أشرقت حياة صديق لي بميلاد طفلة جميلة كان يمنّي النفس أن يسميها حنة، لكنه خسر في النهاية، وابتسامة على محياه البشوش، "معركة" اختيار الاسم. تيمنا ب"حبيبته"، كما يقول عنها دائما، حنة آرندت، كان يود أن يسمي ابنته باسمها الشخصي. تحمل البنت اليوم اسما آخر، وهو اسم جميل أيضا. لا ريب في أن صديقي هذا سيكون سعيدا لو أن ابنته اختارت نفس الطريق، طريق الفلسفة، الطريق الشاق والطويل، والذي لا يقود إلى أي مكان معلوم، ويستمد سعادته من شقائه. مما يجعل تلك السعادة أصيلة. كل ما يمكن أن يشكل تعريفا بحنة آرندت يظل في النهاية قصيرا، وقاصرا، ولا يمكنه بأي حال من الأحوال أن يطول قامتها أبدا. أنتَ تعرفها، وقد سبق لكَ أن اشتغلت على نصوص لها تهم بالأساس موضوعي التوليتارية وتفاهة الشر، وشاهدتَ فيلما يتناول جانبا مهما من حياتها، بيد أن الشغف يأخذك، مرة أخرى، إلى معرفتها أكثر. تحاول أن تقترب منها ما أمكنك ذلك. تتخذ سبيلا آخر إليها غير كتبها. تتوسل برسائل تبادلتها على امتداد نصف قرن مع مارتين هايدجر. نعم، نصف قرن كامل، من سنة 1925 إلى سنة 1975. شكلت الرسائل حدثا مهما إبان صدورها، ولم يخفت صداها أبدا. وقد ترجمت إلى لغات متعددة، كما استلهمت منها أعمال أدبية وفنية كثيرة. سبق لكَ، قبل سنوات، أن قرأت الكتاب مترجما عن الألمانية، ترجمة حميد لشهب، وتعيد قراءته من أول رسالة إلى آخر رسالة، دون أن تستثني، لهذا السبب أو ذاك، أي واحدة. بمجرد ما تنهيه تجد نفسك تتساءل: هل كان من الممكن لحنة آرندت أن تكون هي نفسها آرندت التي نعرفها اليوم لولا لقاؤها بهايدجر؟ ما هو أكيد هو أن هذه الرسائل لم تكن رسائل حب فقط، وإنما تعددت مواضيعها وتنوعت. ومن خلالها نستطيع أن نرسم صورة عن الحياة اليومية الروتينية للمفكرين، مرورا بتفاصيل حياة الإنسان الأكاديمي، ووصولا إلى سوق النشر والكتاب. والأهم من كل ذلك يمكن لتلك الرسائل أن تكون مفتاحا لفهم مغاليق فلسفتهما لمن له الإرادة والقدرة على الغوص في أعمالهما. فتلك الرسائل، في جانب منها على الأقل، ترصد فكرهما وهو في طور الاشتغال. لم تكن آرندت المرأة الأولى في حياة هايدجر، ولم تكن كذلك المرأة الوحيدة. فقد كانت له، كما هو معروف عنه، علاقات نسائية كثيرة. وعلى الرغم من ذلك فقد كان لقاؤهما الأول مؤثرا إلى حد جعل هايدجر يعتبره "هدية". وقد ظل لهذا اللقاء أثرا قويا في حياتهما اللاحقة. يبدو أنه حصل بينهما تجاذب جسدي، وتعالق روحي، وتوافق فكري. هذا الحب بأبعاده الثلاثة هو الذي جعل علاقتهما تستمر طويلا وتثمر كثيرا، على الرغم من كل الاختلافات التي كانت بينهما. تبدو آرندت في رسالتها الأولى، وهي لم تصل بعد إلى سن العشرين، طالبة قلقة، وخجولة، وعميقة، وتوّاقة إلى معرفة ذاتها والعالم من حولها. كما أنها كانت، كما يشهد على ذلك هايدجر نفسه، ذات شكل جميل وحضور لافت. وبكل هذا فقد شغفته حبا. وهو ما تظهره توقيعاته، إذ كان يوقّع رسائله إليها في البداية بالحرفين الأولين من اسمه (م.ه)، أو باسمه الشخصي (مارتين)، قبل أن يعلن انتماءه إليها (مارتينك). وفي إحدى الرسائل المبكرة بينهما يؤكد لها، بشكل صريح ومباشر، على أنه لها كليا. من خلال رسائلهما نعرف الكثير عن تفاصيل حياتهما. نعرف مثلا أن هايدجر كان رجلا منعزلا، يحب الشعر ويقرضه، ولا يقرأ الجرائد إلا نادرا، وغير مهتم بالسياسة، وله قدرة كبيرة على التعلم باستمرار، وتضايقه الزيارات إلا زيارة حنة له، فقد كان يسعده حضورها. فكل لقاء معها لا يكون إلا جميلا. ولذلك تجده ينتظره دائما بفرح كبير. وحتى عندما لا تأتي فهي تظل قريبة منه مهما كانت المسافة الفاصلة بينهما كبيرة. ونعرف أن حنة كانت إنسانة اجتماعية أكثر، ولها شبكة علاقات كبيرة، وكثيرة الأسفار، وتجد شيلينغ أصعب من هيجل، وميرلوبونتي أهم من سارتر، وتعترف بأنها تدين لأستاذها بالشيء الكثير. فعلى يديه تعلمت التفكير. وهي تجلّه، وتقدّره، وتسعى باستمرار لتقديم كل ما يمكنها تقديمه له بفرح ودون منّ أو شكوى. وقد كانت تشبّهه بالقرصان، وبالثعلب صاحب المصيدة. كان هايدجر مهتما كثيرا بحنة وبأعمالها. كان يفتح أمامها الطرق الصعبة بتوجيهاته وكتبه وقراءته التي يمدّها بها، ويسأل باستمرار عن المواضيع التي تشغلها، ويناقشها، ويجيب عن أسئلتها. وعندما تتعب وتيأس وتحزن تجده إلى جانبها يواسيها. وقد كان يشجعها، دون كلل أو ملل، على المضي قدما في أعمالها، وعلى تجاوز الصعوبات وخيبات الأمل. لقد ظلت آرندت "قوة فاعلة" ليست في حياة هايدجر فقط، وإنما في فكره أيضا. وهذا ما يؤكده بنفسه بطرق مختلفة في غير ما موضع في الرسائل. بدأت العلاقة بينهما جميلة، وقد وطدتها الرسائل والزيارات واللقاءات، وحافظت على جمالها حتى النهاية. وكان من الطبيعي أن تتغير أولويات حياتهما، وانتظارات كل واحد منهما من الآخر مع مرور الوقت. مثال ذلك أنه مع تقدمهما في العمر لم تعد تلك العلاقة تقتصر عليهما فحسب، وإنما أضحت تضم إلى جانبهما كلا من زوج أرندت وزوجة هايدجر. كما أنها أصبحت، لا سيما في الأخير، علاقة عملية أكثر، وأضحت تنصّب أساسا على موضوعي النشر والتسويق. في النهاية، ماتت حنة آرندت. وفقدت الكلمات، في نظر هايدجر، قيمتها ووزنها. فالحزن الكبير يفتقر إلى الكلمات، ولا يليق به إلا الصمت، بل إن الصمت يجعله جميلا. يختم هايدجر كلامه بعد رحيل حنة بقوله في إحدى رسائله: "لم يبق لنا إلا الحزن والتذكر". تنهي الكتاب وتفتحُ كتبا أخرى كثيرة شبيهة به. رسائل سيمون دوبوفوار وجون بول سارتر، ورسائل سيمون دوبوفوار إلى نيلسون آلغرين، ورسائل سيغموند فرويد ولو أندرياس-سالومي، ورسائل كافكا إلى ميلينا، ورسائل فلاديمير نابوكوف إلى فيرا، ورسائل مي زيادة وجبران خليل جبران، ورسائل نابليون إلى جوزفين... إلخ. لا تملك إلا أن تنبهر في كل مرة. فعلى سبيل المثال لا الحصر تجد نابليون، والذي ظل يعيش باستمرار على حافة الموت وما أن ينهي معركة حتى يبدأ أخرى، يكتب لجوزفين رسائل رائعة حقا، وبلغة مفعمة بالمشاعر، يقول في إحدى تلك الرسائل: "أستيقظ وأنا ممتلئ بك". فهل كان قائدا عسكريا يسكن أعماقه شاعر؟ أم أنه كان شاعرا في ثوب قائد عسكري؟ في جميع الحالات، لا ريب في أن من بين أهم ما يشجع على قراءة رسائله، وغيرها من الرسائل، هو قيمتها الجمالية، والتاريخية، وما تحويه بين طياتها من أبعاد وقيم إنسانية.