك انتصر الحق وأهله، فليلتفتْ أهل الريب والشك للوراء، وليقيسوا الأيام فيما بينها، ليستدلوا بما كان على ما لم يكن، فإن الأيام اشتباه، ليعلموا أن الحق منصور لا محالة، و أن الباطل زاهق لا شك، إنما هي حِكمٌ يعلمها القليل من عباد الله الموفقين. نعم، قد يشك المؤمن في كثير من الأشياء الواقعة حوله، والتي يُسلَّم بها عقلا وواقعا، ولكن لا يساغ له أن يشك في حصول النصر، لأن ذلك من العقائد التي لا يمكن التساهل فيها، ثابت نبؤها عندنا، بالنص القاطع والبرهان الساطع، ولكن طبيعة الإنسان تقتضي العجلة والتسرع والقنوط، فجُعل هذا من صور البلاء، التي بها يحصل الاصطفاء، ومثاله ما قال بنو إسرائيل لما اتبعهم فرعون وجنوده واعترضهم البحر، قالوا متحدثين بطبيعة الإنسان الغالبة عليه: {إنا لمدركون}، فأجابهم النبي الموقن بنصر الله: {كلا إن معي ربي سيهدين}، فكان الله عند ظن عبده موسى، فتمايزتْ بذلك درجات الناس، وهذا المثال يكاد يتجسد اليوم في واقعنا، فالتاريخ يعيد نفسه كما يقال. أيها المسلمون، شرفنا أننا عباد لله، ويقيننا في موعوده راسخ، فليُبدأ العمل، ولتتكاثف الجهود، لعلنا نكون من هؤلاء المختارين، الذين يستعملهم الله، فيعظُمَ لنا القدر، وتُرفع لنا المنزلة والمكانة، أما تحقق النصر فهذا شيء مفروغ منه، كل منا بما يستطيع، ولا يحقرن أحد من المعروف شيئا، وإياكم والردة عن العقيدة الصحيحة التي تعبدتم الله بها دهرا، { يا أيها الذين آمنوا من يرتدد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يوتيه من يشاء والله واسع عليم}، استيقنوا مهما استطال البغي والأذى: {إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين}، ولا تكونوا من الذين انهزموا وما اقتحموا، ولا ممن تولى، {وإن تتولو يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم} (محمد:38)، فاللهم استعملنا ولا تستبدل بنا؛ وفي الختام أقول لكم: إن النصر قريب، فشاركوا في تحقيقه.